بين سيد قطب ونيتشه

غريبة هي تلك التشابهات التي يراها الناظر المدقق في التاريخ بين الأحداث التي مرت بها شخصيات كبار في تاريخ البشرية, حتى أنها لتثير دهشتنا من هذه “الأقدار” المكرورة!! التي جرت على هذا وذاك! وقد قدم بعض الباحثين في التاريخ استقصاء لتلك التشابهات والتزامنات بين الشخصيات التاريخية مثل المقارنة بين نابليون وهتلر, ولنكولن وكيندي وغيرهما.

وهنا أحاول أنا أن أثير بهذا الموضوع القصير الانتباه إلى تشابه غفل عنه كثيرون, فما رأيت أحداً كتب عنه, وهو التشابه بين شخصية ونتاج كل من نيتشه وسيد قطب.

(والذي يصلح أن يكون بحثا لنيل درجة الماجستير أو الدكتوراة, ويا حبذا من يتصدى للقيام بهذا البحث, فسيثري بالنتائج التي يخرج بها المكتبة العربية بإذن الله).

نيتشه وسيد قطب

اسمان أثرا كثيرا في عالميهما الغربي والعربي, وحصلا على مكانة فريدة بين أقرانهما, انتقدا مجتمعاتهما نقداً لاذعاً, وبشرا بنتاج “إنساني” جديد سيكون هو الأفضل, كان الله محور حياة كل منهما ومنطلقه! وفي أعمار متقاربة كانت وفاتهما: 56 نيتشه, 60 قطب.

فإذا نحن بدأنا بنيتشه وجدنا أنه ولد في عائلة “دينية”, فأبوه قس بروتستانتي وكذلك كان العديد من أجداده من جهتي الأب والأم من المنتظمين في السلك الكنسي, وفي صغره نظرا لمعرفته بالكتاب المقدس كان أصحابه يسمونه ب “الراهب الصغير”, كما كان يطمح أن يصبح قسيسا عندما يكبر, وبالفعل التحق بجامعة بون لدراسة اللاهوت, إلا أنه سرعان ما تركها وتحول إلى الفلولوجيا (فقه اللغة), أصيب بالعديد من الأمراض,  من أبرزها الزهري الذي التقطه من أحد بيوت الدعارة أثناء دراسته, ومن ثم ظل يعاني لفترة كبيرة من عمره من الضعف والهزال, ووقع في الحب عدة مرات, ولكن بسبب عينيه الحادتين ونظراته المخيفة فشلت هذه العلاقات, وكان أبرز هذه العلاقات وأكثرها تأثيرا هي حبه لتلميذته لو سالومي, لدرجة أنه قبّل الأرض تحت قدميها لكي تقبل به إلا أنها رفضته؛  وتزوجت بآخر, فكان هذا من ضمن الأسباب التي أدت به إلى الجنون.

 ولأنه كان متخصصا في دراسة النصوص الإغريقية قارن بين المنظومة “الإنسانية” الإغريقية التي كانت تمجد القوة وبين المنظومة المسيحية, ومن ثم سقطت المنظومة المسيحية في عينه, وانتقدها انتقادا شديدا, حيث رأى أن الأخلاق المسيحية أخلاق عبيد, رأى فيها منظومة لا تُخرج إلا جماعة من الخانعين المستسلمين المعرضين عن الدنيا, وسمى هذا بالتدجين, ورأى أن المسيحية من الأديان العدمية, التي تهدم ولا تبني وتلجم ولا تحرك, وجعلها في ذلك مثل البوذية, إلا أنه استدرك فجعل البوذية أفضل منها مائة مرة!

كما نقد أصل فكرة النظام الأخلاقي في المسيحية, –. يعد نيتشه أول من درس الأخلاق دراسة تاريخية مفصلة, حتى أنه يمكن القول أن نيتشه كان أقرب إلى أن يكون أخلاقياً من كونه فيلسوفاً بالمعنى المألوف في زمانه – فانتقد نيتشه النظام الكهنوتي الموجود في المسيحية, ورأى فيه تحكما من بعض الأفراد الذين لا يمتكلون أية مقومات خاصة في أقدار وتقييم عامة البشرية, كما انتقد الديمقراطية ورأى فيها مساواة بين البشر وهو ما لا يكون في الطبيعة وسيطرة للغوغاء.

الشاهد أن نيتشه انتقد الأخلاق السائدة في المجتمعات الغربية وأخلاق الرحمة ودعى إلى أخلاق القوة, أن يُقضى على الضعفاء لا أن يُمد لهم يد العون, فإذا رأينا من سيقع فلندفعه وأن نجهز عليه! ينادي بالإنسان الأعلى كإنقاذ للبشرية! فما هو هذا الإنسان وكيف نُنتجه؟ لا يجيبنا نيتشه عن هذه الأسئلة, وإنما يقدم لنا فكرة مجردة, تتجسد فيها إرادة القوة, ملخصها أن كل الكائنات أخرجت من نفسها ما يفوقها, وكذلك الإنسان الذي كان في مبتدأه دودة وتطور حتى صار إنسانا, لا بد أن يُخرج في يوم من الأيام الإنسان الأعلى, وما الإنسان المعاصر في نظر نيتشه إلا جسر مشدود بين الحيوان والإنسان الأعلى, وما الإنسان في حاله هذه إلا قرد مغرق في قرديته. ومن الممكن القول أن مشروع نيتشه الفكري يتلخص في أن الإنسانية تدور بفعل إرادة القوة في دائرة العود الأبدي, وهي تمر أثناء دوراتها بعدة مراحل: أولها مرحلة يؤمن فيها العامة بالتقاليد والأديان ولكن سرعان ما يخرج من بين العامة إنسان أعلى, يقفز بالإنسانية قفزات تسرع بها إلي نهاية الدورة.

الشاهد أن نيتشه نادى بموت الإله, فعلينا أن “نفطم” أنفسنا في اعتمادنا على الإله, وأن نعتمد على أنفسنا, وأن دور المجتمعات أن تعمل على خلق وإيجاد السوبرمان, حتى ولو ضحت من أجل ذلك بالكثير والكثير, ومن ثم يمكننا القول أن نيتشه عمل على إعطاء الإنسان “الأعلى” مكانة “الإله”, فلا يكون السعي لابتغاء مرضاة الإله وخوفا منه, وإنما من أجل هذا الإنسان بأي سبيل كان. وفيما بعد استغلت آراءه بشأن مبدأ القوة والقضاء على الضعفاء من أجل إنشاء مجتمعات قوية من قبل متطرفي النازية والفاشية في حروبهم الدامية.  

 فإذا انتقلنا إلى سيد قطب وجدنا أنه معكوس نيتشه, فنيتشه بدأ بالدين ثم أعرض وانصرف عنه, بينما كان تلقى سيد قطب تعليما “مدنيا” ثم تحول بعد ذلك إلى الدين!

كلاهما كان له تعلق بالفنون في بداية حياته, فنيتشه تعلق بالموسيقى بينما كان سيد قطب أديبا وشاعرا!

كان سيد قطب –كنيتشه- ضعيف البنية إلا أنه كان حاد الألفاظ والعبارات, حتى أن الشيخ علي الطنطاوي تعجب عندما رآه أن يكون كاتب تلك المقالات الحادة الجريئة هو ذلك الشخص ضعيف البنية وذو المظهر المسالم.

كنيتشه أحب سيد قطب مرات ولكن لم تكتمل قصص حبه بالزواج, وظل يعاني بسبب قصص الحب هذه لسنوات طويلة, وكانت هذه القصص سببا في كتابته العديد من القصائد وأن يتحول إلى ذلك الأديب.

كنيتشه انتقد سيد قطب مجتمعاته العربية نقدا لاذعا, ولكن كان السبب هو النقيض, فسيد قطب يرى أنها مجتمعات جاهلية, لأنها “فصلت” نفسها عن ربها! لأنها لا تطبق شرع ربها ولأنها همشت الدين في الحياة! ومن ثم فكلمة الله في هذه المجتمعات ليست هي “العليا”, وهذا ما لا ينبغي بحال, فالمفترض في المجتمعات المؤمنة حقيقة الإيمان أن تكون “الحاكمية” فيها لله, أن يُحتكم وينطلق من شرع الله وهديه, فالفلاح هو بالعودة إلى الرب والتعلق به والخضوع له (على النقيض من نيتشه), فالتحرُّر الحقيقي هو أن تكون الحاكمية العليا في المجتمع لله وحده -متمثلة في سيادة الشريعة الإلهية- فبهذا حصرا يتحرر البشر كلية من العبودية للبشر.

وكنيتشه حلم وبشّر سيد قطب بالمجتمع الجديد الصالح, الذي رآه الصورة المثالية للبشرية (مجتمع السوبرمان × مملكة الله)

وكما كان لنيتشه تأثيرا كبيرا على المدارس الفكرية في أوروبا, كان لسيد قطب أكبر التأثير على الحركات الإسلامية في بداية الخمسينات في القرن الماضي, وانتقد سيد قطب من قبل الكثير من الكتاب بل وحتى المشائخ بسبب أفكاره, والتي رأوا أنه كفّر فيها المجتمعات الإسلامية! (والذي أراه أنا أن سيد قطب رحمه الله لم يكن يقصد تكفير أفراد المجتمعات عند وصفهم بالجاهلية) وهو لم ينطق بهذا وإنما تحدث عن جاهلية سائدة.

واعتمد لاحقا أتباع المدارس السلفية الجهادية أفكاره منطلقا ومستندا لهم (كما استند النازيون والفاشيون إلى فكر نيتشه).

اعتبر سيد قطب من أوائل منظري فكر السلفية الجهادية وذلك منذ ستينيات القرن العشرين / النازية والفاشية!

وكما رأينا فالرجلان كان لهما موقف متضاد تماما في مسألة الإصلاح, فأولهما يرى أن الإصلاح بفصل الإنسان عن الإله, والتخلي عن فكرة الإله وربما “تأليه الإنسان” نفسه, بينما الآخر كان يرى أن الفساد سببه هو البعد عن الإله والتخلي عن هديه, وأن بالتمسك به والعودة إليه سينصلح حال المجتمع. ففي النهاية يشترك الاثنان في أن تصحيح الموقف من الإله هو سبيل الصلاح وإن اختلفا في كيفية هذا الإصلاح. ! فالأول قال بموت الإله من أجل الإنسان, والثاني ألغى “الإنسان” وجعله مجرد مخلوق ساع لإظهار “ملكوت الله” على الأرض.

كانت هذه بعض الملاحظات, التي أرجو من الله أن تكون فاتحة خير لمن يتبناها ويوسعها لاحقا, إنه سميع قريب مجيب, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نهاية التاريخ … الإسلامي!

قبل ما يزيد عن عقدين من الزمان وتأثراً بانتهاء الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا وبعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.