واصل بفضل الله الكبير وفتحه تناولنا لسور القرآن لنبين وحدتها الموضوعية والأجواء التي نزلت فيها كل سورة, ونعرض اليوم بإذن الله الرحمن الرحيم لسورة ق, فنقول:
سورة ق سورة يظهر من محتواها أنها سورة مكية (كما قالت كتب أسباب النزول) وأنها ليس مما تأخر نزوله في المرحلة المكية, فهي سورة تعرض بالرد على المتعجبين والمستبعدين للرجع. ولم يظهر في السورة فعل منسوب لغير المسلمين تعلق عليه السورة سوى الحديث عن مناعي الخير المعتدين المريبين وعن كونهم أصحاب بطش
ومن ثم يمكن القول أنه كان هناك من يعمل على إثارة ريب غير المؤمنين مما يدعوهم إليه محمد بالتشكيك فيما يقول, ويمنع الخير ويعتدي, وما عدا ذلك لا تُظهر السورة الأجواء التي نزلت فيها, غير تشكيك المشركين في قدرة الله على إخراج الناس من الأرض بعد أن تحولوا إلى تراب وإرجاعهم إلى الحياة
وكيف أن هذا كان يضايق الرسول وكان يود حملهم على ترك هذا القول الذي ينسب العجز وعدم القدرة إلى الله القدير, فأنزل الله الرحيم سورة ق ليقول له أنه لا يخفى عليه ما يقول المشركون وأن دوره كرسول فقط هو التذكير بالقرآن أن وعد الله حق فهو العليم القدير (وهو المحور الرئيس الذي تدور السورة في فلكه).
والاتصال بين السورة والسورة الماضية جلي, فلقد عرضت سورة الحجرات لمسألة أن العبرة بالتقوى والعمل وليس بالظاهر ولا القول, وأن الله سبحانه وتعالى عليم بالأفعال والأقوال وما في القلوب:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) … وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) ….. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
وهنا ركزت السورة في الرد على المشككين في الإرجاع والخروج على مسألة شمول علم الله وحفظه لأعمال العباد, وأنه لا يخفى عليه شيء من أقوال العباد وأعمالهم وأنه مجازيهم عليها, خيرا كانت أو شرا.
ووقوع سورة ق بعد سورة الحجرات يثير القشعريرة في الجسد من حلم الله بعباده, فعندما زاد الناس على رسول الله وعندما خاضوا وتكلموا بحق بعضهم بعضا نهاهم الله عن ذلك في سورة الحجرات
بينما عندما أساء الكافرون إلى الله العزيز العليم ونسبوا إليه العجز وعدم كمال العلم والقدرة, أمر النبي بالصبر على ما يقولون وبأن ينزهه هو عما يصفون, وبيّن له أنه ليس بجبار يحمل الناس على صحيح الإيمان, وأن عليه التذكير فقط. … ما أحلمك ربي وأعظمك وأكرمك وأكبرك.
ونبدأ في تناول السورة لنبين كيف قدمت هذا التصور:
بدأت السورة بمخاطبة الرسول وتصبيره على أفعال الكافعين –بعد الحديث عن القرين والقرآن المجيد- وكيف أن الكافرين على الرغم من القرآن الكريم تعجبوا من مجيئ من ينذرهم العذاب واستبعدوا الرجع
ويرد الله عليهم بأن هذا ليس بالعجيب فهم وأعمالهم لا تغيب عنه وإنما محفوظة, وكيف أنهم في الواقع كذبوا بالحق لما جاءهم, ويرد عليهم بأنهم رأوا حولهم في الكون من آيات الله ما يؤكد الخروج, وعرفوا من أخبار السابقين كيف حق وعيد الله على المكذبين بالرسل من الأمم ذات القوة والبطش الشديد وعلى الرغم من أنهم مقرون بأن الله لم يعي بالخلق الأول إلا أن عندهم لبس في مسألة الخلق الجديد:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
فيرد الله مبينا أن علمه شامل حتى لوساوس نفسه وأنه أقرب إليه من حبل الوريد فكل ما يلفظه مسجل (بينما لن يحاسب على خواطر النفس التي لم يفعلها أو يقلها), وستأتي سكرة الموت بالحق (اليوم الآخر والبعث والخروج) الذي كان الإنسان يحاول الحياد عنه, وفي ذلك اليوم سينفي القرين (من الشياطين) مسئوليته عن طغيان الإنسان ويقرر أنه هو نفسه كان في ضلال بعيد, ولن ينفع الخصام عند الله الإنسان فلقد قدم الله إليهم بالوعيد (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وهو لا يبدل القول لديه ولا يظلم العبيد, بينما تزلف الجنة للمتقين غير بعيد, والتي لهم فيها ما يشاءون ولدى الله المزيد
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
وكما بدأت السورة بمخاطبة الرسول تُختم كذلك بمخاطبته بالحديث عن الحياة الدنيا مرة أخرى بالتذكير بأن الله أهلك كثيرا ممن كانوا أشد بطشا من الكافرين (فلم يحمهم ولم يمنعهم بطشهم وقوتهم), وبأن الله خلق ولم يمسه التعب, فاصبر يا محمد على أقوالهم ونزه الله عما يقولون (وانتظر حتى يأتي اليوم الآخر فسترى وتسمع فيه تحقق موعود الله) الذي يحيي ويميت, يوم تشقق الأرض عنهم سراعا وهذا أمر يسير. وبتذكيره أن الله أعلم بما يقولون (فلا يخفى عليه أقوالهم) وأنه ليس له أن يحملهم على الإيمان وعلى ترك أقوالهم, وإنما عليه أن يذكر بالقرآن من يخاف وعيد الله (أما من لا يخاف فلن يؤثر فيه ولن يجدي معه نفعا)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
وبعد أن بيّنا للقارئ الوحدة الموضوعية للسورة, ندعوه لأن يعيد قرائتها مرة واحدة فسيفتح الله عليه فيها ما لم نذكر نحن, إنه هو الفتاح العليم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.