مس الجن الإنسان!

بعد أن أبطلنا إمكانية نكاح الجن للإنسان نعرض لأهم مسألة تُطرح حولها التساؤلات دوماً, وهي مس الجن الإنسان أو دخول الجن في الإنسان!

نتوقف معها لننظر هل المس الذي ذكره القرآن له نفس الدلالة الموجودة في رؤوسنا, وهل يمكن دخول الجن بدن الإنسان والسيطرة عليه, وإذا كان, فهل يمكن أن يكون القرآن علاجاً له وعاملاً على إخراج الجني!

وهذه النقطة ليست مما يعتقد به العرب المسلمون فقط, وإنما هي موجودة صراحة في أديان أخرى, مثل المسيحية, والتي جاء فيها نصوص صريحة تتكلم عن دخول الأرواح الشريرة والشياطين في بدن الإنسان وقيام المسيح وتلاميذه بإخراجهم من الإنسان, ومن ثم نتساءل:
هل مسألة دخول الجن في بدن الإنسان –تبعاً للمنظور الإسلامي- من المسائل التي أتت في نصوص ثابتة, صريحة الدلالة على هذا الأمر؟!

وتأتي الإجابة بأنه لا نصوص ثابتة صريحة الدلالة على هذا الأمر, فعمدة المُمَسّكين بهذا القول هو بعض الروايات الضعيفة المنسوبة إلى النبي الكريم وبعض الصحابة!
كما أنهم يظنون أن لهم مستند في قوله تعالى:
“الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة : 275]”
فيرون أنها دليلٌ صريح على أن الشيطان يدخل بدن الإنسان –يتلبسه- ويتحكم فيه, ويصيبه بالأمراض والأسقام, وأظهرها الصرع, والذي يسمونه صرع الجن! على الرغم من أن الآية لم تزد عن أن تكلمت عن “تخبط من مس”, ولم تقل بأيٍ مما قالوا.

لذا نتوقف مع هذه الآية لنبين للقارئ الكريم كيف أن الآية لا علاقة لها البتة بما يقولون, ونظهر له مثالاً طيباً لفعل المفسرين حيال بعض الآيات التي لا يستطيعون تصورها, ومن ثم يُفسرها!! أحدهم بأي شكلٍ كان, فيتابعه الباقون على قوله, لأنهم لا يجدون كذلك تصوراً لها, ثم يصبح هذا القول الذي لا ينطبق مع الآية هو التفسير المعتمد لها, والذي عليه إجماع العلماء!!

ونقدم للقارئ الكريم أولاً بعضاً مما قاله الإمام الرازي في تفسيره, حول التخبط, لينشأ لديه تصورٌ حول معنى التخبط, وحول أقوال المفسرين فيها, والجدل الدائر حول فهمها, قبل أن نقدم ما عندنا فيها. قال الإمام الرازي:
“التخبط معناه الضرب على غير استواء، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمرٍ ولا يهتدي فيه: إنه يخبط خبط عشواء، وخبط البعير للأرض بأخفافه, (جمع خُف –عمرو-) وتخبطه الشيطان: إذا مسّه بخبل أو جنون, لأنه كالضرب على غير الاستواء في الإدهاش، (………)

فالتخبط بالرجل والمس باليد، ثم فيه سؤالان:
السؤال الأول: التخبط تفعل، فكيف يكون متعدياً؟

الجواب: تفعل بمعنى فعل كثير، نحو تقسمه بمعنى قسمه، وتقطعه بمعنى قطعه. (……..) قال الجبائي: الناس يقولون المصروع إنما حدثت به تلك الحالة لأن الشيطان يمسه ويصرعه, وهذا باطل، لأن الشيطان ضعيف لا يقدر على صرع الناس وقتلهم ويدل عليه وجوه:

أحدها: قوله تعالى حكاية عن الشيطان {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} [ إبراهيم : 22 ], وهذا صريح في أنه ليس للشيطان قدرة على الصرع والقتل والإيذاء (…….)

لو كان الشيطان يقدر على أن يصرع ويقتل لصح أن يفعل مثل معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك يجر إلى الطعن في النبوّة.
الرابع: أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يصرع جميع المؤمنين, ولم لا يخبطهم مع شدة عداوته لأهل الإيمان، ولم لا يغصب أموالهم، ويفسد أحوالهم، ويفشي أسرارهم، ويزيل عقولهم؟ وكل ذلك ظاهر الفساد.
واحتج القائلون بأن الشيطان يقدر على هذه الأشياء بوجهين:

الأول: ما رُوي أن الشياطين في زمان سليمان بن داود عليهما السلام كانوا يعملون الأعمال الشاقة, على ما حكى الله عنهم, أنهم كانوا يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات. (………)

للمفسرين في الآية أقوال؛ الأول: أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا، فعرفه أهل الموقف لتلك العلامة أنه آكل الربا في الدنيا، فعلى هذا معنى الآية: أنهم يقومون مجانين، كمن أصابه الشيطان بجنون.

والقول الثاني : قال ابن منبه: يريد إذا بُعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً} [ المعارج: 43 ],
إلا آكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وذلك لأنهم أكلوا الربا في الدنيا، فأرباه الله في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون، ويسقطون، ويريدون الإسراع ، ولا يقدرون. (………)

والقول الثالث : أنه مأخوذ من قوله تعالى: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [ الأعراف : 201 ]”
وذلك لأن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله، فهذا هو المراد من مس الشيطان، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً، فتارة الشيطان يجره إلى النفس والهوى، وتارة الملَك يجره إلى الدين والتقوى، فحدثت هناك حركات مضطربة، وأفعال مختلفة،
فهذا هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان وآكل الربا لا شك أنه يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكاً فيها، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك الحب حجاباً بينه وبين الله تعالى، فالخبط الذي كان حاصلاً في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة، وأوقعه في ذل الحجاب.
وهذا التأويل أقرب عندي من الوجهين اللذين نقلناهما عمن نقلنا. ” ا.هـ

والناظر فيما ذكره الإمام الرازي –وغيره من كتب التفسير- يجد أن هناك ما يشبه الإجماع بين المفسرين على أن المراد من القيام في قوله “لا يقومون” هو القيام في الآخرة, -وذلك لورود رواية عن ابن مسعود, تقول أنه كان يقرأ “لا يقومون من قبورهم”, وكذلك رواية عن ابن عباس تقول أنه يقوم يوم القيامة مجنونا,
وكلتا الروايتين ضعيف لا يصح-, والاختلاف دائرٌ حول معنى المس, فهل المراد من المس هو القدرة على تعذيب الإنسان بوسوسة يبثها في صدره, أم المراد من المس هو دخول جسم الإنسان والتحكم فيه!

ونبدأ تناولنا لهذه الآية, -والتي تتحدث عن الذين يأكلون الربا من المؤمنين – بسؤالنا: ما الدليل على أن المراد من القيام في الآية “لا يقومون”, هو قيام في اليوم الآخر؟!

إن سياق الآيات السابقة واللاحقة يقول أنها تتكلم عن قيام في الدنيا وليس في الآخرة, كما أن بنية الآية نفسها تقول ذلك, فالملاحظ أن الله تعالى قال: “لا يقومون إلا كما يقوم” ولم يقل: “لن يقوموا إلا كما يقوم”!
ولست أدري على أي أساس جعلوا القيام الأول –في قوله: لا يقومون- في الآخرة, بينما الثاني –في قوله: يقوم الذي- في الدنيا؟!

إنهم لمّا لم يجدوا معمولاً للقيام قالوا أنه في الآخرة, وليس هذا مما يُفهم بداهة, فمن الأرجح أن يكون القيام في الصلاة مثلا,
ولقد خطر في بالي هذا الاحتمال ثم رأيت أنه لا إشارة إليه في الآية, لذلك لا يمكن القول به حتى لا نضيف للآية من عند أنفسنا –كما فعل المفسرون!-
ومن ثم فعلينا البحث عن تصورٍ للقيام لا يحتاج إلى معمول, ثم اهتديت إلى أن المراد من القيام هو القيام بالمعنى الشامل له, أي القيام بالأمر والقيام عليه.

ثم وجدت أن الدكتور جمال محمود أبو حسان يقول بنفس ما أقول به بتفصيل كبير, ومما قاله حول هذه الكلمة:
“جاء في تفسير الميزان: إن المراد بالقيام هنا هو الاستواء على الحياة والقيام بأمر المعيشة؛ فإنه معنى من معاني القيام يعرفه أهل اللسان في استعمالاتهم،
قال تعالى:” لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ “(الحديد:25) وقال تعالى: “وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ “(النساء:127). وأما كون المراد به المعنى المقابل للقعود فمما لا يناسب المورد، ولا يستقيم عليه معنى الآية. (……..)

فالذي تخبطته الشياطين هو ذلك الإنسان العاصي بمعصية عظيمة بارزَ اللهَ تعالى بها بالحرب، فتراه يسير لا على هدى، مضطرب الفكر، متقلب المزاج، سريع الغضب، مهووس بالدنيا على نحو بالغ، لا يرى أي عائق أمام تحقيق مصالحه وأهوائه. وهذا لا محالة من أثر الوسوسة الشيطانية التي استولت عليه فقهرته عن إدراك الحقيقة.

وبعد فإن الذي يترجح لدي في تفسير هذه الآية بناء على ما سبق بيانه في هذا البحث ما يلي:

إن هذه الآية تحكي الحالة النفسية المضطربة لآكلي الربا بعد بيان أنه ما من ذنب قد أعلن الله تعالى الحرب على مرتكبيه إلا هذا الذنب. فالمسلم يدرك عظم الذنب من أكل الربا وحرمته. لكن وساوس الشيطان التي تأتيه من كل باب؛ لتزين له ما في الربا من المنافع، وتزين له التسويف في الابتعاد والتوبة، فتصبح نفس الإنسان من داخلها في تنازع شديد بين أمرين:

الأول: حرمة الربا والوعيد الشديد عليه.
والثاني: ما يُصوّر له من منافع الربا. فتصبح في نفس الإنسان المرتكب لهذه الحماقة حرب نفسية طاحنة. فإما أن يتغلب الشرع الإلهي بما فيه من أوامر ونواهي، وإما أن يغلب على تلك النفس النوازعُ الشيطانية الشديدة. ولذلك ترى كثيرا من متعاطي الربا لا يذوقون للنوم طعما إلا بالعقاقير المهدّئة. هذا إذا جاءوا للنوم،
وأما في النهار حيث العمل والنشاط فلعمرك ما أنت راءٍ من الجشع والطمع ما أنت رائيه في تحركات هؤلاء وتصرفاتهم. هذا هو ما تحكيه الآية، وليس فيه للشيطان إلا أنه سوّل لهم هذا المنكر بوسوسته وإيحائه. ” ا.هـ

وهنا نقول للقارئ الكريم: أيهما تتقبل وتتبع: الذي يفهم كتاب الله كما هو, أم الذي يضيف من عند نفسه؟! بل ولا يكتفي بذلك وإنما يفهم كلام الله على غير ما قال,
وبغض النظر عن أن المفسرين لم يتوقفوا مع التركيبة “يتخبطه الشيطان من المس- بقدر ما تستحق, وفسروها على غير ما تقول, فإن النقطة الرئيس هم فهمهم للمس, والذين يدعون بأن المراد منه دخول الشيطان في جسم الإنسان والتحكم في عقله!


مس الشيطان أيوب

وكما اتخذوا هذه الآية دليلاً بلا بينة ولا مستند في كتاب الله ولا لسان العرب, فهموا آية سورة ص:
“وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص : 41]”
فقالوا أن الشيطان مس سيدنا أيوب بنصب وعذاب, ورووا في ذلك رواية من الإسرائيليات تحكي تسلط الشيطان على أيوب وأهله!

والآية لم تزد عن قالت أنه مسه بنصب وعذاب, لا أنه دخل فيه وتحكم في عقله, ولو كان كذلك لما أحس به أصلا! والمفسرون مختلفون حول الآية, فمنهم من يقول بما ورد في الإسرائيليات
ومنهم من يقول أن النصب والعذاب الذي أصاب أيوب هو من الخواطر التي ألقاها الشيطان في صدره, فأصابه بالهم والغم الشديد بسبب حدوث المكروه وزوال الخيرات.

وأعجبني ما قاله الإمام أبو بكر بن العربي, والذي أورده الإمام القرطبي في تفسيره, تعليقاً على هذه الإسرائيليات –بعد أن أوردها!-, فنذكره هنا رداً على من يقبلون بهذه الخرافات:

“وذكروا كلاما طويلا في سبب بلائه ومراجعته لربه وتبرمه من البلاء الذي نزل به، وأن النفر الثلاثة الذين آمنوا به نهوه عن ذلك واعترضوا عليه، (…….)
قال ابن العربي: ما ذكره المفسرون من أن إبليس كان له مكان في السماء السابعة يوما من العام, فقولٌ باطل؛ لأنه أهبط منها بلعنة وسخط إلى الأرض، فكيف يرقى إلى محل الرضا، ويجول في مقامات الأنبياء ، ويخترق السموات العلى، ويعلو إلى السماء السابعة إلى منازل الأنبياء، فيقف موقف الخليل؟!
إن هذا لخطب من الجهالة عظيم.

وأما قولهم: إن الله تعالى قال له: هل قدرت من عبدي أيوب على 

وأما قولهم: إن الله قال قد سلطتك على ماله وولده. فذلك ممكن في القدرة، ولكنه بعيد في هذه القصة. وكذلك قولهم : إنه نفخ في جسده حين سلطه عليه فهو أبعد، والباري سبحانه قادر على أن يخلق ذلك كله من غير أن يكون للشيطان فيه كسب حتى تقر له -لعنة الله عليه- عين, بالتمكن من الأنبياء في أموالهم وأهليهم وأنفسهم.

وأما قولهم: إنه قال لزوجته أنا إله الأرض، ولو تركت ذكر الله وسجدت أنت لي لعافيته. فاعلموا وإنكم لتعلمون أنه لو عرض لأحدكم وبه ألم, وقال هذا الكلام ما جاز عنده أن يكون إلها في الأرض، وأنه يسجد له، وأنه يعافي من البلاء، فكيف أن تستريب زوجة نبي؟! ولو كانت زوجة سوادي أو فدم بربري ما ساغ ذلك عندها.

وأما تصويره الأموال والأهل في واد للمرأة فذلك ما لا يقدر عليه إبليس بحال، ولا هو في طريق السحر فيقال إنه من جنسه. ولو تصور لعلمت المرأة أنه سحر كما نعلمه نحن وهي فوقنا في المعرفة بذلك؛ فإنه لم يخل زمان قط من السحر وحديثه وجريه بين الناس وتصويره.

قال القاضي: والذي جرأهم على ذلك وتذرعوا به إلى ذكر هذا قوله تعالى: “إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب”, فلما رأوه قد شكا مس الشيطان أضافوا إليه من رأيهم ما سبق من التفسير في هذه الأقوال.

وليس الأمر كما زعموا والأفعال كلها خيرها وشرها, في إيمانها وكفرها، طاعتها وعصيانها، خالقها هو الله لا شريك له في خلقه، ولا في خلق شيء غيرها، ولكن الشر لا ينسب إليه ذكرا
وإن كان موجودا منه خلقاً؛ أدباً أدّبنا به، وتحميداً علمناه. (…….) والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات؛ فأعرض عن سطورها بصرك، وأصمم عن سماعها أذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالاً، ولا تزيد فؤادك إلا خبالاً ” ا.هـ

وهذا الكلام الذي أورده الإمام القرطبي عن الإمام أبو بكر بن العربي كلامٌ ثمين, يوضح كيف كان وينبغي التعامل مع هذا الخرافات, وفيه ردٌ على من يفسرون الآية كبرهان على أن الشيطان يُمرض الإنسان!

والآية غاية في الوضوح, فسيدنا أيوب يشكو مس الشيطان له بنصب وعذاب, فهو يوسوس له ويحاول أن يقنطه من إيمان قومه, أو بأي أفكار أخرى–وغالب الأمراض العضوية أصلها نفسي

فالنبي كان يتألم لإعراض قومه وأهله حتى مرض, فقال الله له اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب, ولما شفي وهب الله له أهله وآخرين, وليس معنى ذلك أن أهله كانوا قد ماتوا فأحياهم الله له, بل يعني أنهم آمنوا به مع غيرهم رحمة من الله, وذلك مثل قوله تعالى: “وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً [مريم : 53]”, ولا يعني هذا أن هارون أُحيي لموسى!

ولما كان سيدنا أيوب مؤمناً حق الإيمان, دعا الله أن يذهب ما في صدره, وأن يذهب عنه هذا المرض, لأنه ليس مما يليق بمؤمن أن يكون في مثل هذه الحالة, فاستعاذ بالله فأعاذه, فأين الدليل على التحكم والدخول؟!


تحكيم الروايات

رأينا كيف أن القرآن لم يقل بشيء مما قالوا, وأنه يخالف دعواهم, وعلى الرغم من ذلك فإنهم يعتبرون قولهم هو التفسير الصحيح للكلمة, وذلك لورود بعض الروايات عن النبي الكريم تقول بدخول جن في البشر, ومن ذلك ما رواه ابن ماجة في سننه:

“عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ:
لَمَّا اسْتَعْمَلَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ عَلَى الطَّائِفِ جَعَلَ يَعْرِضُ لِي شَيْءٌ فِي صَلاَتِي حَتَّى مَا أَدْرِي مَا أُصَلِّي، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ رَحَلْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ. فَقَالَ: ابْنُ أَبِي الْعَاصِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَرَضَ لِي شَيْءٌ فِي صَلَوَاتِي حَتَّى مَا أَدْرِي مَا أُصَلِّي. قَالَ: ذَاكَ الشَّيْطَانُ, ادْنُهْ. فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَجَلَسْتُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيَّ.
قَالَ: فَضَرَبَ صَدْرِي بِيَدِهِ، وَتَفَلَ فِي فَمِي, وَقَالَ : اخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ.
فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ قَالَ : الْحَقْ بِعَمَلِكَ.
قَالَ : فَقَالَ عُثْمَانُ : فَلَعَمْرِي مَا أَحْسِبُهُ خَالَطَنِي بَعْدُ. ” ا.هـ

فيتخذون من هذه الرواية –على الرغم من ضعفها سنداً- متكئاً! ولو نظرنا في صحيح مسلم لوجدنا أن الإمام مسلم يرويها بشكل مختلفٍ تماما, فيقول:
” ….. حدثني عثمان ابن أبي العاص الثقفي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له:
أم قومك. قال قلت يا رسول الله: إني أجد في نفسي شيئا. قال: ادنه.
فجلسني بين يديه ثم وضع كفه في صدري بين ثديي ثم قال: تحول, فوضعها في ظهري بين كتفي ثم قال: أم قومك, فمن أم قوما فليخفف فإن فيهم الكبير وإن فيهم المريض وإن فيهم الضعيف وإن فيهم ذا الحاجة, وإذا صلى أحدكم وحده فليصل كيف شاء. ” ا.هـ

فكما رأينا, فالحديث هنا عن شيء في صدره, كبرٌ أو وسواس, وليس شيطاناً يكمن في داخله يتحكم فيه! بل ونجد الرواية عند مسلم بشكل آخر, فيقول:
“عن أبي العلاء: أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي صلى الله عليه و سلم, فقال: يا رسول الله, إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي.
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه, واتفل على يسارك ثلاثا. قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني ” ا.هـ

والذي يظهر أن الرواة خلطوا بين الروايتين هذه والسابقة فأخرجوا منها شكلاً جديدا, هو ما وجدناه عند ابن ماجة, وبدلاً من أن يكون الرجل يتفل على يساره, أصبح النبي يتفل في فم الرجل!! وبعد أن كان شيطاناً يوسوس أصبح شيطانا في داخله, يأمره النبي بالخروج منه!

وحديث ابن ماجة على الرغم من ذلك ليس صريحاً في إثبات دخول الجن في الإنسان والتحكم فيه, لأنه يتحدث عن وسوسة في الصلاة, وهي حاصلة عند كل المصلين, ولم تذكر الرواية أنه خرج منه شيء!

لذلك فإن عمدة أدلتهم هو ما رواه الإمام أحمد في مسنده:
“….. عن بن عباس: أن امرأة جاءت بولدها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت: يا رسول الله, إن به لمما وإنه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا.
قال: فمسح رسول الله صلى الله عليه و سلم صدره ودعا له. فتع تعة فخرج من فيه مثل الجرو الأسود فشفي ” ا.هـ

فهذه الرواية تتحدث عن شخص مجنون, تأتيه بعض النوبات, ولمّا دعا له الرسول خرج من فمه شيء مثل الجرو الأسود! فهذا دليلٌ صريح على التلبس وعلى تأثير الجن في الإنسان وإصابته بالصرع وخلافه.
إلا أنه يشغب عليهم أنها –وكل الروايات المشابهة- ضعيفة سنداً , مردودة متناً لمخالفتها القرآن والعقل والعلم!

والآفة الكبرى أن هناك من يدافع عنها باستماتة! لأنه يعدها من عقائد أهل السنة والجماعة, فإذا أقر بضعف هذه الروايات, يقول أن هناك روايات صحيحة تقول بذلك, ومن ثم يدلل عليها بروايات ليست في موضع الاستدلال, مثل ما ورد أن النبي قال أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم!

وهي مقولة تتحدث عن الشك الموجود عند الإنسان, ليس أكثر, وذلك لأنها قيلت لما قام الرسول الكريم ليقلب زوجه صفية, والتي أتت لزيارته في معتكفه, فلما رآه صحابيان أسرعا, فقال لهما: على رسلكما, إنها صفية, فقالا: سبحان الله! –أي أنهما لا يمكن أن يشكا في النبي

فهنا قال النبي مقولته الشهيرة “إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم”.
ونجد أن مسلم زاد ” وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا أو قال شيئا”, فهذا دليلٌ صريح على أنها في الوساوس والظنون!

وكذلك يستدلون بما رواه البخاري في صحيحه:
“عن ‏‏أَبُي هُرَيْرَةَ ‏‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏يَقُولُ: ‏ ‏مَا مِنْ بَنِي ‏آدَمَ ‏ ‏مَوْلُودٌ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ, فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ غَيْرَ ‏مَرْيَمَ ‏‏وَابْنِهَا.
ثُمَّ يَقُولُ ‏‏أَبُو هُرَيْرَةَ: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. ” ا.هـ

وعلى الرغم من أن الرواية تظهر إبليس بشكل أقرب إلى الإله, وعلى الرغم من أن مختلقها نسي أن أم مريم لم تدع هذا الدعاء إلا بعد ولادة مريم, وبعد أن عرفت أنها أنثى, وهذا يعني أن الدعاء تحقق بأثر رجعي!! وعلى الرغم من أنه ليس حكراً على مريم وذريتها, فمن المكن أن يدعو أي إنسان بهذا الدعاء! ‏

على الرغم من هذا كله, فإن هذه الرواية ليست دليلاً على ما يقولون, وإنما هي دليلٌ على أن الشيطان يصيبه بشيء, فمن أجل ذلك يبكي عند ولادته!
وهو تفسير خرافي لحدث واقع لا يعرف الناظر له علة, لذلك نُسب إلى الجن كفاعلٍ خفي! كما كان يفعل الجاهليون!!

إن مشكلة أرباب مدرسة الحديث, أنهم يحكمونه في القرآن, بدلاً من أن يجعلونه تابعاً له, وذلك راجع لأنهم أفنوا أعمارهم فيه, أما القرآن فليس لجلهم به علم!
والواجب على كل مسلمٍ أن ينظر أولاً في كتاب الله لينظر ماذا يقول بشأن أي مسألة, ثم ينظر بعد ذلك في الروايات, ليخبر هل توافق الكتاب العزيز أم لا, فإن وافقت فبها ونعمت, وإن لم توافق كان من الواجب ردها!

فإذا نظرنا في كتاب الله وجدنا أنه لم يتحدث في آية واحدة عن دخول “جن” في جسم الإنسان, بل إن المشركين الذين حكا القرآن قولهم, وردّ عليهم, لم يقولوا أن النبي الكريم يأتيه جن, يلقي الكلام على لسانه, وإنما كانوا يقولون: “به جنة”
” إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ [المؤمنون : 25]”
“أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ [سبأ : 8]”
“أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ [الأعراف : 184]”

وذلك لأن “الجن” كما قلنا هو القوي الفائق, أم “الجنة” فهي كائنات غير بشرية, وحتى قول المشركين أن به جنة, لا يعني أن هناك كائن متلبس بالنبي, وإنما كانوا يقصدون أن هناك كائن يأتي النبي الكريم فيلقي بالقرآن على لسانه, كما كانت شياطين الشعراء المزعومة تلقي القصائد الجيدة على ألسنتهم.
ففي جميع الحالات لا يقصدون أن هناك جان متلبسٌ بالنبي أو بالشاعر, يجعله يتصرف بخبل!

وبما أننا نتكلم عن “به جِنة“, فنلفت انتباه القارئ إلى أن تعبير “به جنة” وكذلك “مجنون” المذكوران في القرآن, لا ينبغي أن نفهمها بالمدلول المعاصر, فهما لا يعنيان أبدا أنه مخبول لا يعقل أويتصرف بطيش, وإنما يعنيان أنه صاحب جِنة, وأن ما يقوله ليس من عنده, وإنما يُلقى على لسانه!

فلم يكن أهل قريش بعظيمي الحمق حتى يقولوا أن من يأتي بمثل هذا القرآن مخبول, فإذا كان من يختلق هذا مخبولا, فما هو حال الباقين؟! وإنما كانوا يريدون التعريض به والقول أنه شاعر عظيم أو معلم حسن التعلم, غريب الأطوار والأقوال, يسجع كما يسجع الكهان! إلا أنهم لم يعنوا أبدا ب “مجنون” أو “به جنة” الاستعمال المتأخر الذي أصبحت الكلمة تستعمل به!

وتدبر عزيزي القارئ الآيات القادمة تجد معناها أكثر استقامة على قولنا:
“وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ [الصافات : 36]
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ [الدخان : 14]
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات : 39]
فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ [الطور : 29]”

سلطان الشيطان

على الرغم من أن القائلين بركوب الشيطان الإنسان يقرون بأن الإنسان هو الخليفة في الأرض, إلا أنهم لا يجدون حرجاً في أن يكون لمخلوق طفيلي تابع سلطان عليه, ولا يجدون في هذا تعارضاً مع تكليفه وتشريفه!

والناظر في القرآن يجد أن لا مستند لهم في دعواهم, فالله العليم قد ذكر السلطان الذي مُنح لإبليس –وهو كبيرهم- في اعترافٍ يقدمه إبليس بنفسه في اليوم الآخر, وهو قوله تعالى:
” وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم ….. [إبراهيم : 22]”
فهو نفسه يقول أنه لم يكن له سلطان علينا إلا أن دعانا فاستجبنا له, وأن علينا أن نلوم أنفسنا وليس هو.

ونلاحظ أن الله تعالى استخدم أسلوب الحصر القصر “ما … إلا”, فلم يقل: أنا دعوتكم فاستجبتم, وإنما قال أنه سلطانه كان محصورا في دعوتنا, فهل نكذب كلام الله ونقول أن القصر لا يفيد الحصر, وأنه كان له علينا سلطان الدعوة وكذلك التحكم والإمراض!!

كما أن الله تعالى بيّن أن هذا السلطان ليس على كل البشر, وإنما على من يتبعونه فقط, فإذا أنت أطعته كان له سلطان عليك:
” إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر : 42]”
” إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل : 99-100]”
فليس له سلطان على المتوكلين على الله وإنما فقط على الذين يتولونه, فيجرهم إلى الهلاك, ويجعلهم من أعوانه وجنوده.

والله تبارك وتقدس بيّن لنا في كتابه كيف هو هذا المس الذي يمكن أن يمسه الشيطانُ الإنسان, وأنه لا يزيد عن الوساوس, وعرّفنا كيف يمكن إبطاله, وأن ذلك يكون بالاستعاذة.

وللعلامة الشعراوي -رحمه الله- لطيفة في تناوله للآيات التي تتعلق بحقيقة المس, يقول فيها:
“ويجب أن نلاحظ أن الله عز وجل قد فرّق في الحديث بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أمته .. فعندما خاطب رسوله عليه الصلاة والسلام قال: “وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم” .. ولكن عندما خاطب أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
“إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف : 201]”

إذن فعندما تكلم الحق عن المؤمنين .. انتقل إلى المس, ولكن من رحمته أنه لم ينتقل إلى مرحلة اللمس (الالتحام) ..
فالشيطان لا يلتحم بإنسان مؤمن .. وإنما يكون على مسافة قريبة منه .. ماذا يحدث في هذه الحالة؟ .. يتذكر المؤمنون قدرة الله عز وجل على الشيطان .. ويتذكرون أن منهج الله يحميهم من الشيطان. ” ا.هـ

كما أن الرب العليم يقول:
“و َلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء : 141]”

فإذا كان الجن –الكافر طبعا- يركب الإنسان ويسيطر على عقله, فقد سيطر عليه وأسقط عنه التكليف, والله ينفي أن يكون للكافرين على المؤمنين سبيلا, فهل هناك سبيلٌ أقوى من هذا؟

فكيف ندعي بعد هذا كله أنه –أو أياً من أتباعه- يستطيعون أن يدخلوا في جسد الإنسان ويتحكموا فيه؟!
إن هذا القول مخالفٌ للقرآن أشد المخالفة, لذلك فلا يمكن القبول به بحال,

وليست هذه هي الأدلة فقط من القرآن, فهناك أدلة أخرى تؤكد لا عقلانية هذا الأمر, وأنه خرافة في خرافة, وأنه يهدم نفسه بنفسه, وسيعجب القارئ كيف لم ينتبه إلى التناقضات في هذه المسألة.

أسباب المس

إذا نظرنا في الأسباب التي يذكرونها سبباً للمس –تبعا لتصورهم- نجد عجباً, وأموراً لا منطق فيها, فمما ذكره أحدهم في ذلك:
“ويمكن تلخيص أسباب مس الجن للإنس فيما يلي:
1- عشق الجني للإنسية, أو عشق الجنية للإنسي.
2- ظلم الإنسي للجني, بصب ماء ساخن عليه, أو بالوقوع عليه من مكان عالٍ وغير ذلك.
3- ظلم الجني للإنسي, كأن يمسه دون سبب, ولا يتسنى له ذلك, إلا في حالة من هذه الحالات الأربع:
1- الغضب الشديد 2- الخوف الشديد
3- الانكباب على الشهوات 4- الغفلة الشديدة ” ا.هـ

وبغض النظر عن أن هذه الأسباب ظن وتقول ما أنزل الله به من سلطان, فإنها كلها أسباب لا منطقية, فإذا عشق الإنسان القرد فمن الممكن أن يعشق الجن البشر, وإذا كان من الممكن أن يؤذي المادي اللامادي فمن الممكن أن يؤذي الإنسان الجن!!

إن القائلين بالمس حاولوا أن يوجدوا أسباباً يحدث معها المس, حتى لا يُسألوا لماذا لا يركب الجن كل البشر؟!

وهي أسباب عقيمة ساذجة, تنبئ عن عقلية المصدقين بها, فإذا كان هناك من يقول أن الجلوس بين الظل والشمس قد يؤدي إلى تلبس الشيطان الإنسان, وهناك من يصدق بهذا الدجل, فماذا ننتظر من هذه العقول!!

إن الخوض في هذه المسائل حديث عن الظن بالظن, فنتركه لمن يقبلونه في دينهم, ونقصد كتاب ربنا اليقيني, نستخرج منه النافع والقطعي.


القرآن شفاء … أم عذاب؟

الناظر في الكتاب العزيز يجد الرب العليم الخبير يقول:
“وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً [الإسراء: 82]” ,
ويقول: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [ يونس: 57]”
ويقول: “وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [ الأعراف: 154]”

فالله تعالى يقول أن كتبه كلها هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور, والذي لا يتبعها يكون من الخاسرين, فكيف يؤذي القرآن الجن؟

إن المشعوذين والدجالين يدعون أنهم يخرجون الجن بالقرآن, لأنهم يخافون من أن يحرقهم القرآن إذا قرأه الدجال عليهم! فإذا كان القرآن يؤذيهم لدرجة أنه قد يحرقهم أو حتى يسبب لهم الآلام الشديدة!!
 
فكيف نطالبهم بالإيمان به وبالاستماع إليه حتى يدخلوا في الإسلام؟! وكيف استمع الجن المزعوم إلى القرآن أيام الرسول و لم يحترقوا؟!

نعم, نحن نعلم أن القرآن يقول عن نفسه: “…… قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى … [فصلت : 44]”
ولكن هذا يعني أنه لا يجدي معهم نفعاً, وأنهم لن يستجيبوا له, وسيكرهون سماعه, لأنه يحرك ضمائرهم الميتة, إلا أن هذا لا يعني أنه يحرقهم!!

ولنا أن نتساءل: إن القرآن يُتلى في كل مكان في العالم الإسلامي –على الأقل-, في البيوت وفي المساجد وفي الطرق وفي وسائل المواصلات … الخ, أفلا يسمع الجن الموجود داخل الإنسان القرآن؟

بداهةً هو يسمعه شاء أم أبى, ولا يؤثر فيه بتاتا, فلماذا يؤذيه إذا كان فقط من الشيخ الذي سيخرجه؟ هل ربما لقبح صوته؟!

وإذا قلنا أنه لا يؤذيه إلا القرآن الذي يتلوه من يظن أنه يعالج بالقرآن, فلنا أن نتساءل: لماذا لا يخرج الجان عند مجيء الشيخ العبقري البركة, ويدعه يضرب المسكين حتى يكاد يهلكه, ثم يعود مرة أخرى بعد انصراف الشيخ, فيدخل فيه؟!
أم أن الله –تعالى وتقدس- أعطى الجان رخصة لدخول الإنسان مرة واحدة فقط, ولا يُسمح له أو لغيره بدخوله بعد ذلك؟!!!

وإذا حدث ومات المضروب تأثراً بضرب الشيخ, هل نطبق على الشيخ حكم القتل العمد, أم نطبقه على أهله أم على كليهما؟! ولست أدري ما الدليل على أن الجن يتأثر بالضرب المادي, الذي ينزل على جسم البشري؟

إن البشري هو الذي يُضرب, وإذا كان أحدٌ يتألم فهو فقط (جسداً ونفساً) فما علاقة الجن بهذا, هل حل الجن محل نفس (روح, تبعاً للتصور الغير صحيح) الإنسان, فأصبح هو نفسه وروحه؟!

وإذا كان الجن يتأثر بالضرب الذي يقع على جسد البشري, فإن هذا يعني أن الجن هو الذي يُفترض أن يموت إذا ما أصاب البشري ما يميته, لأن البشري أصبح كالغلاف له, وأصبح هو المتأثر!!!

وكما رأينا فالمسألة متناقضة, مخالفة لكتاب الله صريح المخالفة, وما قُبلت إلا لبعد الناس عن كتاب ربهم, ولعدم تدبره ومعرفتهم بما فيه.

ولا نود أن نظلم الحديث, فنقول أنه هو الذي ورد فيه هذه الفرية, مخالفا للقرآن, فالأحاديث الواردة بهذا الشأن ضعيفة, والصحيحة تُلوى أعناقها حتى تصبح دليلاً! كما أن هناك في الحديث ما يوافق القرآن, ويقول بأن الشيطان ليس له سلطان على الإنسان إلا الوسوسة فقط.

وفي هذا يقول الدكتور جمال أبو حسان:
“وثَمّ أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن تكون في ذات المحل من الاستنباط نذكر منها ما يلي: ورد عن ابن عباس وغيره أن بعض الصحابة شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يجدونه من عنت الشيطان في عباداتهم فقال لهم جوابا ورد بعدة صور هي: “الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة” و “الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة” و “الحمد لله الذي لم يقدر منكم إلا على الوسوسة” و “الحمد لله الذي لم يقدر لكم إلا على الوسوسة” . ولم أقرأ لأحد ممن اعتنى بالحديث أنه ضعف هذا الحديث أو طعن فيه.

بل قال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تحقيقه على المسند: حديث صحيح على شرط الشيخين . بل لقد وجدت عالماً كبيرا من علماء الحديث يعقد بابا من أبواب كتابه فيسميه: “باب ذكر البيان بأن لا قدرة للشيطان على ابن آدم إلا على الوسوسة فقط”. وذلك استنباطا من هذا الحديث .

وهذا الحديث بألفاظه المختلفة هو من قبيل القصر الحقيقي بلا ريب، فهو يقصر فعل الشيطان على الوسوسة، ويحصر فعله فيها وحدها .” ا.هـ

وكما رأينا فالكتاب يؤكد أنه لا سلطان له إلا أن يدعونا إلى فعل المعاصي, وأن كيد الشيطان ضعيف, والصحيح الثابت من قول الرسول يقول بذلك, فهل لمدعٍ أن يدع أن له سلطان غير ذلك؟!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

توحيد الروايات

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله ربنا وخالقنا ومالك أمرنا، بيده الخلق والتدبير والتصريف، يهدي من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.