بعد أن ذكرنا في الموضوع السابق الفهم الأمثل لكلمة ” أمي ” والذي ينبغي أن يحمل عليها فهمنا لوصف الرسول الأمي والتي تماثل بمصطلحاتنا المعاصرة الرسول العالمي الأول !
ونأتي الآن إلى النقطة الرئيس في نقاشنا وهي : هل كان الرسول قارئا قبل الوحي أم أصبح قارئا بعد الوحي أم أنه كان قبل الوحي وظل بعده أميا بمعنى أنه لا يحسن القراءة ولا الكتابة !
المشهور والمتعارف عليه أن الرسول الكريم كان لا يعرف القراءة والكتابة ومات على هذا الوضع , ولكن هل هذا هو الذي كان عليه الرسول وما أخبرنا به القرآن الكريم وصدقت به السنة الكريمة أم أن الوضع بخلاف ذلك ؟
الثابت في السنة والتاريخ – والذي يؤيده منطوق القرآن – أن الرسول الكريم لم يكن يعرف القراءة أو الكتابة عامة قبل البعثة , – على العكس من الرأي الذي يقول أنه لم يكن يكتب أو يتلو كتبا سماوية مثل التوراة أو الإنجيل – والخلاف الرئيس يقع في فترة ما بعد البعثة , فهل قرأ النبي وكتب أم لم يفعل ؟
يستدل الرأي القائل أن الرسول ظل لا يعرف الكتابة حتى الوفاة بأن التاريخ لم ينقل لنا أن النبي الكريم كتب أو تعلم الكتابة , فلو كان حدث لنُقل إلينا ولعرفنا .
وبداهة عدم الدليل ليس بدليل كما يقول علماء أصول الفقه , وخاصة إذا وجد الدليل عند الفريق الآخر , وهذا الدليل في أوثق المصادر وأصحها وهو القرآن الكريم ! وفي صحاح السنة , على الرغم من نفي النافين , ولنتتبع هذه الأدلة الصراح في إثبات تعلم النبي الكتابة :
أول ما نزل من القرآن هو قوله تعالى ” إقرأ باسم ربك الذي خلق “ وهذا أمر صريح بالقراءة , وعلى الرغم من أن القراءة تحتمل القراءة من كتاب أو من الذاكرة , إلا أن الرسول كما قلنا هو أفضل من يتمثل الأمر الرباني ويطبقه خير تطبيق ! لذلك فإن من يسأل : من علم الرسول الكريم الكتابة وكيف لم ينقل ذلك ؟
نقول : الله أعلم , هل يد من من البشر تعلم الرسول الكتابة , أما مبرر عدم نقل ذلك الحدث فهو الرغبة في المحافظة على صورة الرسول الكريم
ثم إن القول أن الرسول الكريم هو الذي كتب القرآن فيه دفع لكثيرمن الشبهات التي تقول بوقع الخطأ من الصحابة في كتابة القرآن بحجة أنهم لم يكونوا متقنين للكتابة ! ولا يعني هذا أنا نقول ذلك من باب دفاعنا عن القرآن الكريم فنأتي بما لم يقله التاريخ من أجل التأكيد على سلامة الخط القرآني ! لا , فما نقوله مؤيد بالأدلة من الكتاب الكريم , ونبدأ بسرد الأدلة على دعوانا
ونبدأ بالدليل القاطع على دعوانا وهو قوله تعالى : ” وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت : 48] “
فهذه الآية تقول للنبي الكريم أنك ما كنت تتلو قبل القرآن أي كتاب ( وفي هذه الآية دليل على من يقول أن النبي لم يكن يتلو الكتب السماوية فقط , لأنها قالت ” من كتاب ”
ولو كان المراد نفي الأمر مع الكتب السماوية لما استعمل نفي الاستغراق الذي يفيد نفي جميع أفراد المنفي ! ) ولا تكتبه بيمينك ! فيفهم من هذا بداهة أن النبي الكريم أصبح بعد القرآن الكريم يتلو ويخط بيمينه ! فهذا دليل خطاب جلي ولا يعني إلا هذا المعني , فإذا قلت لك : قبل ذهابك إلى المدرسة لم تكن تعرف القراءة ولا الكتابة ! فماذا يفهم السامع إذا قيل له هذا ؟ يفهم بداهة أن هذا المخاطب أصبح يعرف القراءة والكتابة بعد الذهاب إلى المدرسة ! وهذا هو حال الرسول الذي أصبح يتلو ويكتب بعد نزول الوحي !
أما الدليل على أن الرسول كان يتلو القرآن نفسه وليس أي شيء آخر فهو قوله تعالى “ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً [البينة : 2] “ والصحف المطهرة هي صحف القرآن , كما وصفها الله في سورة عبس ” مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ [عبس : 14] “ .
وفي هذا دليل على أن القرآن كان يكتبه الرسول في صحف , أما مسألة الرقاع وأوراق الشجر والحجر هذه فلربما كانت من فعل بعض الصحابة من أجل الحصول على نسخ شحصية لبعض سور القرآن !
أما الدليل على أن الرسول الكريم هو الذي كان يكتب القرآن بنفسه فهو قوله تعالى ” وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان : 5] “
أي أن مشركي مكة اتهموا الرسول الكريم بأنه اكتتب القرآن , فهو يملى عليه وهو يكتب ثم يعطي المكتوب لأصحابه ! ونلاحظ أن القرآن الكريم قال ” اكتتب ” ولم يقل ” استكتب ” , فلو استعمل التعبير الأخير لقبلنا بقولهم , ولكن استخدم ” اكتتب ” عرفنا أن الرسول الكريم هو الذي كان يكتب الوحي منذ بداية العهد المكي , فسورة الفرقان مكية والرسول كان يكتب لأصحابة !
إذا مسألة كتبة الوحي هذه هي أن الصحابة الكرام كانوا ينقلون عما كتبه النبي المصطفى أو يكتبون تحت أمر وبصر الرسول الكريم إذا كان مشغولا بأمر من الأمور فيكتبون , فإذا حدث خطأ أوسهو صحح لهم الرسول الكريم . أما الدعوى أن كتبة الوحي هم من كتبوا القرآن كله فدعوى ينقضها القرآن بآية الفرقان !
أما مسألة أن القرآن أثبت الأمية للرسول فمنقوض بالمعنى الذي أراده القرآن للأمي ولقد وضحنا في الموضوع السابق المعنى الأشمل للأمية ولكن نذكر هنا أن المراد من الأمي والأميين هم الأمم من غير أهل الكتاب , لذلك نجد قوله تعالى “”فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْأَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْالْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْوَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌبِالْعِبَادِ”,آل عمران20.
“وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ “آل عمران 75.
3.”هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوعَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَوَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ “لجمعة2.
هذه هي الآيات الوارد فيها تسمية الأميين على الجمع…ومعنى أميين هنا هو القوم الذين لا كتاب سماوي لهم ولم ينزل عليهم كتب من عند الله,لأنه ليس من العقل أن نصف قومًا بالأمية بمعنى عدم القراءة والكتابة لأنه كان في اليهود والنصارى كثير لا يتقنونها, كما أن المقابلة بين المعنيين يحتم هذا الفهم .
ثم إن الله تعالى يقول في سورة الجمعة ” ويعلمهم الكتاب والحكمة ” فكيف يعلم الرسول الكريم الناس الكتاب وهو لا يستطيع أن يقرأه ؟
سيقول القائل : إن الأمية كانت منتشرة بين العرب وكان التعويل على الحفظ والذاكرة ! نرد قائلين : عرضنا في كتابنا ” عقائد الإسلاميين ” لهذه المسألة ووضحنا أن مسألة انتشار الأمية بين العرب بهذا الشكل الكبير المزعوم لم تكن صحيحة وأن العرب كان فيهم كثيرون عارفون بالكتابة ونضرب لذلك مثالين إثنين – ومن أراد التوسع فليرجع إلى الكتاب – وهو أن أبو الرسول الكريم وأعمامه وجده كلهم كانوا عارفين بالقراءة والكتابة !
تصور هذا العديد الكبير كان في أسرة واحدة ! فليس الأمر كما يتصور البعض ! ولما وقع المشركون في الأسر في غزوة بدر وأرادوا أن يفدوا أنفسهم افتداهم المسلمون بأن يعلم كل واحد من المشركين عشرا من صبيان المدينة ! فلو كان الجهل منتشرا بين المسلمين بهذا الشكل الفظيع لكان من الأولى أن يعلموا رجالا فيتعاملون ويكتبون القرآن ويسجلون عقودهم .
أما الأدلة من السنة على أن الرسول الكريم كتب وقرأ فكثير منها الروايات التي تذكر أن النبي كان يعدل على الكتبة أحيانا ونذكر هنا روايتين إثنتين فقط في الصحاح وهما ما رواه الإمام البخاري :
” حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضى الله تعالى عنه قال اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام فلما كتبوا الكتاب كتبوا هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لا نقر بها فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك لكن أنت محمد بن عبد الله قال أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ثم قال لعلي امح رسول الله قال لا والله لا أمحوك أبدا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه وأن لا يمنع أحدا من أصحابه أراد أن يقيم بها …. “
وأيضا ما وردفي قول رسول الله وجعه يوم الخميس ، أنه قال : ” ائتوني بكتاب أكتبلكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا . فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبي تنازع ،فقالوا : هجر رسول الله ؟ قال : دعوني ، فالذي أنا فيه خيرمما تدعونني إليه “
فهذا نص على أن الرسول كان سيكتب , ونحن نعرف أن هذه الأحاديث وردت بروايات أخرى تجعل أن الرسول الكريم أملى ! ولكن حتما واحد من الحالين هو الذي وقع , وهذا الشكل الذي نستدل به هو الموافق للقرآن , فهو الأولى بالأخذ من الآخر .
بذلك نكون قد أثبتنا أن النبي الكريم تعلم القراءة والكتابة بعد الوحي وهو الذي كتب عامة القرآن بيده الشريفة بهذا الخط المسمى العثماني , وأن باقي ما كتبه الصحابة كان تحت إشراف النبي الكريم متابعا ومصوبا ومصححا .
وأن ما فعله الخليفة الثالث عثمان ما كان إلا جمعا للمصاحف التي كتبت بالخط العادي المخالف لكتابة الرسول الكريم وكتب المصاحف على نفس الخط الرسولي ووزعها على الأمصار ولا نزال نقرأها إلى يومنا هذا بنفس الخط الذي كتب به الرسول الكريم والله أعلى وأعلم .