وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه!

الحمد لله رب العالمين وصلاة على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله ومن اقتدى بهديه وهدي النبيين المرسلين إلى يوم الدين, ثم أما بعد:

من عجائب الدهر أننا وجدنا بعض المسيحيين يدعون أن القرآن صدّق على عقيدتهم في التثليث! وآخرين يدعون أن القرآن لم يقل بتحريف كتبهم وأنه يشهد بصحتها! واستدل بعض القائلين بهذا الرأي بقوله: “وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة : 47]”
فقالوا أنه لو كان الإنجيل محرفاً لما أمر الله تعالى أهله بالحكم به, فلا يمكن أن يأمرهم بالتمسك بكتاب محرف, ومن ثم فهو كتاب سليم.

وهذه الأقوال وشبيهاتها لا يلقي لها المرء بالاً لتهافتها منطقياً, إلا أني علمت مؤخراً أن هناك من قال من المسلمين –استناداً إلى نفس الآية- أن أهل الكتاب غير مطالبين باتباع تعاليم الإسلام وإنما هم مطالبون فقط بالإيمان بالرسول والرسالة!

وحتى لا يقال أننا أسأنا النقل عنه أو قلنا بما لم يقل به, نذكر بالنص ما قاله هذا الأخ القرآني, ثم نرد عليه:
“بالنسبة لليهود والنصارى ، أظن أنهم غير مطالبين بإتباع تعاليم الإسلام هم فقط مطالبين بالإيمان برسول الله كخاتم الرسل وأن رسالته وحي من السماء كما أنهم مطالبين بتصحيح عقيدتهم في التثليث أو في إتخاذ إله مع الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، ولكنهم مطالبين بتطبيق كتبهم التي آتاها الله وأنزلها على رسلهم وأنبيائهم …

وهذه الآيه واضحة الدلاله على أن كل من الأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام قد أنزلهم رب العزة وأمر أتباع كل دين بأن يحكم بما جاء في كتابه ولكن بشرط الإيمان بباقي الأديان وعدم الشرك بالله ثم نستبق الخيرات وإلي الله مرجعنا جميعا ، وقد توعدهم الله بأنهم كافرون وظالمون إن لم يحكموا بالتوراة وفاسقون إن لم يحكموا بالانجيل.

وقد أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بألا يتبع أهواءهم وأكد سبحانه على أنه جعل لكل منا شرعة ومنهاجا ، وهذا يعني أن الأوامر والأحكام والشرائع تختلف من دين لدين ولكن الأصل واحد وهو توحيد الله سبحانه وتعالى لا شريك له.

وهذا يفسر قوله تعالى “ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل ان هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت اهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير” فلو قمنا بالربط بين 1) لاتتبع أهواءهم عما جاءك من الحق (المائده) (2) ولئن إتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم…(البقرة)
3) لكل جعلنا شرعة ومنهاجا (المائدة) (4) لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم (البقرة)
أما عن قوله سبحانه وتعالى” يا ايها الذين امنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء بعضهم اولياء بعض ومن يتوله] منكم فانه منهم ان الله لا يهدي القوم الظالمين” المائدة 51 ،

]02فإنها تحمل على معنيين أولهما ولاية إتباع لملتهم ويعضد ذلك قوله فإنه منهم وهذا منطقي فإن كان اليهود والنصارى غير مأمورين بإتباع شريعتنا لأن لكل شرعة ومنهاجا فإننا لو إتبعنا شرعتهم ونحن أيضا غير مأمورين بها نكون من الظالمين لمخالفة أمر الله ونكون عمليا منهم (!!!!!!!!!!)، وثانيهما ولاية الكافرين منهم دون الموحدين والمؤمنين برسالة محمد

ويعضد ذلك قوله سبحانه وتعالى” لَا يَتَّخِذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ” آل عمران /28

ولا مجال للسؤال هل كل أهل الكتاب كفار أم أن منهم كفار لأن الله سبحانه وتعالى قال منهم كفار وليس كلهم كفار وأسمع لقوله تعالى
” لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ*1* رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً*2* فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ*3* وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ*4* وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ*5* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ*6* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ*7*”

في هذه الآيات كنوز عظيمة يجب أن نتدبرها أولا قوله من أهل الكتاب ولم يقل كل أهل الكتاب فأهل الكتاب منهم من آمن برسالة محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم مع إستمراره على شريعته ومنهاجه وقد بين الله في هذه السورة أن شريعتهم أيضا فيها إقامة صلاة وإتاء زكاة فهم آمنوا برسول الله وعملوا الصالحات وفقا لما أمرهم الله في شريعتهم وذلك دين القيمة فأصبحوا خير البرية ،
أما القسم الثاني الذين لم يؤمنوا بمحمد وكفروا برسالته كما أنهم لم يوحدوا رب العزة بعبادة غيره من عباده وأنبياءه فأصبحوا شر البرية.

والكنز العظيم في هذه السورة قوله تعالى (والمشركين) ولم يقل والكفار لأن المشرك عرف الله كما عرفه أهل الكتاب ولكنه أشرك به غيره فمشركين قريش مثلا عرفوا الله ولئن سألتهم من خلق ….ليقولن الله إذا هم عرفوا الله ولكنهم أشركوا به غيره فيتساوى معهم الكفار من أهل الكتاب لأنهم عرفوا الله وأشركوا به غيره ،

والمستفاد من هذه الآية أن الكافر الذي لم يعرف الله بالكلية ولم تقام عليه حجة لعدم بلوغها له أو لعدم أهلية مبلغها فهو ليس من شر البرية وما زال في عفو الله والله أعلم” اهـ
وعندما استُدرك عليه قال:
“أخي أنا لم أقل يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام دون الإيمان برسالته وكتابه بل الإيمان بالاسلام كل لا يتجزأ ولكن ما قلته أنه رغم إيمانه برسول الله فهو غير مطالب بتنفيذ أحكام رسالته مكتفيا بتنفيذ الأحكام الصحيحة في كتابه إن كان يهوديا أو نصرانيا.

أما كون أننا نولد مسلمين (على الملة الحنفية) أومسلمين(يهود) أو مسلمين (نصارى ) أو ظالمين لأنفسنا من جميع الأديان السابقة أو مشركين أو كفار فذلك تقدير العزيز الحكيم ولكن عند بلوغنا حد المعرفة والبحث وهذه في الحقيقة لا يبلغها الكثير من الناس فنكون مطالبين بالبحث والاختيار لقوله تعالى” فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”

فالإيمان والكفر ردهم الله لمشيئة العبد لحكمة يعلمها فإن أخترنا الحنفية مثلا فوجب علينا كمسلمين بها أن نتبع شريعة رسول الله محمد عليه السلام وإن إخترنا النصرانية فوجب علينا كمسلمين بها إتباع شريعة رسول الله عيسى عليه السلام وفي النهاية نحن محاسبين على إختيارنا وعلينا أن نستبق الخيرات ثم إلي الله مرجعنا فينبئنا بما كنا فيه نختلف والله ما خلقنا إلا لنعبده ومن رحمته أن جعل أصل الاعتقاد واحد إذا فالجميع مسلمين وجعل الشرائع مختلفه.” اهـ

وكما رأينا من كلام الأخ شريف أنه تكلم في موضوع يتعلق بالإيمان بالظن! فبدلاً من يقول بما في الآيات حملها ما في رأسه, ولست أدري أين قالت الآيات أن الله أمر أتباع كل دين أن يحكم بما في كتابه بشرط الإيمان بباقي الأديان؟! وأين قالت الآيات –أو التاريخ- أن هناك من آمن من أهل الكتاب بالنبي واستمر على شريعته؟!!

ويبلغ قمة التناقض عندما يقول أن الإسلام كل لا يتجزأ إلا أن اليهودي أو النصراني مثلاً غير مطالب بتنفيذ أحكام الإسلام!!!! وإنما ينفذ الأحكام الصحيحة في كتابه!!! ولست أدري من يحدد له أن هذه الأحكام صحيحة وأن هذه غير صحيحة؟!! ولست أدري كيف يكون القرآن مهيمنا على الكتب الأخرى وآومن به ثم لا أطبق أحكامه؟!

إن آفة هذا القول وأمثاله هو فكرة تشطح بالذهن فينظر في الآية فلا يجد ما يخالفها فيقول بها, وينسى أن هذه الآيات واردة في وسط آيات أخرى تتحدث عن موضوع ما, وهذا السياق العام هو الذي يحدد وجهة الآيات, لذا نذكر للقارئ الكريم السياق الذي وردت فيه الآية ليبصر ماذا يقول:
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ..

وكما رأينا فالميثاق الذي أخذ على نقباء بني إسرائيل منذ بداية البعثة أن يؤمنوا بالرسل (التي ستأتي فيما بعد بداهة), وأن من يكفر يضل, فلما نقضوا الميثاق لعنوا وقست قلوبهم فحرفوا ونسوا.

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ

والرسول أتى يبين كثيرا مما كانوا يخفون وهناك كثير آخر (مخفي) يُعفى عنه, لأنها كانت أحكاما مؤقتة, وبالرسول الهداية والخروج من الظلمات إلى النور.

والملاحظ في السورة أنها ترتبط دوما بين اليهود والنصارى وكيف أن هؤلاء في ضلال وأن هؤلاء في كفر بالله لقولهم بألوهية المسيح.

ونصل إلى الآيات المحورية التي يُنهى فيها الرسول عن الحزن على المسارعين في الكفر من المؤمنين باللسان ومن الذين هادوا, وأن الرسول مخير في الحكم بينهم أو الإعراض عنهم, وإن حكم بينهم فليكن بالقسط:

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢)

ثم تُتبع الآية بعدد من الآيات (كجمل اعتراضية) تبين تسلسل التشريع, وتعترض على احتكام اليهود إلى الرسول (الذي لا يؤمنون به) وعندهم التوراة, فإذا كان نبياً فعليهم الإيمان به وبرسالته, وإن كان غير نبي فكيف يحتكمون إليه ويتركون التوراة:

وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ . إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

وعلى الرغم من أن الآية لم تذكر إلا صنفين: نبين أسلموا يحكمون بالتوراة (ويتبعهم: ربانيون وأحبار) والصنف الثاني هو الذين هادوا, ومن المفترض أن يكون الخطاب في الآية للنبيين, لأنهم هم الذين يحكمون بالتوراة, وجدنا المفسرين جعلوا الخطاب لمن في عصر النبي, فقالوا –كما جاء عند الألوسي مثلا-:
“{فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس} خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه والسدى والكلبي ، ويتناول النهي غير أولئك المخاطبين بطريق الدلالة” اهـ
والخطاب هو بالدرجة الأولى للنبيين على امتداد رحلة التوراة.

ثم يبين الله أنه قفى على آثار النبيين بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وأوتي الإنجيل مصدقاً كذلك لما بين يديه من التوراة, وعلى أهل الإنجيل الذين أوتوه من بعد التوراة أن يحكموا به ففيه الفصل لما في التوراة:
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

ثم يبين للنبي أنه أنزل إليه الكتاب, نعم مصدقا إلا أنه مهيمن, ومن ثم فعلى الرسول أن يحكم بما أنزل الله ولا يتبع أهواءهم عن القرآن وعن الرسالة:
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

والملاحظ أن المفسرين لم يفهموا “تتبع أهواءهم ع(ن)ما” كما قالها الله, وإنما فهموها بمعنى “الانحراف أو العدول”, فنجد الإمام الألوسي مثلاً يقول:
الألوسي:
و ( عن ) متعلقة بلا تتبع على تضمين معنى العدول ونحوه كأنه قيل : لا تعدل عما جاءك من الحق متبعاً لأهوائهم ، وقيل : بمحذوف وقع حالاً من فاعله أي لا تتبع أهواءهم عادلاً عما جاءك ، أو من مفعوله أي لا تتبع أهواءهم عادلة عما جاءك ، واعتراض ذلك بأن ما وقع حالاً لا بد أن يكون فعلاً عاماً ، ولعل القائل لا يسلم ذلك ، و { مِنْ } كما قال أبو البقاء : متعلقة بمحذوف وقع حالاً من مرفوع { جَاءكَ } أو من ( ما ) ، ” اهـ

فبدلاً من أن يفهموا الآية بمعنى أن الله ينهى النبي عن إتباع أهوائهم عن (حول) الحق, مثل قولهم أنه لا يجب عليهم إتباعه حتى ولو كان نبياً فحسبهم التوراة, قالوا أن المقصود ألا يحيد عن الحق, ومن ثم جعلوا الآية مثل اللاحقة “واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك”
ثم تأتي الجملة المحورية والتي فُهمت على غير ما أنزل الله وبُني عليها أحكام فقهية شرعية (حول كون الشريعة السابقة ملزمة لنا أم لا) وهي قوله:

“لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا” فقالوا أن الله يقول أنه جعل لكلٍ من اليهود والنصارى والمسلمين شريعة ودينا! ومن ثم أوجدوا تعارضا بين الآية وبين آيات أخرى, مثل: “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى … [الشورى : 13] “

فقالوا كيف يكون الدين واحد ولكل منا شرعة ومنهاجا, ثم خلصوا إلى القول بأن الاتفاق في أصل الدين (التوحيد) بينما الأحكام مختلفة. (وهي النقطة التي اعتمد عليها الأخ القرآني في مقالته)
وكل هذا الاضطراب لأنهم فهموا الآية هكذا: (لكلٍ منكم جعلنا شرعة ومنهاجاً) والله تعالى قال: (لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) وشتان بين الاثنين.
فمن هم المذكورين في “لكلٍ”, ومن هم المعنيون ب “منكم”؟
لو فهمنا الجملة تبعاً للأصناف المذكورة سابقا (أهل الكتاب والنبيين) لوجدنا أن الله يقول أنه جعل لكل من أهل الكتاب, منكم معشر الأنبياء شرعة ومنهاجاً, فمنكم يأخذون الدين وعليهم إتباعكم, ومن ثم فإن أهواءهم حول عدم التزامهم بما أُنزل إليك أقوال لا يُلتفت إليها.

ولو شاء الله لجعلكم أيها النبيين أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم كيف تعملون بها, فهل تتمسكون بها أم تتبعون أقوال الناس وتحريفاتهم, فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون.

وبعد هذه الآيات الاعتراضية التي جاءت بعد قوله ” وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”, يقول الله للنبي: “وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ

إذا وكما رأينا فالله لام على اليهود إعراضهم عن التوراة والالتجاء لغيرها –على الرغم من عدم إيمانهم به- فعلى الكل الإتباع, وإذا جاء النبي فليس لهم الخيار في إتباعه أو تركه, وإنما عليهم الالتزام بالشرعة الجديدة, والله أعلى وأعلم.

والآيات الفاصلات التي تؤكد قولي بأنه يجب على أتباع كل نبي أن يحكموا بشريعته فإذا جاء نبي آخر وجب اتباعه هي قوله سبحانه:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [المائدة : 68]
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ [المائدة : 66]
ومن ثم فلا مجال للقول بأنه يمكن لهم البقاء على شريعتهم!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

حول إنكار العقل الغربي ل “النظام الكبير”!!!

في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.