إشكالية التداخل المشتِت

في مرة تساءلت: نحن نقضي يومياً مع الأصدقاء -عبر الفضاء الافتراضي- ربما نفس الفترة أو أقل قليلا- التي كان يقضيها أهلونا وأجدادنا سابقا مع أصدقاءهم وجيرانهم وذويهم.
ولكننا رغما عن هذا لا نشعر بالألفة ولا بسعادة اللقاء, التي يخرج بها المرء بعد لقاء وسمر مع قريب أو صديق.

ثم انتبهت إلى أن المشكلة الكبرى التي نعاني منها هي:
التداخل وانتهاء “العزل”!
فلم يعد يحدث كل شيء بالتوالي وإنما أصبحت الأشياء تحدث بالتوازي … متقاطعة!
(لا أنكر بداهة وجود أسباب أخرى تؤدي إلى غياب السعادة, مثل غياب التواصل والحضور الجسدي المباشر, وعدم الانغماس في الطبيعة .. الخ, ولكني أركز هنا على سبب رئيس هو محور كتابتي)

وأوضح فأقول:
قديما كان الإنسان يذهب إلى العمل, ثم ينتهي العمل فيعود إلى البيت, فيقضي فيه فترة, قد يستمع فيه للراديو أو يشاهد التلفاز, ثم مثلاً يذهب إلى المسجد لفترة قصيرة, ثم قد يخرج للقاء أصدقاءه أو لزيارة أقاربه ويجلسون يتسامرون لفترة ثم يعود لمنزله, ليخلد إلى النوم ثم يبدأ يوم جديد بما فيه من الأحداث المتوالية.

الآن انتهى العزل, وتداخلت كل الأمور, فأنت تكلم أصدقاءك وأنت تعمل!
وقد تشاهد -أو تستمع- لبرنامج وأنت تكتب “مشاركة/ بوست” على موقع من مواقع التواصل.
وأنت تنهي العمل ولكنه لا ينتهي, فهو يصاحبك إلى المنزل, فترد على رسائل واتصالات متعلقة بالعمل, ولزام عليك أن تنجز بعض الأمور المتعلقة بالعمل في المنزل!!
فتكون مع زوجتك وأولادك ولست معهم في نفس الوقت.
وعندما تخرج للقاء أصدقاءك تأخذ هاتفك معك
وبينما أنت تحدثهم تقوم بإخراج هاتفك ومشاهدة مقطع “ما”!
أو تقوم بالرد على أحدهم! أو بوضع علامة “ضحك” على بوست ما!

وهكذا أصبحنا نقوم بأشياء كثيرة في عين الوقت!
وهكذا لم يعد الجسد يستطيع أن “يفرز/ ينتج” شعورا ما يتناسب مع الموقف, وذلك لأنه لا يوجد موقف واحد يعيشه الإنسان, فلا هو في موقف عمل ولا هو في موقف راحة ولا موقف تواصل مع الآخرين!
وإنما كل شيء ولاشيء في عين الوقت.

وهكذا فقدت الأمور معناها ومذاقها ولذتها وبهجتها, وأصبح الإنسان يعيش في شتات مؤلم .. يسبب له كثيراً من المعاناة.
والحل في منظوري
أن نعود مرة أخرى إلى النظام القديم
“نظام العزل”
بحيث نؤدي كل شيء بمفرده في وقته, ولا ندخل فيه غيره إلا في حالة الضرورة القصوى
ساعتها .. بإذن الله سيعود بعضٌ من “طعم الحياة” الذي نفتقده!

الفلسفة_التسييقية

العودةإلى العزل

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

الجزء الثاني من لقاء الأستاذ عمرو الشاعر ومناقشة كتاب نشأة الإنسان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.