أحلام متأخرة!

حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن محرك كبير من أهم المحركات الإنسانية, والتي تدفعه للسعي والجد والكد والكدح وهي “الأحلام”, ولا نقصد بذلك ما يراه الإنسان في نومه, وإنما أحلام اليقظة, تلك الخيالات التي يتخيل فيها الإنسان حاله في المستقبل وماذا سيصبح وإلا ما سيؤول.

وتبدأ الأحلام مع الإنسان مع بدأ العقل, فعندما يبدأ الطفل في الوعي والعقل وبعد قدرته على الاختلاق … والكذب! في هذا السن الصغيرة التي يبدأ فيها العقل في التكون يجد الآخرين المربين يقومون بتقديم المحفزات له للتعلم وللحركة, والتي إما أن تكون مادية “حلوى أو ما شابه”, أو معنوية وهي المستقبل الجيد, بأنه عليه أن يجتهد ليصبح طبيباً أو مهندساً أو ضابطاً (مع الاعتذار لأصحاب باقي المهن, التي لا يُحفز بها الأطفال!!)

وهكذا يبدأ الطفل في التخيل كيف سيصبح في المستقبل, ولا يزيد تخيله لهذه الوظائف عن المظهر الخارجي, مثل ارتداء البذة العسكرية أو “بالطو” الطبيب أو عدة المهندس, وكيف أن الناس ستحترمه وتعامله معاملة جيدة! وربما كيف أنه سيكسب كذلك مالاً كثيرا! (والذي ربما يتخيل في هذه المرحلة أنه سيستطيع به أن يشتري ما يشاء من الحلوى والألعاب التي يحرمه أهله إياها!)

ولا يقتصر الأمر على المحفزات الخارجية من المجتمع, وإنما يتعداه إلى رغبات الإنسان, فالطفل أو الصبي الذي ينشأ في بيئة فقيرة, يعاني فيها من صعوبة التحصل على الاحتياجات الأساسية للإنسان, مثل قلة الطعام أو قلة أصناف معينة منها,
وكذلك ندرة الثياب أو وجود الرخيص منها فقط, فإن نصيباً كبيراً من أحلامه المستقبلية تنحصر في التحصل على هذه الأصناف, فيحلم بأن يأكل أطايب الطعام والتي تتمثل بالنسبة له في اللحوم والفواكه وما شابه وأن يتحصل على كميات كبيرة من الثياب … الفاخرة!

وبالطبع تختلف أحلام طفل المجتمع الغني عن أحلام طفل البيئة الفقيرة, إلا أن هذا الاختلاف قد لا يكون إلى الأفضل, فربما يُحكم عليه بألا يحلم, فمستقبله محدد مسبقاً وهو أنه سيدير أعمال أبيه ويكمل المسيرة! وإذا لم يُسد أمامه المجال فليس ثمة اختلاف كبير بينه وبين الآخر.


والإشكالية الكبيرة التي واجهتها البشرية في زماننا هذا ولأول مرة في تاريخ الإنسانية, والتي لا ينتبه إليه كثيرون –وخاصة في عالمنا الثالث- هي أن عجلة التطور الإنساني أصبحت تتحرك بسرعة كبيرة جداً بحيث تخطت كثيراً الأحلام الإنسانية المألوفة!
وأصبح شكل المجتمع وتركيبته الاجتماعية وميوله الاقتصادية تتغير في عدد محدود من السنين قد لا يصل إلى العقدين من الزمان! وهذا ما لم يكن موجودا أو مطروحا بحال في الأزمنة الغابرة! والتي كانت عجلة التطور فيها لا تكاد تتحرك بشكل رأسي أبداً!

فقيمة الأموال تقريباً كما هي وليس ثمة أي حديث عن تضخم أو ما شابه, ومن ثم فإن الحال الذي يكون عليه المجتمع عندما ينضج الإنسان ويبلغ هي نفس الحالة تقريباً التي كان عليها عندما كان صغيرا, وليس ثمة فروق إلا أشياء طفيفة,
فوسائل المواصلات هي هي, وهي الدواب التي خلقها الله, وأدوات العمل كما هي, وهي القوة العضلية للإنسان غالباً, وأحياناً يُعتمد على بعض الأدوات لتقلل من الجهد المبذول من الإنسان! وليس ثمة اختلاف تقريباً!

لذا كان في مقدرة الإنسان أن يحلم, وبمرور الأيام والسنين يحقق بجهده حلمه –البسيط- الذي كان يحلم به, ومن ثم يشعر بالرضا عن نفسه وذاته لأنه وصل إلى ما كان يرنو إليه, والذي كان يتمثل بالنسبة للأغلبية الساحقة من البشر في التحصل على الاحتياجات الأساسية للإنسان مع وجود نسبة من الوفر!


أما الآن فمع التطور الكبير للبشرية لم تعد الاحتياجات الأساسية أو الحصول على كميات وفيرة منها يمثل حلماً مقنعا بالنسبة للبشر! فلقد ساعدت الآلة الإنسان على إنتاج الغذاء والكساء بكميات كبيرة وبأسعار يستطيع عامة الناس الحصول عليها بسهولة! ومن ثم أصيب الناس بالملل وبصدمة كبيرة!

فها هي أطايب الطعام بين أيديهم وها هي الثياب الفاخرة أو المختلفة في خزانتهم, إلا أنها لم توفر لهم السعادة أو الرضا! لأنهم اكتشفوا أن الأحلام التي كانوا يحلمون بها أحلاماً بسيطة … سطحية!

وإذا كنا نحن الجيل الذي تعرض لهذه الصدمة وعايشها, فعلينا أن نعمل جاهدين على أن نجنب أبناءنا الوقوع فيها! فنحن الذين أسرعت بهم عجلة التقدم الرتيبة البطيئة فجأة, فلم يدرك أكثرنا كيف يواكبها!

أمّا أبناءنا فنحن نعلم أنهم في عصر غير العصر وتقنية غير التقنية .. وسرعة غير السرعة, بحيث يعجز الإنسان عن تخيل درجة التقدم العلمي الذي من الممكن أن تكون البشرية عليه عندما يكون أبناءنا في مثل أعمارنا … أو أقل!

لذا فعلينا ألا نقتل أحلام أبناءنا ولا أن نحصرها في مجال محدد, بأن نعمل مثلاً على بناء منازل لهم منذ صغرهم تحتم عليهم البقاء معنا, أو أن ننشأ لهم مشاريع صغيرة أو كبيرة ليبدأوا بها وفيها!

ومن ثم فعلينا أن نحلم معهم ولهم … نحلم معهم في كل مرحلة عمرية بما يناسبها … نحلم معهم في الطفولة الأحلام البسيطة … ثم نفهمهم طبيعة المجتمع وكيف أن الأحلام التقليدية لم تعد مقنعة ولا كافية … ومن ثم نحاول أن ننشأ لهم حلماً ومستقبلاً يكون هو الأفضل عندما يكون واقعاً!

وإذا كنا في بحبوحة من الرزق فنستغل ما لدينا في إعطاءهم الفرصة ليبنوا مستقبلهم الذي يريدون بأيديهم, فيبنون أحلامهم بأيديهم … وبمساعدتنا المادية! وكما هو جميل ومحفز أن يحقق الإنسان حلمه الذي حلم به لسنين وسنين! فبهذا يشعر الإنسان أنه حقق ذاته ووصل إلى مبتغاه!


مشكلتنا أننا نحلم مع أبناءنا وهم صغار .. ثم نتركهم, أو نحجر عليهم ونريد أن نوجههم إلى جهة واحدة! هي نفس طريقنا, وهذا لا يُقبل بحال!

لذا فعلينا أن ندعهم يحلمون … ثم نسألهم عن أحلامهم كل حين, ونتحاور معهم بشأنها, ونحاول أن نخرج الأحلام الضارة أو الأحلام القاصرة من رؤوسهم, بأن نعرفهم أنها لم تعد تُجدي في زماننا هذا, نخرجها بالحوار والإقناع وبعرض الواقع أمامهم وإعطائهم فرصة لتقليب الحلم في رؤوسهم, وليس بالأمر المباشر.

ختاما نقول: لم تعد أحلام البشر التقليدية, والتي تنحصر في الاحتياجات الجسدية, مجدية بحال في زماننا هذا, إلا لمن لا يفكرون! ولم يعد المجتمع على ثباته, فكم من مهنة كانت لها منزلة ومكانة, ضاعت منها المنزلة وحلّت مكانها مهنٌ أخرى!

نعم نحفز في مرحلة الطفولة بما يدفع, ولكن لا نتركهم بعض ذلك ليحلموا أحلاماً يكتشفوا لاحقاً أنها عفى عليها الدهر! ولا نتركهم يقعوا فيما وقعنا فيه .. فواجبنا كآباء أن نقوم دوما بعمل “تحديث” لأحلام أبناءنا .. ولأحلامنا كذلك حتى تتفق مع العصر وروحه وحركته, وحتى لا تكون أحلامنا وأمانينا مقتصرة على ما بين أرجلنا وأيدينا!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

التقديس لدرجة الهجران و التهميش

يقدس الناس في بلادنا العربية و الإسلامية الدين أيما تقديس و هذا أمر حميد في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.