طلب الأخ “عبدو” نقد لفكر الدكتور محمد شحرور, ليس للفكر كله وإنما لنقاط معينة, هي:
1- مسألة الحدود الدنيا والعليا ( حد اعلى وحد ادنى )
2- مسألة الورثة
3- مسالة الاسلام والايمان
4- مسألة القرآن والكتاب والامام المبين واللوح المحفوظ
5- مسالة لباس المرأة
6- الانزال والتنزيل
7- الوصايا والصراط المستقيم
ولقد عرضنا سابقا للمواريث على هذا الرابط:من هنا
كما عرضنا للكتاب والذكر والفرقان على هذا الرابط: من هنا
وهذه المقالات لم تكن لنقد فكر الدكتور شحرور بالدرجة الأولى وإنما لعرض اجتهاداتنا فيها, أما بخصوص نقد فكر الدكتور شحرور فالمشكلة أن فكره مرتبط ببعضه ويحتاج المرء لنقد فكره في نقطةٍ ما بشكل مفصل أن يعرض لأسسه كلها
ومن ثم يكون على الناقد أن يؤلف مقالاً في النقد في حجم كتاب, أو كتاب كامل للرد عليه تفصيلاً.
ولكن بشكلٍ عام يمكن القول أن جزء كبيراً من كتاب الدكتور شحرور هي احتماليات لفهم القرآن, تضاف إلى الاحتمالات الكثيرة التي ذكرها المفسرون في تعاملهم مع القرآن, والتي ما ظهرت إلا لفهمهم كل كلمة بمفردها مستقلة عن السياق العام الذي وردت فيه
ومن ثم وجدنا كلمات قيل فيها ما يزيد عن العشرين والثلاثين قولا وأكثرها لا علاقة بها, وليست العبرة بمنطقية القول أو علميته, وإنما بارتباطه بالنص وتبعيته له وخروجه منه, فكم من قول علمي سليم ولكن القرآن لم يقل به.
ونذكر لك مثالا بسيطا لفهم الدكتور شحرور للنص القرآني اعتماداً على نظريات علمية موجودة, وكيف جعل القرآن يقول بها, على الرغم من أنها لا علاقة لها بالنص, وذلك في تأويله لقول الله: “والفجر وليال عشر”, وتجد هذا على الرابط القادم
من هنا
بعد هذا التمهيد نعرض سريعاً للنقاط التي ذكرتها, ونبدأ بمسألة الحدود والحد الأعلى والأدنى, فنقول:
رأى الدكتور شحرور أنه لا يمكن أن يكون هناك تشريع ثابت صالح لكل زمان ومكان ومن ثم حاول أن يأتي بتصور يجعل التشريع صالحاً فقال بنظرية الحدود هذه, ونحن نقول بهذا لأن القرآن لم يقل بها وإنما هي توجيه وتوصيف للتشريع القرآني, فنجده يقول:
“أما بالنسبة لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم فالوضع يجب أن يكون مختلفا تماما، حيث أن محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل بالإضافة إلى أنه خاتم الأنبياء فكما أن نبوته جاءت بشكل متشابه لكي تصلح لكل زمان ومكان فيجب أن تكون لرسالته خاصية ما تميزها تماما عن الرسالات التي قبل وتجعلها صالحة لكل زمان ومكان، وهذه الخاصية ليست خاصية التشابه، حيث أن التشابه فقط لآيات القرآن والسبع المثاني. وهذه الخاصية ينطبق عليها قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). (الأنبياء 107) وقوله تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا… الآية) (الأعراف 158).
إن مشكلة الأدبيات الإسلامية والفقه الإسلامي المتعلقة بالرسالة هي أنها إلى اليوم لم تميز هذه الخاصية لكي تستعملها بيسر وسهولة وتكون مقنعة لغير المسلم، قبل أن تكون مقنعة للمسلم نفسه بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الناس جميعا وهو رحمة للعالمين وأن الرسالة صالحة لكل زمان ومكان.
إن إغفال هذه الخاصية جعل من التشريع الإسلامي تشريعا متزمتا متحجرا وحجب عنا فهم أسس الشريعة الإسلامية كما حجب عنا فهم السنة النبوية على حقيقتها حيث أن مفهوم السنة النبوية مرتبط بهذه الخاصية التي تتيح لنا وضع مفهوم عاصر متجدد دائما للشرع الإسلامي وللسنة النبوية، وبالتالي وضع أسس جديدة للتشريع الإسلامي.
فإذا أردنا أن نقسم الرسالة إلى مواضيع رئيسية رأيناها تتألف من:
1 – الحدود.
العبادات .. الخ (……….)
فإذا نظرنا إلى التشريع الإسلامي ووجدناه يحمل هذه الخاصية أي خاصيتي الانحناء والاستقامة معا فهذا يعني أنه صالح لكل زمان ومكان أي قابل للحركة في حدود النهايات وهذا لا يمكن أن يحصل إلا إذا كان التشريع الإسلامي والسلوك الإسلامي مبنيين على مبدأ النهايات أي الحدود المستقيمة والتي يمكن للحركة الحنيفية أن تتحقق ضمنها وقد أعطانا الله في أم الكتاب الحدود فقط أي المستقيمات التي يمكن أن نكون حنفاء ضمنها وسماها حدود الله وهي مع الفرقان تشكل الصراط المستقيم ونحن نحنف ضمن هذه الحدود المستقيمة.
فإذا نظرنا الآن إلى بعض الآيات في أم الكتاب رأيناها تتصف بهذه الصفة أي صفة الحدود وقد أعطانا الله الحالات جميعها: الحد الأدنى فقط والحد الأعلى فقط، والحد الأدنى والحد الأعلى معا، وحالة المستقيم الذي هو حد أعلى وحد أدنى ولا يتغير، وحالة الخط المقارب الذي يقترب من النهاية “المستقيم” ويمسه في اللانهاية. وحالة الحد الأعلى موجب والحد الأدنى سالب.
حالة الحد الأدنى:
أ – ورد الحد الأدنى من حدود الله في آيات المحارم وهي:
– (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا). (النساء 22).
– (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعتنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما). (النساء 23).
لقد وضع الله في هاتين الآيتين الحد الأدنى في تحريم النكاح وهذا الحد الأدنى هو الأقارب المذكورين في الآيتين (22، 23) من سورة النساء فلا يجوز بأي حال من الأحوال تجاوز هذا الحد نقصانا على أساس نه اجتهاد، ولكن يمكن الاجتهاد بزيادة العدد،
فإذا بين علم الطب أن الزواج منا لأقارب كبنات العم والعمة والخال والخالة المباشرين له آثار سلبية على النسل وله آثار سلبية على توزيع الثروة، فيمكن أن يصدر تشريع يمنع زواجا من هذا النوع دون أن نكون تجاوزنا حدود الله. ……..
حالة الحد الأعلى: (نظرية العقوبات في السرقة والقتل):
أ – (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم). (المائدة 38).
والنكال في اللسان العربي من الأصل “نكل” وتعني المنع ومنه جاء القيد ونكل به تنكيلا ونكالا: فعل به ما يمنعه من المعاودة.
في هذه الآية بين العقوبة القصوى للسارق وهي قطع اليد أي أنه لا يجوز أبدا أن تكون عقوبة السرقة أكثر من قطع اليد ولكن يمكن أن تكون عقوبة سرقة ما أقل من قطع اليد،
خطأ المناداة بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، لأن الشريعة الإسلامية لا تحتوي على أحكام، بل على حدود، ولا يوجد حكم حدي في الإسلام إلا في حالة الفاحشة العلنية. ” ا.هـ
أما نحن فنقول أن التشريع القرآني يمثل “الشكل الأساسي أو المبدئي” الذي يجب الالتزام به, فالاحكام القرآنية المفصلة ليست بالكثيرة, وهي في مجالات معينة تعتبر الأسرة والعلاقات الإنسانية المحور الرئيس لها, بينما أتت الأحكام القرآنية في معظم المجالات كأحكام وأُطر عامة وللمسلمين الحرية في تطبيقها بالشكل الذي يتناسب مع واقعهم
كما أن لهم أن يُشرعوا لأنفسهم بعد ذلك ما يحتاجون من القوانين, وذلك لأن الله العليم قال:
إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة : 44]
فالله أنزل أحكاماً يجب الالتزام بها, إلا أنه لم يقل كذلك: “ومن حكم بغير ما أنزل الله” وإلا لما كان من الممكن للمسلمين أن يسنوا قانونا واحدا غير مأخوذ من القرآن, فيكون لزام عليهم أن يستخرجوا من القرآن مثلا الغرامة المقررة لمخالفة إشارة المرور!!
إذا فالأحكام القرآنية هي الشكل الأساسي, وكيفية تطبيق كثير منها متروك للمسلمين, كما أن لهم أن يزيدوا عليها, إلا أن ليس لهم أن ينقصوا منها وإلا لكان هذا تغيرا ورفضاً لها.
ولأنه ليس للدكتور شحرور مستند فيما يقول جعل بعض الأحكام تمثل الحد الأدنى وبعضها الحد الأعلى مع أنه يمكن لي ولغيري أن يقول بعكس ذلك, وكلٌ حر في القول بما يرى!
ومشكلة الدكتور شحرور أنه أخذ المصطلح بالمعنى الخاطئ المستخدم له ثم أسقطه على مدلول آخر, فالناظر في القرآن يجد أن مصطلح “حدود الله” لم يُستعمل في الحديث على العقوبات بأي حال من الأحوال, وإنما كان يُستعمل دوما عند الحديث عن الأمور المنظمة لعلاقة الرجل بالمرأة:
” أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة : 187]
الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة : 229]
فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [البقرة : 230]
تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء : 13]
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة : 112]
فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المجادلة : 4]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً [الطلاق : 1]”
لذا فإن قول الدكتور شحرور في المسألة هو قول من يرى أن التشريع بشكله الحالي غير صالح, ومن ثم يجب التعامل معه بشكل آخر يُكسبه الصلاحية, ولست أدري ما الذي يجعله غير صالح, إذا كانت العلاقات الإنسانية ثابتة بشكل كبير.
وإذا اتضح أن مصطلح “حدود الله” هو على غير ما استعمله الفقهاء والدكتور شحرور تبعاً لهم يصبح قوله بأن الفرقان مع الحدود يشكلان الصراط المستقيم قولاً غير صحيح لا يُلتفت إليه:
“الفرقان هو التقوى الاجتماعية، وهو الأخلاق المشتركة في الأديان السماوية الثلاثة لذا فرقها الله لوحدها وسماها “الفرقان”. وعلى المسلم أن يتعامل مع المسلم وغير المسلم على هذا الأساس لا على أسا التقوى الفردية والتي تعتبر العبادات من ضمنها، وهو الصراط المستقيم بالنسبة لموسى، والحكمة بالنسبة لعيسى، وهو مع الحدود يشكل الصراط المستقيم بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم.
“التعاليم اليهودية + التعاليم المسيحية + التعاليم الإسلامية” القاسم المشترك فيها = الفرقان.” ا.هـ
ولقد عرضنا في الموضوع الموضوع رابطه سابقاً للفرقان وبيّنا ما هو.
فإذا تركنا نقطة الفرقان وانتقلنا إلى مسألة الإنزال والتنزيل نجد أن الدكتور شحرور قدّم دعوى عريضة بدون أي مستند, فنجد أنه بعد أن تحدث عن البلاغ والإبلاغ وأن الهمزة تفيد التعدية انتقل إلى التنزيل والإنزال وقال بما قال, على الرغم من أن النزول ليس له علاقة بما قال!! فنجده يقول:
“إن شرح الفرق بين الإنزال والتنزيل يعتبر أحد المفاتيح الرئيسية لفهم الكتاب بشقيه: النبوة والرسالة كما له علاقة كبيرة بمبادئ التأويل. فبدون فهم الفرق بين الإنزال والتنزيل لا يمكن فهم قوله تعالى: (وأنزلنا الحديد) (الحديد 25) وقوله: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً) (الأعراف 26). إذ قال إنه تم إنزال الحديد وقال إنه تم انزال اللباس على بني آدم.
وقال أيضاً: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً) (يوسف 2) وقال: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) (القدر 1) فكيف نفهم إنزال الحديد وإنزال القرآن؟
أما عن التنزيل فقال: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً) (الإنسان 23). وقال: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) (الجاثية 2) وقال: (تنزيل من الرحمن الرحيم) (فصلت 2) وقال: (تنزيل من رب العالمين) (الواقعة 80).
إن النبي صلى الله عليه وسلم شرح الإنزال بقوله: “أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة” رواه ابن عباس، البرهان في علوم القرآن للزركشي ج1 ص288″.
وبما أن هذا الحديث من الأحاديث التي تتعلق بالغيب فلا ينبغي أن يفهم فهماً سطحياً ساذجاً، بل لا بد من فهمه فهماً عقلانياً منطقياً يتناسب مع العقل وينطبق على الواقع. فإذا فهمناه فهماً سطحياً نقول. إذا كان إنزال القرآن هو النزول إلى السماء الدنيا فماذا عن الحديد واللباس أي ما هو إنزال الحديد وإنزال اللباس؟ وكيف يفهم إنزال القرآن وإنزال الحديد بشكل لا يناقض أحدهما الآخر.
أما التنزيل فكيف نوفق بين قوله (تنزيل من رب العالمين) (الواقعة 80) و(إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً) (الإنسان 23) وبين قوله (ونزلنا عليكم المن والسلوى) (طه 80)؟ وكيف نفهم (وأنزلنا عليكم المن والسلوى ..) (البقرة 57)؟ أي كيف نفهم الإنزال والتنزيل في المن والسلوى وفي القرآن.
فعن القرآن قال: “نزلنا وأنزلنا” وعن المن والسلوى قال أيضاً: “نزَّلنا، وأنزلنا” وعن الماء قال: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) (الفرقان 48) وقال: (ونزلنا من السماء ماءً مباركاً) (ق 9) وعن الذكر قال (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّلَ إليهم ..) (النحل 44).
فما هو الإنزال والتنزيل للقرآن؟
والإنزال والتنزيل للمن والسلوى؟ والإنزال والتنزيل للماء؟ والإنزال والتنزيل للملائكة والذكر حيث قال عن الملائكة (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى .. الآية) (الأنعام 111) (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون) (الأنعام 8).
كيف نفهم الإنزال والتنزيل في هذه الحالات بشكل ينسجم بعضها مع بعض وينسجم مع قوانين الحقيقة. أي يجب أن يكون بينهما رباط منطقي مع مطابقة موضوعية.
إن الهمزة: في اللسان العربي تعطي معنى التعدي. مثال على ذلك: بلغ وأبلغ. فلدينا مصطلحان هما البلاغ والإبلاغ. ولنأخذ الآيات التالية:
– (ما على الرسول إلا البلاغ) (المائدة 99) (بلاغ).
– (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) (المائدة 67) (بلاغ).
– (فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم) (الأعراف 93) (إبلاغ).
فعملية البلاغ هي عملية نقل من شخص إلى آخر دون التأكد من أن الشخص المنقول إليه البلاغ وصله الخبر. فعندما نقول إن هناك بلاغاً من وزارة المالية إلى المواطنين في الإذاعة حول دفع الضرائب. فهذا البلاغ ينتقل إلى الناس ولكن لا يوجد أي تأكد من أن كل المواطنين المعنيين بهذا البلاغ قد وصلهم، فعندما يصل محتوى البلاغ إلى إدراك ووعي كل مواطن مقصود بهذا البلاغ يصبح إبلاغاً.
لذا فعندما أمر الله سبحانه وتعالى الرسول صلى الله عليه وسلم (بلغ ما أنزل إليك من ربك) ولو قال أبلغ ما أنزل إليك من ربك، لوجب على النبي أن يتأكد من أن كل إنسان معني بهذا البلاغ قد أدرك ووعى محتويات البلاغ، وبما أنه رسول الله إلى الناس جميعاً فيجب عليه في حالة الإبلاغ أن يطوف الدنيا ويتأكد من أن كل شخص وصله البلاغ. ولأن هذا متعذّر كل التعذر فقد قال في حجة الوداع: “ألا هل بلغت” ولم يقل ألا هل أبلغت. “اللهم فاشهد”.
بما أن هوداً وصالحاً وشعيباً أرسلوا إلى أقوامهم فقط أي إلى عدد قليل من الناس وهم قوم عاد وقوم ثمود وقوم مدين فكانت عمليتهم هي عملية إبلاغ لا بلاغ، وقد تم إهلاك القوم، وإلا فكيف يهلك أناس لم يدركوا ما هو المطلوب منهم ولم يعلموا بأي رسالة. في حالة قوم صالح قال لهم (فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي) (الأعراف 79). وفي حالة قوم شعيب قال: (فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم) (الأعراف 93). وبالنسبة لقوم هود (فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم) (هود 57).
وقوله (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) (الجن 28). ولم يكن مطلوباً من النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من البلاغ حيث أتم الآية (بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (المائدة 67) وقوله هذا بلاغ للناس) وقوله (فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين) (التغابن 12) وقوله (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ) (الشورى 48).
فالبلاغ هو مجرد عملية نشر الخبر أو الأمر. والإبلاغ هو عملية التأكد من أن الإنسان المقصود تبليغه قد وصله البلاغ وأصبح ضمن مدركاته.
ولا يثبت لمعترضٍ أن يعترض علينا بقوله: إن الله سبحانه وتعالى قد قال على لسان هود: (قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به) (الأحقاف 23) وهذا تبليغ وليس إبلاغاً لأن ماضي أبلغكم: بلغتكم لا أبلغتكم” فنجيب قائلين: لقد كان هذا في بداية الدعوة لا في نهايتها.
والآن لنأخذ التنزيل والإنزال:
فالتنزيل: هو عملية نقل موضوعي خارج الوعي الإنساني.
والإنزال: هو عملية نقل المادة المنقولة خارج الوعي الإنساني، من غير المدرك إلى المدرك، أي دخلت مجال المعرفة الإنسانية.
هذا في حالة وجود إنزال وتنزيل لشيء واحد مثل القرآن والماء والملائكة والمن والسلوى. أما في حالة وجود إنزال دون تنزيل كما في حالة الحديد واللباس، فإن الإنزال هو عملية الإدراك فقط “أي المعرفة فقط”.
لنأخذ الآن أمثلة عادية على الإنزال والتنزيل، وأود أن أنوه بأن المكتشفات العلمية والتكنولوجية في النصف الثاني من القرن العشرين هي التي سمحت لنا بفهم الإنزال والتنزيل والجعل بهذه الدقة.” ا.هـ
وكما رأينا فالدكتور شحرور هو الذي أنزل !! هذا المعنى التكنولوجي على المفردة القرآنية, بدون أي موجب يحتم هذا الفهم وينفي أن يكون غيره هو المراد, فما الدليل على أن المعنى الأصلي للنزول ليس هو المراد في هذه الآيات, حتى نحيد عنه إلى غيره.
وختاماً نقول: إن منهج الدكتور شحرور في فهم المفردات القرآنية منهج “تقني” يعتمد على العلوم والنظريات العلمية في الفهم, بينما منهجنا في التعامل مع المفردة هو منهج “طبيعي” قائم على فهمها من خلال الطبيعة المبثوثة حول الإنسان والثابتة أبد الدهر, والتي هي محط نظر وتفكر كل البشر, وليس طائفة محدودة من العلماء العلميين.
بخصوص موضوع لباس المرأة سنعرض له في موضوع مستقل بإذن الله.
والسلام عليكم ورحمة الله