” وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ” صدق الله العظيم ورسوله الكريم .
مما يأسف له المرء أن المسلمين اتخذوا هذا القرآن مهجورا تمام الهجر فلا يقرأ , وإذا قرأ لا يفهم ولا يتدبر وإذا تدبر لا يعمل به , والتبريرات في عدم العمل بالكتاب كثيرة منها أن الآيات منسوخات أو مخصوصات أو لا يراد منها الوجوب .. أو … أو … إلخ التعليلات
ونذكر للقارئ الكريم في هذا البحث نموذجا لحكم من الأحكام المكتوبات على المسلمين والذي ضيع بسبب المنهج العجيب المتبع مع كتاب الله تعالى , وهذا الحكم ” الوصية الواجبة” و لا نقصد طبعا المعنى الفقهي المتعارف عليه ولكن نقصد بذلك الحكم الوارد في آية البقرة في قوله تعالى ” كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين[البقرة : 180] ” الذي أهمل تماما .
فلا نجد من المسلمين تقريبا من يعمل بهذا الحكم , وإذا وجد من يطبقه فإنه يطبقه وهو يشعر أنه آثم لمخالفته السنة الواردة في هذا الباب ! فانقلب الحال من اتباع لأمر مكتوب إلى مخالفة لأمر مسنون يتأثم منه الإنسان !
حيث قيل في تفسير ! هذه الآية أنها كانت أمرا واجبا على الإنسان المسلم بأن يوصي إذا حضره الموت للوالدين والأقربين بالمعروف ثم نسخت , واختلف في ناسخها هل هو قوله تعالى ” يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ……… إلخ الآية ” أم أن الناسخ من الحديث الشريف وهو ما رواه الإمام أحمد أن النبي ص قال :
“17004 – …… إن الله أعطى كل ذي حق حقه و لا وصية لوارث “ .
وقبل التعليق على الآية أو الحديث نود لفت الانتباه إلى نقطة واحدة وهي :
أن الآية بدأت بقوله تعالى ” كتب عليكم ” وهو نفس اللفظ المستعمل مع الصيام والصلاة وهو أعلى ألفاظ التكليف وعلى الرغم من ذلك يقولون بنسخ الآية !!
التوفيق بين الآية والحديث :
أولا : حديث “ إن الله أعطى كل ذي حق حقه ولا وصية لوارث ” حديث ضعيف ورد من طرق كثيرة جدا ولكنها كلها ضعيفة لا يصحح بمثلها حديث فلا ينسخ الآية ,
والحديث يضرب كمثال للأحاديث الضعيفة التي عمل بها لقبول الأمة لها على الرغم من ضعفها!!! , تصور يعطل كتاب الله بحديث ضعيف بحجة عمل الأمة به وهذا من عجيب منهجهم في تلقي السنة والعمل بها وعزلها عن القرآن وعدم تصحيحها أو تضعيفها تبعا للقرآن .
ولقد هاج الإمام أبو بكر بن العربي و ماج في تفسيره عند التعليق على دعوى نسخ الآية بهذا الحديث فهو واضح الضعف , وذكر الإمام أبو بكر بن العربي الأقوال في هذه الآية فقال أن بعض العلماء قال أنها محكمة فتكون الوصية واجبة .
إذا فالرأي موجود منذ زمن وليس بدعا من القول ولكن للأسف لم يجد من يسانده وينشره فضاع واندثر , وهذه هي آفة الكثير من الآراء والأحكام الفقهية الجيدة التي لا تجد من يساندها فتضيع مع الزمن مع حاجة الناس إليها.[1]
ونحن لا نحتاج إلى قول أحد فالآية واضحة ولكن كنت أود الإشارة فقط أن الرأي له وجود منذ قديم الزمان .
و حتى ولو كان الحديث صحيحا – سندا – فهو حديث آحاد لا ينسخ القرآن , وعلى فرض صحة الحديث فلا مبرر للقول بالنسخ إذ أن التوفيق بينهما يسير إذ يمكن القول أن النهي في الحديث للندب حيث أن ذلك يمكن أن يؤدي إلى وقوع العدواة والبغضاء بين الوارثين , أما الوصية للوالدين فلن تثير أحدا , لعظم قدرهما عند الجميع .
ولكن إذا أمن ذلك فلا مانع من التوصية بأن يكون الموصى إليه ذا حاجة أو يستحق أن يزاد له قليلا في نصيبه لضعف أو مرض أو لمساعدته أبيه طيلة عمره في تجارته فيحق له أن يزيد في نصيبه .
أما القول بأن آية النساء نسخت هذه الآية فقول متهافت إذ أن هذه الآية في الوصية وآية النساء في الميراث , فلكل منهما حكم منفصل . وآيات النساء تذكر بعد تقسيم الميراث دوما قوله ” من بعد وصية ” أي أن هذا التقسيم على الورثة يكون من بعد وصية أو دين , فكيف تكون نسختها ؟ ولولا هذه الروايات الضعيفة ما فكر أحد في وجود تعارض بينهما ولا مانع عقلا من أن يوصي الإنسان بجانب التوزيع الطبيعي للتركة .
ولا بد من الإشارة إلى أن القرآن اهتم بالوصية أكثر من الميراث و فصل أحكامها في آيات كثيرة وذكر حكمها حتى في السفر, ونجد ذلك في سورة المائدة , حيث قال تعالى ” يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ [المائدة : 106] “
فهاهنا يوضح القرآن لنا كيف نوصي في حالة السفر , فالوصية من المكتوبات مثلها مثل الصلاة والصوم ولقد وضح القرآن لنا حكمهما في الحضر , ولما كانت من المكتوبات وضح حكمها في السفر أيضا , ومعلوم أن المائدة من آخر ما نزل من القرآن فكيف تكون آية البقرة منسوخة والقرآن يوضح حكما متعلقا بها في آخر ما نزل من القرآن ؟ !!
إذا نخرج من ذلك إلى أن الوصية واجبة في الحالات المذكورة ءانفا من قرب الموت ومباحة في غير ذلك بشرط أن تكون بالمعروف .
ولكن إلى أي حد يمكن أن تكون الوصية ؟
نقول : هذه النقطة بالذات من النقاط التي تتخذ مدعاة للهجوم على الإسلام حيث يدعى أن الإسلام قيد حرية المالك فمنعه من أن يوصي لأقاربه – وهذا ما وضحنا بطلانه وأن الإسلام بالعكس يوصي بذلك – و حتى إذا أراد أن يوصي فلا يسمح بالوصية بأكثر من الثلث .
ونرد عليها بقول الإمام الرازي في تفسيره لسورة النساء عند التعرض للوصية حيث قال ما نصه : ” قال تعالى: {من بعد وصية يوصى بها } [النساء : 11] ,
وفيه مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي جواز الوصية بكل المال وبأي بعض أريد، ومما يوافق هذه الآية من الأحاديث ما روى نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما حق امرىء مسلم له مال يوصى به ثم تمضي عليه ليلتان إلا ووصيته مكتوبة عنده» فهذا الحديث أيضا يدل على الاطلاق في الوصية كيف أريد , ” اهـ
إذا فظاهر القرآن يوضح أن الوصية يمكن أن تستغرق المال كله وفي السنة الصحيحة ما يؤيد ذلك وهو هذا الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عمر وقد كنت أعجب وأنا صغير من هذا الحديث واستثقله ولكن ظهر لي عندما وعيت أنه لمصلحة الإنسان لا العكس .
وبطبيعة الحال فالإمام الرازي لا يرى ما رأيناه ولكنه يرى عدم جواز الوصية بأكثر من الثلث ويستدل على ذلك بالحديث الشهير الذي رواه البخاري الذي قال فيه الرسول ص لسعد بن أبي وقاص ” «2537- ………...الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ».
حيث يرى أن قول النبي ص لسعد قول عام ملزم للأمة مخصص للقرآن ونحن نرى العكس ونرى أنه قول مخصوص لحالة سعد فهو إنسان ليس بالغني والرسول ( ص ) استعمل لفظ مخصوص فلا حجة لتعميمه فلو كان عاما لقال ” إنكم إن تذروا ورثتكم أغنياء خيرا من أن تدعوهم عالة يتكففون الناس ” , فالحديث مخصوص ولا حجة فيه على تخصيص القرآن .
ويرى أيضا أن القرآن يمنع الوصية المطلقة ويستدل على ذلك بقوله تعالى ” للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون [النساء : 7] “
حيث يرى أن الوصية بكل المال ينسخ هذا النص , ونحن نرى ان هذه الآية في ” الوصية ” وليست في الميراث , فالقرآن يستعمل دوما مع الوارثين كلمة ” حظ ” أما هنا فاستعمل ” نصيب ” لذا فيحق لنا أن نرى أنها في الوصية , لذا فلا حجة فيها .
ويستدل أيضا بقوله تعالى ” وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء : 9],
وهذه الآية حجة لنا حيث هي توصي بالإحسان والعدل عند الوصية وألا يجور فيها .
إذا يظهر لنا جليا أن القرآن أعطى المالك الحق المطلق في الوصية بشرط أن يكون ذلك بالمعروف في الوالدين والأقربين فلا يخرجها مثلا لجمعية ترعى القطط ويترك أقاربه فيثير أحقادهم وضغائنهم ,
و على ذلك فإذا كان للإنسان أولادا أثرياء لا يحتاجون منه شيئا من الممكن في هذه الحالة أن يوصي بجميع ماله لأقاربه الفقراء الذين يحتاجون , أو من الممكن أن يخص والديه بالتركة ,
وقد يترك التركة توزع بالشكل العادي ولكن لا بد من الوصية إذا حضره الموت بكبر أو مرض , فيوصي بجزء من تركته لأحد الوارثين لسبب مخصوص ولا حرج في ذلك .
ونورد كلمة رائعة للإمام الرازي في هذا الموضوع تدل على فقهه حيث قال :
” واعلم أن الأولى بالإنسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف، ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فان كان ماله قليلا وفي الورثة كثرة لم يوص، وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب المال وبحسب حاجتهم بعده في القلة والكثرة والله أعلم ” اهـ
ويعتبر هذا ملخصا للوصية في الإسلام فإذا كان الإنسان فقيرا فالأولى أن يترك التركة توزع بالمقادير الواردة في القرآن ويوصي بجزء صغير لمن لا يرث ولأبويه إذا كانوا أحياءا , وإن كان كثير المال أوصى بحسب ما يتراءى له بشرط أن يكون بالمعروف بمعنى أن لا يحرم أحدا , وخاصة إذا كان الورثة فقراء متطلعين إلى المال فإذا أعطى بعضهم حسدهم الباقون أما إذا كان الورثة أغنياء فهو حر في ماله يضعه حيث شاء وإن شاء تركه يقسم تبعا لقواعد الميراث ولكن لا بد ان يوصي لأقاربه .
وبهذا نكون قد فندنا الإدعاء بأن الإسلام يقيد حرية الملاك في أموالهم وبينا أن لهم الحرية المطلقة في الوصية بشرط أن تكون بالمعروف في الأقارب فإذا عدموا فهو حر, أما أن يضيع الأقارب ويوصي للغرباء أو الجمعيات فهذا تفكيك لأواصر القرابة , والله أعلم .