من المقولات التي انتشرت مؤخرا، والتي أصبحت تُكرر باعتبارها مسلمة ثابتة مقولة:
“الحياة ليست عادلة”
وبغض النظر عن أنها نابعة من منظور “عبثي” للحياة والكون كله!
بغض النظر عن هذا لي أن أتساءل:
هل الحياة “صفقة تبادلية” .. عملية بيع وأجر!
فأعطيك شيئا فتعطيني قيمته أو أجرا عليه … مباشرة؟!
يقينا ليست الحياة كذلك!
فقد أحسن إلى شخص ولكنه -قد- يقابل هذا الإحسان بإساءة!
ولكن في المقابل قد أحسن إلى أشخاص آخرين فيقابلون الإحسان بإحسان (وهو الأعم الغالب)
وقد أحسن إلى شخص فيقابل هذا الإحسان بإحسانات مضاعفة أكبر بكثير مما قدمت له!
(ناهيك عن ذلك الشخص الذي جحد قد يقابل الإحسان بإحسان في مرحلة لاحقة)
وهكذا هي الحياة فلا يشترط أن تعطيك أجرك مباشرة بعد انتهاء عملك
فقد يأتيك بعد فترة قصيرة أو طويلة.
وكذلك قد يذنب إنسان ولا يُعاقب .. وينجح في الإفلات من العقاب!
نعم قد يفلت من العقاب الدنيوي .. ولكن يظل هذا استثناء، بينما الأكثرية ينالهم العقاب!
(ونغض الطرف عمن يفلت من العقاب المؤسساتي .. ولكنه لا يفلح في الإفلات من عقاب النفس!)
وقد يُجد إنسان ويجتهد ولا ينجح وينجح غيره بالواسطة أو بالمال!
ولكن يقينا فإن هذا المجد قد اكتسب خبرة ومعرفة تؤهله لأن ينجح في مرحلة لاحقة
(وكلنا يعرف الكثير والكثير من الشركات التي كان يريد مؤسسوها أن يبيعوها لكيانات عملاقة ويكسبوا منها مئات الملايين ثم لم يوفقوا واستمروا وأصبحوا هم كيانات أكبر استطاعات إزاحة الكيانات السابقة لها)
وقد يتصدر أناس المشهد سواء الفني أو الأدبي أو الفكري وهناك من هم أفضل منهم ولا يصلون إلى معشار ما وصل إليه هؤلاء من غير ذوي الإبداع.
بغض النظر عن أن هناك الكثيرين من المبدعين الذين اشتهروا في نهاية حياتهم أو حتى بعد وفاتهم واستمرت أعمالهم الجيدة، بينما طوى النسيان تلك الأعمال السطحية!
بغض النظر عن هذا أقول:
النجاح والظهور في الحياة يتطلب عددا من المهارات العقلية والاجتماعية والعلائقية والمظهرية .. وليس فقط: الإبداع، ومن يستطيع توظيف أكبر قدر ممكن من هذه المهارات بالتوازي مع إبداعه هو من يستطيع الظهور! ومن ثم فالمسألة عادلة تماما ..
قضية لها العديد من المتطلبات، وهناك طرف يظن أن هناك متطلب واحد فيجد فيه ويجتهد، وطرف آخر اجتهد فيها جلها .. فطبيعي أن يحقق هو النجاح!
وهذا ما أريد أن أختم به:
النجاح والتفوق ليس عملية بسيطة وإنما عملية مركبة، تتقاطع فيها العديد من الأدوار والمهارات والمجهودات، من بينها مثلا: مجهودات السابقين، فالرواد دوما في أي مجال لا يحققون إلا نجاحا ماديا بسيطا (ونجاحا معنويا كبيرا باعتبارهم رواد المجال)، ولكنهم يمهدون الطريق لمن يأتي بعدهم ويضعون له الكثير من القواعد واللبنات، التي يستطيع البناء عليها .. فيحقق اللاحقون نجاحات كبيرة بفضل من سبقوهم ومهدوا لهم الطريق!
إذا فالحياة ليست لقطة ولا مشهد من حياة الإنسان، بل إن حياة الإنسان كلها قد تصبح هي لقطة في الحياة، بحيث يكمل بعضنا بعضا هذه اللقطات، فهناك لقطات متوازية يبني فيه المرء على جهد زملائه أو حتى والديه وهناك لقطات متتالية يبني فيها الإنسان على جهد السابقين .. أو حتى على جهده السابق هو نفسه والذي أنفق فيه سنوات طوال من عمره حتى استطاع الوصول إلى ما وصل إليه!
وكما الحال في النجاح فكذلك الحال في الفشل، فعندما يفسد المجتمع ويعم فيه الانحراف والسبل غير القويمة، فإن الإنسان يتحمل تبعات هذا الفساد والانحراف للسابقين، وذلك لأن الإنسان لا يحيى حياة مستقلة منعزلة، وإنما حيواتنا هي حيوات متداخلة متقاطعة .. مؤثرة متأثرة، ولذلك فكما أن الآباء -والمجتمعات- يحملون أبناءهم، ولا يوجد إنسان مجتمعي يبدء الحياة من الصفر، فكذلك المجتمعات تعيق وتؤذي أبناءها، بتعقيداتها وفسادها!
ويقينا فإن على الأبناء أن يواجهوا هذا الفساد حتى يحصلوا على حياة أيسر وأسعد!
فإن لم يفعلوا ويتحملوا هذا الواجب، فليس من حقهم أن يشتكوا ويكرروا:
إن الحياة ليست عادلة!
فهم من لم يسع لتحقيق العدالة!
وإنما أرادوا أن تتحقق هكذا من تلقاء نفسها .. بل وتزيح الفساد!
وهو ضرب من “فساد الفكر”
حولالمنظورالقصير_المقتطع
الفلسفة التسييقية