الفرق بين النفس والروح

ما الفرق بين النفس والروح؟

لما لم يعتمد السابقون القرآن مرجعا لتحديد معاني الكلمات حدث هذا الاختلاف, ووجدنا ولكل عجب من يقول أنهما شيءٌ واحد, على الرغم من أن القرآن واللسان العربي يفصلان بينهما ببون شاسع, وذلك لأنه وردت بعض الروايات التي تتحدث عن الروح في المواطن التي يتحدث فيها القرآن عن النفس, كما أنها جعلتها سبباً للحياة لذلك خلطوا بينهما!
لذا ننظر في كتاب الله العزيز لنفك خيوط هذا الاشتباك, لنبين أن النفس شيء والروح شيء آخر, وإن كان هناك علاقة بينهما.

إذا نظرنا في كتاب الله العزيز وجدنا أن كلمة “روح” قد وردت اثنتين وعشرين مرة, بصيغة المفرد, فلم تستعمل مثناة أو مجموعة, ولم تستعمل مضافة إلا مع الله, كما في قوله: “روحه” “روحنا”, فلم يضفها قط إلى البشر فيقول: روحك, روحكم, أرواحكم
أرواحهم, روحها …. الخ
بينما أتت النفس مفردة ومجموعة على صيغتي جمع, فجُمعت على أنفس ونفوس! كما أنها أتت مضافة إلى الله كما في قوله”
وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ [آل عمران : 28]”, وأتت مضافة إلى البشر بأشكال عدة, منها: هم في الجمع: أنفسهم, و: كم, أنفسكم, والكاف: نفسك ….. الخ.

ويمكننا أن نخرج من هذه المقارنة بأن الروح شيء متعلق بالله القدير, لأنه لم يستعمل إلا مفردا ومضافا إلى الله, ومن ثم فهو مثل النور, فالنور واحد من الله فقط, وليس هناك أنوار! لذا لا يمكننا أن نجمعه ونقول “أرواح”, بينما من الممكن أن نستعمله منكرا. بينما النفس ليست شيئا مرتبطاً بالله فقط!

فإذا نظرنا في الآيات التي وردت فيها كلمة روح, وجدنا أن الكلمة وردت في آيتين فقط بفتح الراء “رَوح”, وهما قوله تعالى:
يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف : 87]
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الواقعة : 89]
بينما جاءت في الآيات العشرين الأخرى بضم الراء “رُوح”, مثل قوله:
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ [غافر : 15]

 فإذا نظرنا في لسان العرب بحثا عن الكلمة وجدنا عجبا, وذلك لأن الأكثرية الساحقة للمعاني التي ذكرها هي ل “رَوح” بفتح الفاء وليس بضمها, بينما المعاني القليلة التي ذكرها ل “رُوح” بضم الفاء مأخوذة من القرآن, تبعاً لأفهام المفسرين, ولا جامع لها, ومن ثم يمكننا القول أن العرب لم تكن تعرف “الرُوح”, وإنما كانت تعرف “رَوح”, فإذا نظرنا في أبرز المعاني التي ذكرها ابن منظور في اللسان ل “رَوح”, وجدناه يقول:
“….
وقوله تعالى: فَرَوْحٌ ورَيْحان أَي رحمة ورزق؛ وقال الزجاج: معناه فاستراحة وبَرْدٌ، هذا تفسير الرَّوْح دون الريحان؛ وقال الأَزهري في موضع آخر: قوله فروح وريحان، معناه فاستراحة وبرد وريحان ورزق ………. فَرَوْحٌ فمعناه: فاستراحة، …… قال: وقد يكون الرَّوْح بمعنى الرحمة؛ قال الله تعالى: لا تَيْأَسُوا من رَوْح الله أَي من رحمة الله؛ سماها رَوْحاً لأَن الرَّوْحَ والراحةَ بها؛ ………….. والرَّوْحُ أَيضاً: السرور والفَرَحُ، واستعاره عليّ، رضي الله عنه، لليقين فقال: فباشِرُوا رَوْحَ اليقين؛ قال ابن سيده: وعندي أَنه أَراد الفَرْحة والسرور اللذين يَحْدُثان من اليقين. التهذيب عن الأَصمعي: الرَّوْحُ الاستراحة من غم القلب؛ وقال أَبو عمرو: الرَّوْحُ الفَرَحُ، والرَّوْحُ؛ بَرْدُ نسيم الريح. الأَصمعي: يقال فلان يَراحُ للمعروف إِذا أَخذته أَرْيَحِيَّة وخِفَّة. ……… الليث: راحَ الإِنسانُ إِلى الشيء يَراحُ إِذا نَشِطَ وسُرَّ به، وكذلك ارتاحَ؛ وأَنشد: وزعمتَ أَنَّك لا تَراحُ إِلى النِّسا، وسَمِعْتَ قِيلَ الكاشِحَ المُتَرَدِّدِ والرِّياحَة: أَن يَراحَ الإِنسانُ إِلى الشيء فيَسْتَرْوِحَ ويَنْشَطَ إِليه. والارتياح: النشاط. ….. ” ا.هـ

فإذا نظرنا فيما ذكره ابن فارس في المقاييس وجدناه يقول:
” الراء والواو والحاء أصلٌ كبير مطّرد، يدلُّ على سَعَةٍ وفُسْحَةٍ واطّراد. وأصل [ذلك] كلِّه الرِّيح” ا.هـ
لذا يمكننا القول أن الرَوح هو انكشاف الضيق والغم وذهاب المشاعر السيئة وحلول أحاسيس طيبة, -وهذا مرتبط بالريح التي تذهب الحر بالدرجة الأولى وتشعر بالبرد وتلطف الحال, لاحظ أن رح عكس ح ر, فهذا مبطل لذاك- ونتذكر أن المرح والاستراحة من ال رح كذلك, فالمرح ذهاب الضيق والحزن, والاستراحة ذهاب التعب … وهكذا!

فإذا نظرنا في المعنى الذي ذكره ابن منظور ل “رُوح” بالضم, وجدناه يقول:
“والرُّوحُ، بالضم، في كلام العرب: النَّفْخُ، سمي رُوحاً لأَنه رِيحٌ يخرج من الرُّوحِ؛ ومنه قول ذي الرمة في نار اقْتَدَحَها وأَمر صاحبه بالنفخ فيها، فقال: فقلتُ له: ارْفَعْها إِليك، وأَحْيِها برُوحكَ، واجْعَله لها قِيتَةً قَدْرا, أَي أَحيها بنفخك” ا.هـ
وما عدا ذلك من الأمثلة فمأخوذ من القرآن, وهذا المعنى لا يمكن إسقاطه على الروح المذكور في القرآن, فلا يمكن أن يقال: نفخت فيه من نفختي! أو نزل به النفخ! ومن ثم فعلينا أن ننظر في القرآن لنبصر, هل أصاب السابقون فيما قالوه حول الروح:

الناظر في تصورات المسلمين للروح يجد تصورات عدة, إلا أن أشهر التصورات هو تصورها كشيء أقرب إلى الشبح, موجود بداخل كلٍ منا, وهذه الروح هي سر وسبب الحياة, فلما نُفخت في الإنسان أصبح حيا, وإذا خرجت مات الإنسان! وكذلك إذا فسد العضو أو بُتر خرجت منه الروح!

ومن أشهر التعريفات للروح ما قدمه الإمام ابن القيم في كتابه: الروح! والذي قال فيه أن الروح هو:

“جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس, وهو جسم نورانى علوي خفيف حي متحرك, ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم, فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكا لهذه الأعضاء, وأفادها هذه الآثار من  الحس والحركة الإرادية, وإذا فسدت هذه الأعضاء, بسب استيلاء وخرجت عن قبول تلك الآثار, فارق الروح البدن وانفصل إلى عالم الأرواح” ا.هـ

والسواد الأعظم من المسلمين لا يفرقون بين النفس والروح, فيقولون أن الله يستعمل النفس في مواطن استعمال الروح! ولست أدري أهم أعلم أم الله! أم لأن الروايات فعلت فيكون الله قد فعل كذلك؟!
ولا يقتصر الأمر على أقوال العوام وإنما يمتد إلى المعاجم اللغوية, فنجد ابن منظور يقول عند تناوله كلمة “نفس”:
“النَّفْس: الرُّوحُ، قال ابن سيده: وبينهما فرق ليس من غرض هذا الكتاب، قال أَبو إِسحق: النَّفْس في كلام العرب يجري على ضربين: أَحدهما قولك خَرَجَتْ نَفْس فلان أَي رُوحُه، وفي نفس فلان أَن يفعل كذا وكذا أَي في رُوعِه، والضَّرْب الآخر مَعْنى النَّفْس فيه مَعْنى جُمْلَةِ الشيء وحقيقته، …..” ا.هـ
ولست أدري أين استعمل العرب النفس بمعنى الرُوح, إنهم لم يستعملوا الروح بالمعنى الوارد في القرآن, وحتى لو استعملوه فمن أخبرهم أن العرب يقولون هذا ويعنون شيئا آخر!!

إن الناظر في القرآن يجد أنه يستعمل “النفس” دائما,عند الحديث عن النوم أو الموت, مثل قوله تعالى: “اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر : 42]”

فالتي تُقبض عند الموت وأثناء النوم هي النفس, إلا أن العلماء يصرون على جعلها بمعنى الروح!!

والقرآن لم يذكر “الروح” قَط عند حديثه عن الموت أو الحياة, ومن يقل بذلك, فليخرج لنا أين قال القرآن ذلك! والرسول الكريم كذلك كان يقسم دوما فيقول: “والذي نفس محمد بيده”, ولم يقل: والذي روح محمد بيده! وكذلك العرب كانوا يقولون: خرجت نفس فلان! ولم يقولوا: خرجت روح فلان!

ونبدأ في عرض الآيات التي تحدثت عن الروح في القرآن الكريم, ليعلم القارئ الكريم أن ما يقال حولها, ليس له أي علاقة بالروح الوارد في القرآن:

أشهر آية ورد فيها كلمة “الروح” هي قوله تعالى: “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء : 85]”

والتي يستدل بها أصحاب الرأي التقليدي على أن الروح سر من أسرار الله, ومن ثم فلا ينبغي علينا البحث فيها أو حولها, لأننا لن نصل إلى جواب مقنع حولها, لأنها أعلى من مداركنا البشرية المحدودة! لذا ننظر في باقي الآيات التي ورد فيها “الروح” لنبصر, هل أصابوا فيما قالوا أما فاتهم الصواب:
الناظر في هذه الآية يجد أن الرب العليم قد رد بقوله: قل: الروح من أمر ربي, فهل هذا يعني أن الروح سر غامض غير مفهوم؟

لا, فهذه التركيبة وردت في آيات أخرى تتحدث عن الروح, والذي هو الوحي, تقول أنه من أمر الله, فالله تعالى يقول:

يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ [النحل : 2]
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى : 52]
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ [غافر : 15]

فهذه الآيات تقول كلها أن الروح من أمر الله, والروح هنا هو الوحي, فيكون كذلك المذكور في آية الإسراء هو الوحي! لا أن الله يقول أن الروح –الغير- موجودة في الإنسان سر لا يمكن الوصول إليه!! إلا أنه لما وردت بعض الروايات المغلوطة المزعومة في سبب نزول الآية فهموها كما قالت الروايات, فمما ورد بهذا الشأن ما جاء منسوبا إلى ابن عباس:

قال عكرمة عن ابن عباس: قالت قريش لليهود : أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فنزلت هذه الآية.
وقال المفسرون: إن اليهود اجتمعوا فقالوا لقريش حين سألوهم عن شأن محمد وحاله:
سلوا محمدا عن الروح، وعن فتية فقدوا في أول الزمان، وعن رجل بلغ شرق الارض وغربها، فإن أصاب في ذلك كله فليس بنبي، وإن لم يجب في ذلك فليس نبيا، وإن أجاب في بعض وأمسك عن بعضه فهو نبي فسألوه عنها، فأنزل الله تعالى في شأن الفتية – أم حسبت أن أصحاب الكهف – إلى آخر القصة , ونزل في الروح قوله تعالى – ويسألونك عن الروح – .” ا.هـ .

فلقد فهم هؤلاء أن القرآن لم يجب عن سؤالهم عن الروح, ومن ثم اختلقوا روايات لجعل ذلك من علامات نبوته!! كأن كون الروح سر غامض عند كل الأديان أمر متفق عليه, أما نحن فنقول أن الله تعالى أجاب سؤالهم, وقال لهم أن الوحي الذي أوحي إلى محمد هو من أمر الله, كما نزل على سابقيه من الأنبياء, وأننا ما أوتينا من العلم إلا قليلا, فعلومنا ليست كافية بحال للإتيان بمثل هذا القرآن.
كما أن الآيتين التاليتين تؤكدان هذا القول, فالله العليم يقول بعد ذلك: “و َلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً [الإسراء : 86] …..
قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء : 88]”
فالله يقول أن الروح من أمر الله ولئن شاء لذهب به فهو ليس من عند محمد ولا يستطيع أن يفعل شيئا حيال ذلك, ثم يعود فيؤكد قلة علمنا بقوله أننا كلنا لو اجتمعنا على الإتيان بمثل هذا القرآن لن نأتي بمثله ولو كان بعضنا لبعض ظهيرا, وهذا دليل على أنه من أمر الله وليس من عند محمد!
فكما رأينا فالسياق يقول أن الروح هنا الوحي وليس شيئاً داخل الإنسان!

فإذا تركنا الآيات التي كان الروح بمعنى الوحي المنزل من الله, ونظرنا في آيات أخرى, وجدنا أنها تتعلق بالملائكة, وهذه الآيات هي قوله تعالى:

“نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء : 193]”

والروح الأمين هو جبريل بلا خلاف, وفي هذا يقول الإمام الفخر الرازي:

“والروح الأمين جبريل عليه السلام, وسماه روحاً من حيث خلق من الروح، وقيل لأنه نجاة الخلق في باب الدين فهو كالروح الذي تثبت معه الحياة، وقيل لأنه روح كله, لا كالناس الذين في أبدانهم روح, وسماه أميناً لأنه مؤتمن على ما يؤديه إلى الأنبياء عليهم السلام، وإلى غيرهم[1].” ا.هـ

وقوله تعالى: “تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج : 4]”, ولقد لاحظ الإمام الفخر الرازي -عند تناوله للآية- ملاحظة طيبة, فقال:

“المسألة الأولى: اعلم أن عادة الله تعالى في القرآن أنه متى ذكر الملائكة في معرض التهويل والتخويف أفرد الروح بعدهم بالذكر، كما في هذه الآية، وكما في قوله: “يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً” [ النبأ : 38 ] وهذا يقتضي أن الروح أعظم من الملائكة قدراً[2].” ا.هـ

وقوله تعالى: “يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً [النبأ : 38]”, وما نحتاجه من هذه الآية هو قوله تعالى: “صفا”, حيث نجد الإمام الفخر الرازي قد قال عند تعرضه للآية:

“أما قوله: “صَفَّا” فيحتمل أن يكون المعنى أن الروح على الاختلاف الذي ذكرناه، وجميع الملائكة يقومون صفاً واحداً، ويجوز أن يكون المعنى يقومون صفين، ويجوز صفوفاً، والصف في الأصل مصدر فينبىء عن الواحد والجمع، وظاهر قول المفسرين أنهم يقومون صفين، فيقوم الروح وحده صفاً، وتقوم الملائكة كلهم صفاً واحداً، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم.[3]” ا.هـ

وآخر آية ذُكر فيها “الروح” هي قوله تعالى: “تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ [القدر : 4]”.

 ولقد اختلف المفسرون بشأن الروح المذكور في هذه الآيات, إلا أن الإمام الفخر الرازي جمع أقوال المفسرين حول الروح, فقال:

“ذكروا في الروح أقوالاً؛ أحدها: أنه ملك عظيم، لو التقم السموات والأرضين, كان ذلك له لقمة واحدة. وثانيها: طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا ليلة القدر، كالزهاد الذين لا نراهم إلا يوم العيد.

وثالثها: خلق من خلق الله يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من الإنس، ولعلهم خدم أهل الجنة. ورابعها: يحتمل أنه عيسى عليه السلام لأنه اسمه، ثم إنه ينزل في مواقفة الملائك ليطلع على أمة محمد.

وخامسها: أنه القرآن: “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا [ الشورى : 52 ]”, وسادسها: الرحمة؛ قُرىء: “لا تيأسوا من روح الله [ يوسف : 87 ]” بالرفع كأنه تعالى، يقول: الملائكة ينزلون رحمتي تنزل في أثرهم فيجدون سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.

وسابعها: الروح أشرف الملائكة, وثامنها: عن أبي نجيح الروح: هم الحفظة والكرام الكاتبون؛ فصاحب اليمين يكتب إتيانه بالواجب، وصاحب الشمال يكتب تركه للقبيح، والأصح أن الروح هاهنا جبريل. وتخصيصه بالذكر لزيادة شرفه كأنه تعالى يقول الملائكة في كفة والروح في كفة[4].” ا.هـ

وكما رأينا فلقد ذكر المفسرون احتمالات كثيرة لتفسير الروح, ليس لها أي علاقة بالروح الجسدي, وهذه الاحتمالات كلها تخمينية, إلا القول بأنه القرآن أو جبريل خاصة, فلها مستند من القرآن. والناظر في القرآن يجد أنه يسمي جبريل دوما بالروح ويستثنيه من الملائكة,  ومن ذلك قوله تعالى:

” قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ….[النحل : 102]”

“إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم : 4]”

فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً [مريم : 17]

“مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [البقرة : 98]”

ونتوقف مع الآية الأخيرة لنتساءل: لماذا عُطف جبريل وميكال على الملائكة, مع كونهما منهم؟!

فإذا نظرنا في التبرير الذي قدمه المفسرون لذلك, ومن ذلك ما قاله الإمام الفخر الرازي: “لمّا ذكر الملائكة فلم أعاد ذكر جبريل وميكائيل, مع اندراجهما في الملائكة؟ الجواب لوجهين، الأول: أفردهما بالذكر لفضلهما, كأنهما لكمال فضلهما صارا جنساً آخر سوى جنس الملائكة.

الثاني: أنّ الذي جرى بين الرسول واليهود هو ذكرهما, والآية إنما نزلت بسببهما، فلا جرم نص على اسميهما، واعلم أن هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة وإلا لم يصح هذا التأويل[1]” ا.هـ

وبعد أن رأينا هذا الإفراد يحق لنا أن نطرح سؤالا منطقيا: هل جبريل ملك أم روح؟!

قد يُذهل القارئ من السؤال, لذا نقول: تذكر أن القرآن يفرق دوما بين الملائكة والروح[2], كما أنه لم يقل قط أن جبريل ملك! وإنما يقول دوما أنه روح, ويفرق بين فعله وبين فعل الملائكة! فإذا أقررنا أن جبريل روح, يظهر السؤال التقليدي: ما هو الروح إذن؟

الذي يظهر من الآيات أن الروح أعلى من الملائكة, ولكن هل هو خلق مخالف تماما لطبيعة الملائكة, أم أنه صنف من أصناف الملائكة ويختلف عنهم في كثير من السمات والقدرات[3], لذلك سُمي روحا وذُكر معهم؟!  لا يمكننا الإجابة إلا ب: الله أعلم, وإن كنا نميل إلى القول الثاني!

قد يقول القارئ: لا نختلف معك فيما تقول, فما قلته بشأنها قاله العلماء منذ زمن! إن الدليل الجلي على أن هناك روح في الإنسان هو الآيات التي تقول أن الله تعالى نفخ في الإنسان من روحه, والروايات التي تقول بأن الملائكة تُرسل لتنفخ الروح في الجنين!
فنقول: الناظر في كتاب الله تعالى يجد أنه لم يعرض لنفخ الروح في الإنسان إلا مع الإنسان الأول, فلم يقل أنه يُنفخ فينا الآن من الروح, وإنما كانت كل مواطن الذكر مع الإنسان الأول, كما أن الناظر في الكتاب يجد أن الروح قد نُفخت في الإنسان بعد أن صار كائنا حياً يعيش ويتناسل, فليست هي التي حولت الإنسان من تمثال من الطين إلى كائن حي! ولقد عرضنا لهذه النقطة في كتابنا: نشأة الإنسان, وبيّنا أن القرآن يؤكد أن النفخ من الروح كان بعد التناسل, فقلنا

“على الرغم من أن قوله تعالى: “إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص : 71-72]”

-والذي ذكرناه سابقا-, أكثر من كاف لهدم التصور القائل بنفخة روح في تمثال, فإنا سنذكر للقارئ الكريم مجموعة أخرى من الآيات المتتاليات, تؤكد تصورنا تأكيدا قطعيا, ولا تترك المجال إلا لمجادل عتيد خِرّيت, دءوب على الجدال, وهذه الآيات هي قوله تعالى:

“الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [السجدة : 7-9]”

وكما يرى القارئ الكريم, فالله تعالى يذكر أنه أحسن كل شيء خلقه, وأنه بدأ خلق الإنسان من طين[4], وبعد ذلك جعل نسله من سلالة من ماء مهين (وهذا يعني لا محالة أن الإنسان أصبح كائنا حيا يتناسل, وأن نسله كان فيما مضى ليس من الماء المهين, -خروج من الأرض- ثم جعل الله نسله يُنتج عن طريق الماء المهين: المني), وبعد ذلك سواه الله عز وجل ونفخ فيه من روحه (وهذا يعني لا محالة أن التسوية والنفخ من الروح كانا بعد أن بدأ الإنسان في التناسل عن طريق الماء المهين), وهذا أكبر دليل على أن وظيفة الروح, الذي نُفخ في الإنسان منه, لم تكن إعطاءه الحياة وإنما شيء آخر!

وكما رأى القارئ فلقد قمنا بقراءة الآيات كما هي, ونقدم له ما قاله المفسرون عند تناولهم هذه الآية, ليحكم بنفسه, من يلوي أعناق النصوص: عندما تعرض الإمام ابن كثير للآيات قال:

“ثم لما ذكر خلق السموات والأرض، شرع في ذكر خلق الإنسان فقال: “وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ” يعني: خلق أبا البشر آدم من طين[5] (!!)

“ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ” أي: يتناسلون كذلك من نطفة تخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة.

“ثُمَّ سَوَّاهُ” يعني: آدم، لما خلقه من تراب خلقه سويا مستقيما، “وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ” ، يعني: العقول، “قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ” أي: بهذه القوى التي رزقكموها الله عز وجل[6]” ا.هـ

وكما رأينا, فالمفسر الجليل ابن كثير يرى أن “الإنسان” المذكور في الآية هو آدم عليه السلام, ولا حرج في هذا الفهم بالنسبة للأرضية المعرفية في ذلك العصر, ثم علق على الجزء التالي تعليقا مقبولا, ولكن أن يعود فيجعل الضمير في قوله “سواه” عائدا على آدم عليه السلام فهذا ما لا يُقبل بأي حال, فالآيات ذكرت “ثم” مرتين, فقالت أن مراحل الخلق مرت كالتالي:

  1. بدْء خلق الإنسان من طين, ثم
  2. جعل النسل من ماء مهين: أي عن طريق التزاوج, وليس عن طريق الخروج أو الخلق من الأرض, ثم
  3. تسوية هذا الكائن والنفخ من الروح فيه.

 ومن ثم فعلى المتدبر أن يوجد تصوراً يُبقي الآيات على ترتيبها, لا أن ينزع الجزء الأوسط من السياق, كأنه غير موجود, ثم يجعل الحديث في الجزء الثالث عائد على الجزء الأول! ولما كان هذا الترتيب يجعل النفخ من الروح بعد بدء الحياة وليس سببا فيها, فكان لا بد أن يُخالف هذا الترتيب ويُترك, ويصبح الحرف “ثم” بلا مدلول, فهي دوما تفيد الترتيب والتراخي, ولكنها هنا لم تفد أي شيء, بل ربما أنها أفادت هنا معنى “قبل”! والإمام ابن كثير –وباقي المفسرين كذلك- لم يُلق بالاً لما يقول, كأن إلغاء معنى “ثم” وقلبها وجعلها بمعنى “قبل” أو بدون أي معنى لا يعني شيئا!  

ولقد انتبه الإمام الفخر الرازي إلى أن هذا الترتيب يقول بعكس ما يقولون به تماما, فعلّق عليه ثم التف حوله بمهارة وبراعة, فقال:

“فنقول: لا بل التفسير الثاني أقرب إلى الترتيب اللفظي فإنه تعالى بدأ بذكر الأمر من الابتداء في خلق الإنسان فقال بدأه من طين ثم جعله[7] سلالة, ثم سواه ونفخ فيه من روحه. وعلى ما ذكرتم يبعد أن يقال: “ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ” عائدٌ إلى آدم أيضاً, لأن كلمة “ثم” للتراخي, فتكون التسوية بعد جعل النسل من سلالة، وذلك بعد خلق آدم، واعلم أن دلائل الآفاق أدل على كمال القدرة كما قال تعالى: “لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ[ غافر : 57 ]”

ودلائل الأنفس أدل على نفاذ الإرادة فإن التغيرات فيها كثيرة وإليه الإشارة بقوله: “ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ …. ثُمَّ سَوَّاهُ” أي كان طيناً فجعله منياً ثم جعله بشراً سوياً، وقوله تعالى: “وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ” إضافة الروح إلى نفسه كإضافة البيت إليه للتشريف[8] ” ا.هـ

فكما رأينا فلكي يتفادى المفسرون الإشكالية جعلوا الآيات بهذا الشكل:

وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ”

وهذا الترتيب لم يذكره الله تعالى, وإنما هو من تفسيرات المفسرين! أما نحن فنأخذ الآيات كما هي, فانظر من تتبع أيها القارئ, من يُعمل الآيات كما هي, أم ذلك الذي يُقدم ويؤخر كلام الله! فهذه الآيات تخبرنا الترتيب الذي حدث عند الخلق, بدأ الخلق من طين وخروج الناس من الأرض, ثم انتقال الناس إلى مرحلة أخرى وهي مرحلة التزاوج, وانتقال النسل إلى مرحلة التكون من المني, ثم تسويته والنفخ من الروح فيه. ولو كان ما يقولون به صحيحا, لما وجد هذا الترتيب بتاتا في القرآن لأنه عكس ما هو موجود في أدمغة السادة العلماء, ولكن ها هو الدليل واضحا على أن الإنسان وجد وتناسل قبل أن يُنفخ فيه من الروح.” ا.هـ

قد يقول القائل: ربما أصبت في قولك هذا, ولكن هناك أحاديث تكلمت عن ملك ينفخ الروح في الجنين, فهذا دليلٌ على ما نقول.
فنقول: هذه الروايات لم ينتبه مؤلفوها إلى ما يقوله القرآن لذلك خالفوه مخالفة شنيعة, عرضنا لها في كتابنا نشأة الإنسان, كذلك, فقلنا:

“….. ننبه على الخطأ الكبير, الذي يقع فيه الجميع تقريبا, بحديثهم عن نفخة الروح! على الرغم من أن القرآن لم يتحدث قط عن نفخة الروح, أو نفخ الروح, وإنما يتحدث عن النفخ من الروح. ولو قال القرآن: “نفخة الروح, نفخت فيه روحي” لأصبح التصور التقليدي تصوراً سليما مقبولا, لأن الله تحدث عن ذلك, ولكن هذا لم يحدث, وإنما يذكر الله تعالى النفخ من الروح, وشتان بين الاثنين.

ونذكر للقارئ الكريم بعض[1] الآيات التي ذكر الله تعالى فيها النفخ من الروح:

“ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ …. [السجدة : 9]”

“وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا … [الأنبياء : 91]”

“وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ[2] مِن رُّوحِنَا َوصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ….[التحريم: 12]”

وكما لاحظ القارئ الكريم, فلقد نُفخ في مريم من روح الله, والذي هو جبريل كما جاء في سورة مريم –وكما جاء في الإنجيل-. وكما نُفخ في مريم من جبريل نُفخ في البشر عامة.

ونسبة الروح إلى الله نسبة تشريفية, كما يقال: بيت الله وناقة الله, ولا يجوز بحال الاعتقاد أو الظن أن الروح من الله أو أن لها أصل إلهي, أو أنه ينفخ في الناس بعضاً منها, لأن الله تعالى ليس مكوناً من أجزاء, حتى يعطي البشر بعضها, فالروح اتفاقا مخلوقة وليست من ذات الله!

وبهذا يمكننا أن نفهم النفخ من الروح على أنه إعطاء البشر شيئا من الروح –أو من طبيعته-, شيء ذو طبيعة مغايرة للمادة, ولعب هذا الشيء المنفوخ في البشر الدور الرئيس في ترقية الإنسان عن الحيوان, وجعله كائنا عاقلا مُجَرِّدا.

ولا يمكننا طبعا أن نعرف ما هو هذا الشيء المنفوخ, لأننا لا نعرف طبيعة الروح, ولكن الذي نعرفه أن الله تعالى ذكر مسألة النفخ من الروح فقط مع بعض البشر كمرحلة نهائية للتسوية, وبهذه النفخة صار البشر أناسا! ولم يذكر سبحانه نفخة الروح مع الحيوان, لذا فإن القول أن الحيوان فيه روح قول غير صحيح, -اللهم إلا إذا استعملت ويُراد بها النفس-.

فإذا قلنا أن هذا هو الروح ودوره, فكيف يحصل البشر الحاليون على الروح؟

جاء في الروايات أن الله تعالى يرسل الملك لينفخ الروح في الجنين, وذلك مثل ما رواه البخاري ومسلم:

عن أبي عبد الرحمـن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال : ( إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفةً ، ثم يكون علقةً مثل ذلك ، ثم يكون مضغةً مثل ذلك ، ثم يُرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويُؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد . فوالله الذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة)

وهذه الروايات باطلة, لأنها جعلت الملك يُرسل لينفخ الروح! وهكذا جعلت الروح كائنا مستقلا, يحمله الملك وينفخه! والقرآن يقول أن المسألة نفخٌ من الروح, أي أن الروح نفخ منه في الإنسان, والقرآن قطعي الثبوت والدلالة[3]. والعجب أنهم جعلوا نفخة الروح هذه متعددة الأدوار, فهي تارة تحول تمثالا من طين إلى إنسان (آدم)! وتارة تُنفخ في الجنين, بدون سبب واضح!

ونسأل السادة العلماء:  ما دور الروح إذن, إذا كانت الحياة قد دبت في الجنين, قبل أن يُنفخ فيه الروح؟ فعلى قولكم؛ فإن الروح يُنفخ بعد مائة وعشرين يوما, وقبل هذه الفترة تكون الحياة قد دبت في الجنين؟ فماذا ستفعل الروح إذن؟

وعلى افتراض صحة هذا الحديث فإنه مؤيد لنا فيما نقول, لأنها لم تعطي الحياة, فلا بد أنها تعطي شيئا آخر, وهو القدرة على العقل والمشاعر المجردة. وكنت فيما مضى من المتقبلين لهذه الروايات, وقلت حينها أنه بسبب اختلاف نفخة الروح في كل إنسان يختلف الناس في ذكائهم ومشاعرهم[4]. ولكن بعد النظر في كتاب الله ظهر لي أن النفخ من الروح ارتبط بالإنسان الأول فقط, وأن روايات النفخ في الجنين غير صحيحة. وهنا يطرح سؤالٌ نفسه, وهو:
كيف انتقل المنفوخ من الروح إلى الأجيال التالية, بعد الجيل الأول؟

نقول: هناك من اجتهد –في فهم الروح- فقال أنها الأوامر الإلهية, وكيفية انتقالها, فقال أنها تُنقل عبر الحيوان المنوي إلى الأجيال التالية:

وما نريد التأكيد عليه في هذه النقطة هو أن جميع البشر خلقوا من نفس الروح التي نفخها الله في آدم, ولا يتم نفخ روح في الجنين لأن الروح “الأوامر الإلهية” تكتمل وتصبح متواجدة في الجنين من أول لحظة تكوين الخلية الجنينية الأولى “نطفة الأمشاج”, فهذه الروح انتقلت إلى البشر من آدم وحواء عبر الحيوانات المنوية والبويضات, (….) ولهذا لم يأت أي ذكر لنفخ روح في الجنين في القرآن, كما أن القرآن لم يطلق على الشيء الذي يفارق الجسد أثناء النوم والممات لفظ الروح, ولكن أطلق عليه لفظ النفس.[5]” ا.هـ

وقالت جمعية التجديد بحدوث تعديل جيني مع نفخة الروح:

“ثم عُدِّل “ربط” جينات هذا الكائن (سلسلة ال DNA) بالتدخل في عملية صفها, بصف معدل جديد وتركيزة جديدة, لتحويل نطفته إلى “مُخَلّقة” إنسانيا, (…..) وأُكملت مدارك الإنسان الأول (آدم وحواء) وعقله, بالتأكيد على جينات العقل ليكون عقله فوق الغريزة لا خاضعا لها كالبشر الهمج, بعد أن زُوِّد بكينونة أخرى فوق العقل هي هبة “الروح” لتكون وسيلة اتصاله بمبدئه حيث الملأ الأعلى, والمندائيون يؤكدون أن آدم كان قبلا مخلوقا ماديا محضا, حتى أن أُحضرت نسمة “روح” من عالم الأنوار, وأُودعت فيه فصار كاملا[6]” ا.هـ

كما أنهم يوافقون الأستاذ هشام عبد الحميد في القول بنقلة الروح بالوراثة:

كل الناس هم من بني آدم (من ذرية آدم الإنسان الأول) جعل لهم سمع وأبصار وأفئدة (أدوات العلم والإدراك, أدوات العقل فوق الغريزي), ولم يقل سبحانه أنه سواهم ونفخ فيهم من روحه, فهذا يدل أن كل الناس بعد آدم يرثون بالولادة تلك “التسوية النهائية” (التعديل الجيني) من آدم الأول, ويرثون جزئية الروح الإلهية المنفوخة فيه, تلقائيا.[7]” ا.هـ

والذي رأيته أنا, بعد نظري في الأطفال وكيفية تعلمهم اللغة واكتسابهم المعارف, أن المنفوخ من الروح لا يُورث, لأنه أمر فوق طبيعي, -وما فوق الطبيعي لا ينتقل بشكل طبيعي- وإنما أثره –التعديل الذي حدث في الإنسان بواسطة هذا المنفوخ من الروح- هو الذي يورث ويصل إلى كل إنسان. وبهذا نقضي على الإشكالية التي واجهتني وهي اختلاف زمن النفخ من الروح!

فإذا كان الروح قد نُفخ منه في الإنسان الأول بعد عدة أجيال خرجت من الأرض, وعاشوا واكتسبوا بعض الخبرات, فكيف يُنفخ منه في الجنين, والذي لم يخرج من بطن أمه بعد؟! أما إذا قلنا بهذا القول ارتفع إشكال اكتساب الأطفال المعارف وتعلمهم اللغات بواسطة تقليد الآباء, لأنهم لا يحتاجون أمرا فوق طبيعي, فلقد اكتسبوا آثاره.” ا.هـ

بعد هذا التناول المفصل للروح للتأكيد بأنه ما نُفخ إلا في الإنسان الأول, وأنه لم يذكر إلا مع –بعض- الملائكة ومع الوحي, يحق لنا أن نتساءل: ما هو الرابط الجامع بين الملائكة والوحي وبين الشيء الذي أعطاه الإنسان الأول, حتى يستحق هؤلاء جميعا, أن يُسموا بالرُوح؟!

نقول: إذا تذكر القارئ التعريف الذي قدمناه للرَوح, والذي قلنا فيه:
الرَوح هو انكشاف الضيق والغم وذهاب المشاعر السيئة وحلول أحاسيس طيبة.”
عرف الرابط, فالرُوح –بضم الراء- هو من يفعل هذا, هو الذي يكشف الضيق ويذهب الغم ويجعل مكانها الأحاسيس الطيبة.
فالرُوح التي نُفخت في الإنسان الأول هي التي سيطرت على الجانب الحيواني فيه وأبطلته بنسبة, وجعلت العقل هو الحاكم عوضا عنه, والوحي هو الذي يبطل الأفكار الشيطانية عند البشر, وينهي المشاعر السيئة والتصورات الباطلة التي تسيطر عليهم ويمدهم بمدد معنوي من الله يمكنهم من الحياة بشكل أفضل على وجه هذه البسيطة!
لذا يمكننا القول أن الروح –الوحي- هو امتداد للروح الأولى التي نفخت في الإنسان, فلقد نُفخت هذه الروح للقضاء على الحيوانية وتسييد العقل, وجاء الوحي ليمنع العقل من شطحاته, ولينقذه من الضلالات التي يقع فيها.

ونلاحظ أن الإنسان نفخ فيه من روح الله, بينما عيسى بن مريم كان كلمة من الله –وكلمات الله هي مخلوقاته- وكان روحا منه, وسيدنا جبريل كان الروح الأمين, وهو كذلك من الله, والله المعين أيد المسلمين بروحٍ منه:
لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ …..[المجادلة : 22فلا يعني كون عيسى بن مريم روح من الله أنه ذو علاقة “جسدية” أو أنه من “طبيعة” الله الذي ليس كمثله شيء!

فإذا تركنا الروح وانتقلنا إلى النفس, وجدنا أنها تختلف كثيرا عن الروح, فإذا نظرنا في القرآن وجدنا أنها استعملت بأشكال عدة, فلقد وردت “النفس” معرفة بالألف واللام في ثمانية مواطن, منها قوله:

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة : 45]

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ [يوسف : 53]

وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة : 2]

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر : 27]

(ولقد قام العلماء بتقسيم النفس إلى ثلاثة نفوس استناداً إلى الآيات الثلاثة السابقات, وهذا تقسيم غير دقيق, فهناك أصناف أخرى كثيرة, وهذا ما ذُكر فقط!)

كما وردت الكلمة منكرة في ثلاثة وأربعين موضعا, مثل قوله

وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة : 48]
وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف : 68]

كما وردت منصوبة “نفسا” في أربعة عشر موضعا, مثل قوله:

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة : 72

كما وردت مجموعة على “نفوس” في موضعين اثنين, هما:

رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً [الإسراء : 25]

وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير : 7]

كما وردت مجموعة على “أنفس” في ثلاثة وأربعين ومائة موضع, مثل قوله:

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة : 155]

وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [النحل : 7]

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر : 42]

يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف : 71]

كما وردت مضافة إلى ضمائر المتكلم والمخاطب والجمع, مع الله والبشر!

فإذا نظرنا في الأصل الذي جاءت منه الكلمة, وجدنا ابن منظور يقول:

“النون والفاء والسين أصلٌ واحد يدلُّ على خُروج النَّسيم كيف كان، من ريح أو غيرها، وإليه يرجعُ فروعه. منه التَّنَفُّس: خُروج النَّسِيم من الجوف.” ا.هـ
فكما رأينا فالنفس أصل يدل على خروج النسيم, وكما رأينا من الآيات فالله يتحدث عن النفس عند الموت وعن أنها تتوفى في النوم, ويقول أن هناك نفس مطمئنة وهناك نفس لوامة ويعرض قول من قال أنها أمارة بالسوء. –بينما لم يقل أي شيء من هذا مع الروح-

(ولا يقتصر الأمر على العربية وإنما يتعداه إلى العبرية فنجد أنهم يستعملون كلمة “نفش” وهي نفس كلمة “نفس” العربية –إذا لاحظنا الإبدال الواقع بين السين والشين بين العربية والعبرية!- وعلى الرغم من ذلك يصر العلماء على أن المراد من “نفش” العبرية هو الروح!)

أول ما يلحظه الناظر هو أن كلا الكلمتين مرتبط بالهواء, إلا أننا نلاحظ أن النفس شيء خارج عن/من الإنسان! بينما الروح شيء قادم –ليروح ويريح-
كما نلاحظ أن النفس لم تأت في القرآن إلا مع العاقل, فلم تستعمل مع الدواب أو الجمادات, وهذا يعني أن النفس شيء يتميز به الإنسان عن باقي المخلوقات الأرضية! فلا يمكنني أن أقول مثلا أن الأسد أو النعجة نفس, فعندما أقتل الأسد أو أذبح الشاة لا أقول أني قتلت أو ذبحت نفسا, بينما يقال هذا مع الإنسان!
فما هي النفس, هل هي الجسد أم شيء داخل الإنسان؟!

الناظر في القرآن يجد أن كل أفعال الإنسان تنسب إلى النفس, ولا يُنسب إلى الروح شيء, فالإنسان يصل إلى مكان بشق الأنفس, والإنسان يخفي نفسه الشيء أو يبديه, والحسد من عند نفس الإنسان, والإنسان يجد أو لا يجد في نفسه حرج, والأنفس أحضرت الشح, والأنفس تهوى …. الخ الأفعال المذكورة في القرآن.
وعلى الرغم من أنه لم يُنسب إلى الروح أي فعل, فإنه قد نُسب إلى بعض أجزاء الجسم أفعال, مثل الأيدي:
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [آل عمران : 182

ومثل اللسان: “وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ [النحل : 62]

فنسب الفعل إلى الأيدي والألسنة, -والتي هي ليست الفاعل الأصلي, وإنما المباشر- دليلٌ على أن الروح لا فعل لها, ولو كانت هي التي تحرك الإنسان لنُسب إليها بعض الأفعال, فهذا دليلٌ على أن الروح لا فعل لها وأنها غير النفس المحركة للإنسان.
والنفس المحركة للإنسان هي غير الجسد, فالجسد هو الأعضاء المباشرة للعمل, فهي المٌحرَكة, أما المُحرِّك فهو النفس.
فما هي هذه النفس التي هي “وحدة تحكم الإنسان”, والتي هي ليست الجسد؟

نقول: عرضنا لهذه النقطة في كتابنا: نشأة الإنسان, فقلنا:

“ولا يعني هذا –أي قولنا أنه ليس في الإنسان روح- أننا نقول أن الإنسان كائن مادي صرف, فنحن نُقر أن بالإنسان نفسا, وأن هذه النفس تُتوفى عند النوم ثم تُرد عند الاستيقاظ, وتُتوفي عند الموت وستُرد عند البعث! ولكن هذه النفس هي من أثار النفخ من الروح, والله أعلم بطبيعة النفس, إلا أننا نستطيع –بفضل التقدم العلمي- تقريب الصورة للقارئ, فنقول:

قديماً كان الحديث عن غير الماديات من باب الخرافة ويرتبط بالأرواح والأشباح, أما الآن فأصبحنا نتقبل وجود كثير من أشكال الطاقة والذبذبات والموجات المحيطة بنا في كل مكان, والتي لا نراها ولا نحس بها. ومن المعلوم حاليا أن الإنسان تحيط به هالات من الطاقة, وهذه الطاقة تخرج من الجسد, فهي تُنتج من الجسم –ومن ثم فلا نتوقع أن نجد للنفس أثراً محسوسا في الحيوان المنوي أو البييضة, لأنها من منتجات الجسم, والذي لم يتكون بعد-, لذا فإذا فسد الجسد فإن النفس لا تستطيع تأدية دورها, لفساد الوعاء الحامل.

والطاقة كما نعلم موجودات غير مجسمة, فما المانع أن يكون المنفوخ من الروح قد أكسب الإنسان –ما يمكن أن نشبهه بالطاقة أو الهالة, المهم أنه شيء غير مادي وهو أقرب ما يكون إلى تصورنا للهالة-, وهكذا أصبحت الأجيال التالية تولد معدلة, بحيث تصدر تلك النفس عن الجسد تلقائيا, وتتوفى أثناء النوم وتُرد عند الاستيقاظ. 

ولا نقصد بهذا القول أن النفس محيطة بالجسم مثل الهالة, ولا نقول أنها داخله كله أو داخل دماغه فقط, فالله أعلم بهيئتها, وإنما نعلم أنها مرتبطة به بشكل من الأشكال, وأنها غير مادية (على اعتبار أن الطاقة لا تعتبر مادة بالنسبة للإنسان!
فكما أن النفَس يخرج من الإنسان, فالنفْس صادرة عن الإنسان الذي نُفخ فيه من الروح.
ولأن هذه النفس هي أهم ما يميز الإنسان اعتبر الإنسان نفساً, لأن الإنسان بدونها يصير حيوانا, كما أنه لا يمكن التفرقة بين الجسد والنفس, لأن النفس صادرة عن الجسد صدوراً طبيعياً لازما, فكلاهما يشكلان كائنا حياً عاقلا مفكرا, فإذا فسدت الأعضاء المستقبلة لتأثير النفس لم يظهر أثرها. ولا يعني هذا في عين الوقت أن النفس هي سبب الحياة, وإنما كما قلنا هي صادرة عن الجسد, فإذا وصل الجسد إلى درجة من الفساد أو توقفت بعض الأعضاء الحيوية عن العمل, ولم تُفلح النفس في حثها على العمل مرة أخرى, يكون من غير المقبول أن تظل هذا النفس مرتبطة بالجسد فتُتوفى -عند الموت-, وتكون عند الله إلى قيام الساعة, فإذا قامت زُوجت بالأجساد.
وهذه النفس هي التي تمثل شخصية الإنسان, وأفكاره ومعتقداته وذاكرته, فهي الجانب المعنوي فيه! وقديما كان الحديث عن وجود مادي للمعنويات أمر غير مقبول, ولكن مع التطور العلمي أصبحنا نرى المعنويات تُخزن –كما في الكمبيوتر, والذي يسجل أشياء عدة, من صوت وصورة وملفات وبرامج على شكل بيانات ذات شكل واحد: 01 , وهو الصفر والواحد.
كما أن النفس قابلة للفساد فمن الممكن أن يزكيها الإنسان ومن الممكن أن يرديها ويدسيها!

بهذا نكون قد بيّنا الفرق بين الروح والنفس, وأظهرنا كيف أن الروح من أمر الله وأنها لا تتغير وأنها لدفع الناس إلى الأمام, بينما النفس هي نتاج للروح الأولى التي نُفخت في الإنسان, وهي قابلة للتغير وهي التي تُتوفى عند الموت. والله أعلى وأعلم.  


[1] باقي الآيات التي ذُكر فيها النفخ من الروح سنذكرها لاحقا, مستدلين بها على أمر آخر, فلا حاجة إلى ذكرها هنا, وإذا رجع القارئ الكريم إليها فسيلاحظ استمرار الحديث عن” النفخ من الروح” وليس نفخ الروح.

[2] لاحظ أن النفخ في مريم لتحمل بعيسى كان عن طريق فرجها, ولو كان خلقا خارقا صرفا, لأوجده الله في بطنها مباشرة أو نفخ الروح في أي مكان!

[3] يكاد المريب يقول: خذوني, فالراوي عن ابن مسعود يصف النبي بأنه صادق مصدوق, حتى يرهب السامع فلا يجادل في محتوى الرواية, وآخر يزعم أنه رأى النبي في المنام فسأله عن هذا الحديث فقال أنه قاله! فإذا لم يكن هناك ريب وشكوك حول هذا الحديث فلم أحيط بهذه السياج؟! ولله الحمد هناك من أقر من علماء أهل السنة –وهو عالم طبيعي لا يحضرني اسمه حاليا- في برنامج تليفزيوني أن المراحل المذكورة في الحديث لا تنطبق مع المشاهَد في مراحل خلق الجنين, ومن ثمّ يجب تأويل الحديث حتى لا يتعارض مع العلم, والعجب كل العجب أن الإعجازيين يتقبلون الحديث! والذي لو فهمناه تبعا لأحاديث أخرى موجودة لبان زيفه بكل يسر!

[4] لا يعني هذا أننا كنا ننفي أن للبيئة والتربية دوراً كبيرا في نسبة الذكاء وحدة المشاعر, ولكن هذا يتعلق بدرجة كبيرة بالقابلية الداخلية النابعة من الروح.

[5] هشام عبد الحميد كمال, الهندسة الوراثية في القرآن وأسرار الخلق والروح والبعث, ص.115.

[6] جميعة التجديد, الخلق الأول: كما بدأكم تعودون, ص.28-29.

[7] المرجع السابق, ص. 95.

ونلاحظ أنهم يقولون كذلك بنفخة الروح وليس ب النفخ من الروح!


[1] المرجع السابق, المجلد الثالث, ص. 180.

[2] احتيار المفسرين وتخمينات الصحابة حول الروح يدل على عدم وجود أثر صحيح عن النبي بشأنه!

[3] إذا أخذنا قصة السيدة مريم نموذجا, وجدنا أن الملائكة اقتصر دورها على تبشيرها بالمسيح: “إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران : 45]”, بينما كان دور سيدنا جبريل هو أن يهبها هذا الغلام: “فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً …… قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً …. فَحَمَلَتْهُ …. [مريم : 17-22]”

[4] وهذا دليل على أن الحديث هنا عن الإنسان الأول, وهذا ما لا يجادل فيه أحد, وبه قال كل المفسرين.

[5] الإنسان: اسم يطلق على جنس, ولا دليل يحتم حمله على فرد واحد!

[6] ابن كثير, تفسير القرآن العظيم, المجلد الثالث, ص. 430.

[7] هنا حاول الإمام الفخر الرازي الالتفاف على الآية, لكي يجعلها تتكلم عن خلق الإنسان عامة, بأن قال: جعله سلالة, وبعدها بسطور قال: فجعله منياً, وهذا مخالف للآية, فهي تتكلم عن جعل النسل من سلالة, لا عن جعله هو, فهذا دليل على إبطال التفافة الإمام الفخر, وعلى أن الحديث عن الإنسان الأول, وليس عن الإنسان عامة.

[8] الفخر الرازي, مفاتيح الغيب, المجلد الخامس والعشرون, ص. 152.


[1] الفخر الرازي, مفاتيح الغيب, المجلد الرابع والعشرون, ص. 142.

[2] المرجع السابق, المجلد الثلاثون, ص.108.

[3] المرجع السابق, المجلد الحادي والثلاثون, ص. 22.

[4] المرجع السابق, المجلد الثاني والثلاثون, ص. 34.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

حول إنكار العقل الغربي ل “النظام الكبير”!!!

في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.