هل خلقنا الله للاختلاف؟!

حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن آيتين اشتُهر الاستدلال بهما على حتمية الخلاف بين البشر ووصل الأمر إلى القول بأنه من أهم أسباب خلق البشر, وهاتين الآيتين هما قوله سبحانه وتعالى وعظم وجل:

“وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ “
فهل خلقنا الله لنختلف؟
نعم نحن نقر أن الاختلاف طبيعة بشرية لن ترتفع, ولكن ليس هذا من أسباب الخلق, لذا ننظر في أقوال المفسرين في الآية, ويعرفنا الإمام الفخر الرازي باختلاف! المفسرين حول هذه الآية فيقول:
“ثم قال تعالى: {ولذلك خَلَقَهُمْ}
وفيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: قال ابن عباس: وللرحمة خلقهم، وهذا اختيار جمهور المعتزلة. قالوا: ولا يجوز أن يقال: وللاختلاف خلقهم، ويدل عليه وجوه:

الأول: أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى من عوده إلى أبعدهما، وأقرب المذكورين ههنا هو الرحمة، والاختلاف أبعدهما.
والثاني : أنه تعالى لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك الإيمان، لكان لا يجوز أن يعذبهم عليه، إذ كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف.
الثالث: إذا فسرنا الآية بهذا المعنى، كان مطابقاً لقوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
فإن قيل: لو كان المراد وللرحمة خلقهم لقال: ولتلك خلقهم ولم يقل: ولذلك خلقهم.
قلنا: إن تأنيث الرحمة ليس تأنيثاً حقيقياً، فكان محمولاً على الفضل والغفران كقوله: {هذا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى } [ الكهف : 98 ] وقوله : {إن رحمة الله قريب من المحسنين} [ الأعراف : 56 ] .
والقول الثاني: أن المراد وللاختلاف خلقهم.
والقول الثالث: وهو المختار أنه خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف. روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال : خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا ، وأهل العذاب لأن يختلفوا ، وخلق الجنة وخلق لها أهلاً ، وخلق النار وخلق لها أهلاً.” اهـ

ونحن نخالف الإمام الفخر الرازي فيما يقول, فالله تعالى قال: ولذلك, وهذا يعود على المفهوم من الآية, وهو الجعل أمة واحدة! فالناس لا يزالون مختلفين إلا من رحم الله فاتفقوا على الطاعة, ومن اتفق فهو في رحمة الله!

ونلاحظ أن الله تعالى جعلنا شعوباً وقبائل ولكن لم يجعلنا أمة:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات : 13]
وذلك لأن هذا الجعل راجع إلى الاتفاق في اتحاد الأصول والمواطن, بينما لا يكون مجموع هؤلاء الأفراد أمة إلا باتحاد واتفاق الهدف والغاية.

ويمكن للقارئ الكريم أن يرجع إلى موضوعنا:
نحو أمة إنسانية واحدة. على هذا الرابط ليستزيد: من هنا

والناظر في الآيات السابقات يستطيع أن يحدد أن المراد من الأمة في هذه الآية هو الجماعة المتبعة المطيعة الممسكة بالكتاب, ويدل على ذلك قوله سبحانه:
“وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ……

فالله بيّن في هذه الآيات بعضاً من أسباب الاختلاف, وكيفية النجاة منها, وأنه يكون بالاستقامة وبعدم الركون إلى الذين ظلموا والمحافظة على الصلاة والصبر, وأنه لو كان (هلا كان) هناك أولوا بقية من شريعة وكتاب ينهون عن الفساد لاختلف الحال ولقل الخلاف, ولكن لم يكن منهم من ينهَ إلا قليل من الذين أنجوا منهم!

والعجيب أن الإمام الفخر الرازي فهم الآية بخلاف هذا تماماً, فقال:
“وقوله : { أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ } فالمعنى أولو فضل وخير ، وسمي الفضل والجود بقية لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله ، فصار هذا اللفظ مثلاً في الجودة يقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم ومنه قولهم في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا ، ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله تعالى (……)

ثم قال : { إِلاَّ قَلِيلاً } ولا يمكن جعله استثناء متصلاً لأنه على هذا التقدير يكون ذلك ترغيباً لأولي البقية في النهي عن الفساد إلا القليل من الناجين منهم كما تقول هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم تريد استثناء الصلحاء من المرغبين في قراءة القرآن . وإذا ثبت هذا قلنا : إنه استثناء منقطع ، والتقدير : لكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي .” ا.هــ

ونحن نرى والله أعلم أن المراد من أولو البقية أنهم الذين معهم بقية كتابٍ أو علم ٍ بالكتاب, وأن الاستثناء متصل كما بيّنا بأعلى وليس منفصلاً بحال.

وكذلك من أسباب الاختلاف اتباع الظالمين ما أترفوا فيه, والله لا يهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون, وهو لو شاء لجعل الناس أمة, وسيظل الاختلاف إلا من رحمهم الله فأصبحوا أمة واحدة بشرعته ودينه, وتمت كلمته ليملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين الذين اختلفوا ولم يكونوا من الأمة الواحدة العابدة المطيعة لله.

إذا فالله لم يخلقنا لنختلف وإنما الاختلاف من طبع البشر وعليهم العمل لرفعه, وشرط الاتفاق هو وجود ما يُتفق عليه, وهو الكتاب الرباني المضمون الصحة بخلاف كل ما تنتجه عقول البشر فلا ضمان له, فبالكتاب يحدث الاتفاق والاجتماع على أصول الأمور, وما بعده من الاختلاف فهو من المسموح به المطلوب والذي هو اختلاف تنوع وليس اختلاف تناقض, والله أعلى وأعلم.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

التقديس لدرجة الهجران و التهميش

يقدس الناس في بلادنا العربية و الإسلامية الدين أيما تقديس و هذا أمر حميد في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.