حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن قوم عاد, أولئك القوم الذين زادهم الله في الخلق بسطة, فطغوا وتجبروا!
وعلى الرغم من أن المحور الرئيس لحديثنا عن قوم عاد هو كيفية إهلاكهم, فإننا سنمر مرورا سريعا على الآيات التي عرضت لهم, حتى يتكون لدى القارئ الكريم تصور حولهم.
أول ذكر لقوم عاد جاء في سورة الأعراف, حيث قال الله تعالى فيها:
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٦٥) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٦٦) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
ونجد أن نبيهم هوداً عليه السلام يذكرهم بأنهم خلفاء قوم نوح, وهذا يعني أنهم في نفس المنطقة التي عاش فيها سيدنا نوح أو بالقرب منها! وهذا يبطل قول من قال أن نوح عاش في العراق!!! ويذكرهم بأن الله تعالى زادهم في الخلق بسطة!
والنقطة التي يغفل عنها المفسرون أو المتناولون لهذه الآيات هي أن الله تعالى قد بسط لقوم نوح في الخلق, وزاد قوم عاد بسطة! فالله تعالى لم يقل أنه بسط لهم في الخلق, وإنما زادهم, وهذا يعني أن هناك من أُعطي سابقا, ولكن بشكل أقل!
ثم تُختم الآيات بأن الله العزيز أهلكهم فاستئصل شأفتهم فلم يبق منهم أحدا, لأنهم لم يؤمنوا ولم يكونوا ليؤمنوا في يوم من الأيام!!
ثم يأتي الذكر الثاني لقوم عاد في السورة المسماة باسم نبيهم, وهي سورة هود, وفيها يقول المولى العلي:
“وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (٥٠) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) “
هنا نجد أن سيدنا هود يبين لقومه أنه ليس له دافع فيما يقول إلا الحرص عليهم, فهو لا يطلب منهم أجرا, ثم يدعوهم إلى استغفار الله والتوبة, لكي يرسل الله تعالى السماء عليهم مدرارا, وهذا يعني أنهم كانوا يعيشون في منطقة تعتمد في حياتهما على سقوط الأمطار بالدرجة الأولى
فإذا أضفنا إليها الناقة المذكورة في قصة سيدنا صالح تأكد لنا أنهم –وقوم نوح السابقين- كانوا في منطقة من بلاد العرب, التي تركب النوق وتعتمد على الأمطار! وليس العراق الذي يعتمد على الأنهار!!
وهنا نرى أن قوم عاد خاطبوا نبيهم بأنه ما جاء ببينة على أنه مرسل من الله العليم! ونلاحظ اختلاف الخطاب عن قوم نوح, فقوم نوح قالوا له أنه بشر وأنهم ما سمعوا أن الله يرسل بشرا وإنما كان يرسل ملائكة!
أما قوم هود الذين عرفوا قصة نوح وما حدث لقومه, لم يكرروا نفس المطلب, وإنما احتجوا بأنه لم يأت ببينة على أنه مرسل من الله, وعلى أن المطر سينزل إذا هم فعلوا ذلك, وأن قوله وحده لا يكفي لترك آلهتهم, ثم رموه بأن بعض آلهتهم اعتراه بسوء, فأصبح مصابا في عقله (سفيه)!
وهكذا أصبح الذين يعبدون الأصنام أو الأرباب المخلوقة المختلقة هم العقلاء, والذي يدعوا إلى عبادة الرب الخالق هو المصاب السفيه!
واستمر سيدنا هود في دعوتهم, فلما أصروا على ما هم فيه, أعلن براءته مما يشركون!
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
ثم يقول الله الرحيم أنه نجى هودا والذين آمنوا معه من عذاب الدنيا, وكذلك أنجاهم من عذاب غليظ وهو عذاب الآخرة, وأنه بعداً لعاد قوم هود, لأنها عاد الأولى وهي المهلكة, وهناك عاد ثانية لم تُهلك!
ونحن نخالف المفسرين الذين جعلوا الإهلاك هو العذاب الغليظ في الدنيا, لأنه لم يأت في كتاب الله نعت العذاب بالغليظ إلا مع عذاب الآخرة, كما أن الله العزيز ذكر أنه أنجاهم مرتين, مرة برحمة ومرة من عذاب غليظ! كما أن الرب العزيز ذكر أن عاداً أتبعوا بلعنة في الدنيا وفي يوم القيامة, فيكون مؤكدا لقولنا ومضعفا لقول القائلين بأن الإنجاء مرة واحدة والكلام مكرورٌ!
والذكر الثالث لقوم عاد جاء في سورة الشعراء, والتي يقول فيها الرب العليم:
“كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)”
وهنا تقدم لنا هذه الآيات مزيداً من التعريف بهؤلاء القوم, فتقول أنهم كانوا يبنون بكل ريع آية يعبثون, ويتخذون مصانع ويبطشون جبارين! وننظر ما قاله الإمام الفخر الرازي في تفسيره عند تناوله هذه الآيات:
“قوله : { أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَةً تَعْبَثُونَ } قرىء { بِكُلّ رِيعٍ } بالكسر والفتح وهو المكان المرتفع، ومنه قوله كم ريع أرضك وهو ارتفاعها، والآية العلم، ثم فيه وجوه :
أحدها : عن ابن عباس أنهم كانوا يبنون بكل ريع علماً يعبثون فيه بمن يمر في الطريق إلى هود عليه السلام.
والثاني : أنهم كانوا يبنون في الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم تفاخراً فنهوا عنه ونسبوا إلى العبث.
والثالث: أنهم كانوا ممن يهتدون بالنجوم في أسفارهم فاتخذوا في طريقهم أعلاماً طوالاً فكان ذلك عبثاً لأنهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم.
الرابع : بنوا بكل ريع بروج الحمام.
وثانيها : قوله : { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} المصانع مآخذ الماء، وقيل القصور المشيدة والحصون {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} ترجون الخلد في الدنيا أو يشبه حالكم حال من يخلد ، وفي مصحف أبي: ( كأنكم ) ، وقرىء ( تخلدون ) بضم التاء مخففاً ومشدداً ،
واعلم أن الأول إنما صار مذموماً لدلالته إما على السرف ، أو على الخيلاء ، والثاني : إنما صار مذموماً لدلالته على الأمل الطويل والغفلة عن أن الدنيا دار ممر لا دار مقر.” ا.هـ
والشاهد أنهم كانوا يبنون بالأماكن المرتفعة الأبنية العظيمة ليس لغرض, وإنما من باب العبث! كما أنهم كانوا يبنون المصانع طلبا للخلود!
وأنا لا أميل إلى المعاني التي ذكرها المفسرون, فاتخاذ آبار أو مجمعات للمياة ليس مما يُذم عليه الإنسان, وليس ما يضمن له الخلود!
كما أن الحصون ليست هي التي تحقق الخلود للإنسان, فالحصون قد تحميه من الأعداء ولكنها لن تحميه من الموت بشكل طبيعي!
وهناك من قال أن قوم هود اتخذوا هذه الأشياء لينجوا من المصير الذي آل إليه قوم نوح, إلا أن الآيات لم تقل بهذا, فبناءهم على المرتفعات لم يكن للنجاة من الفيضانات وإنما كان عبثا! واتخاذهم المصانع كان سعياً وراء وهم الخلود, وليس وراء النجاة!
فهل تكون المصانع هي مصانع لصنع أشياء لدفع الأمراض أو الموت! (إكسير الشباب مثلا!), أو مصانع لإنتاج مواد التحنيط مثلا؟! الله أعلم!
ونلاحظ أن سيدنا هوداً كان يذكرهم بنعم الله عليهم, وأنه أمدهم بأنعام وبنين, وجنات وعيون!
وهذا يعني أنهم ما كانوا يعيشون في منطقة صحراوية جرداء, فهم في جنات وعيون, وهذا يعني أنهم يعتمدون على الأمطار وليس الأنهار!
فكذبوه فأهلكهم الله العزيز جزاء تكذيبهم!
فإذا انتقلنا إلى الموطن الرابع الذي ذكر فيه عاد, وجدنا أنهم قد قُرنوا بثمود, وبيّن لنا هذا الموضع كيف أنهم اغتروا بقوتهم وظنوا أنهم لا مثيل مكافئ لهم:
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
فلم تنفعهم قوتهم, واُهلكوا بريح صرصر في أيام نحسات. وأكد هذا المعنى في سورة القمر, فقال:
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
فأرسل الله عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مرير, وكانت هذه الريح تنزع الناس, كأنهم أعجاز نخل منقعر مقلوع من جذوره!
ونعتها بنعت آخر في سورة الذاريات, فقال:
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
فهي ريح عقيم, لا تحمل أي خير, فهي لا تسوق سحابا ولا تلقح نباتا, وإنما هي ريح مخصوصة, سنعرف بها بعد سطور, تجعل الأشياء التي أتت عليها كالرميم فتبليها بلاء عظيما! وليس المراد من “أتت عليها” مرت عليها, وإنما المراد الأشياء التي عالجتها معالجة شديدة, كما نقول: أتى عليه الدهر!
وبيّن الرب القدير عدد الأيام والليالي, التي سُلطت فيها هذه الريح على عاد, فقال:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
فلقد ظلت سبع ليال وثمانية أيام متوالية متتابعة, فلم تترك لهم أي فرصة, واستأصلتهم وصرعتهم, فترى القوم صرعى في هذه الرياح –لأنها نزعتهم من الأرض, كأنهم أعجاز نخل خاوية فارغة ساقطة, فلم تبق منهم باقية!
ونصل إلى الموطن الفاصل في تحديد كيفية العذاب الذي اُهلك به قوم عاد, وهو قوله تعالى في سورة الأحقاف:
“وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)”
والتي قال المفسرون أن المراد من الأحقاف هي المنطقة التي أنذر هود قومه فيها, أي أنهم فهموا الآية هكذا: “إذ أنذر قومه في الأحقاف”!
ولست أدري لماذا فهموا الباء في قوله تعالى:
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ …… [الأنعام : 19]
قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ [الأنبياء : 45]
وفي كل الآيات المتعلقة بالوحي على أنها بمعنى الباء وهو السببية والوسيلة, وفهموها هنا على أنها بمعنى حرف الجر “في”؟!
لقد فهموها بهذا الفهم, لأنهم رأوا أن “الأحقاف” شيء لا ينذر به! فإذا تساءلنا ما هي الأحقاف؟ تأتينا الإجابة بأن الأحقاف هي:
“الرمال العظام، في قول الخليل وغيره. والأحقاف جمع حقف، وهو ما استطال من الرمل العظيم وأعوج ولم يبلغ أن يكون جبلا (كما قال الماوردي)، والجمع حقاف وأحقاف وحقوف.
قال ابن زيد: هي رمال مشرفة مستطيلة كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالا. وقال قتادة: هي جبال مشرفة بالشحر، والشحر قريب من عدن، وهو ساحل البحر بين عمان وعدن. وقال مجاهد: هي أرض من حسمى تسمى بالأحقاف. وقال ابن عباس والضحاك: الأحقاف جبل بالشام. وعن ابن عباس أيضا: واد بين عمان ومهرة.
(وحاليا تطلق منطقة الأحقاف على الأجزاء الشرقية من حضرموت اليمنية ومحافظتي المهرة وظفار العمانيتين.
فإذا أخذنا الأقوال التي تقول بأنه و ما استطال واعوج من الرمال العظيمة, يكون من المنطقي القول بأن منطقة الأحقاف في جنوب الربع الخالي
وذلك لأن بقية شبه الجزيرة العربية خالية من مثل هذه التضاريس المستطيلة والمعوجة. وتشكل منطقة الأحقاف جزءً كبيراً من الربع الخالي وهي كامل الجزء الجنوبي منه وتمتد من الغرب إلى الشرق على شكل شريط بطول يزيد عن ألف ومائتي كيلومتر وبعرض يتراوح بين خمسين وثلاثمائة كيلومتر.)
ونحن لا نعترض على مكان وجود قوم عاد, فنحن مقرون بالأقوال التي ذكرها الإخباريون بشأن مكانهم, وأنها حالياً اسم على مسمى! ولكن الاعتراض على قول المفسرين أن الباء بمعنى “في” فنحن نرى أنه أنذرهم بالأحقاف وليس فيها! كما أنذر النبي الكريم الناس بالوحي!
وذلك لسبب بدهي وهو أنهم لم يكونوا في “أحقاف”, فلقد كانوا يعيشون في جنات وعيون –كما قال القرآن في آيات سابقة-, ومن ثم فمن غير المنطقي أن يكون الحديث عما لم ينشأ بعد!
وعلى قول المفسرين فقول الله تعالى مساو لوصف إنسان زار قوما في واحة جميلة, ثم أصبحت هذه الواحة فيما بعد صحراء جرداء! فقال واصفا زيارته لهؤلاء القوم: زرتهم في الصحراء الجرداء!
فهذا نعت غير صحيح, لأنه لم يكن ثمة صحراء عند زيارته وإنما واحة!
والأبحاث الجيولوجية نفسها بيّنت أن المنطقة تعرضت لتغيرات مناخية كبيرة حولتها إلى صحاري, وقالت أنها كانت أرض خصبة مكسوة باللون الأخضر! ومن ثم فلا معنى لقول المفسرين أنه أنذر قومه في الأحقاف!
ونحن نفهم الآية كما هي, فلقد أنذر سيدنا هود قومه بالأحقاف, فلقد أنذرهم أن تتحول بلادهم إلى أحقاف, أنذرهم أن تنزل هذه الأحقاف بهم, فلم يصدقه قومه وكذبوه, على الرغم من وجود الدلائل التي تشير إلى حدوث هذا التصحر الكبير! فدعاهم إلى عبادة الله حتى يحول عنهم هذا العذاب الهائل, فأصروا على موقفهم وطلبوا إليه أن يأتيهم بما وعدهم به من أن تصبح أرضهم أحقافا!
فأخبرهم أن العلم عند الله, بكيفية وزمان وقوع هذا العذاب الأليم! وأنه فقط يبلغ ما اُرسل به, ولكنهم قوم يجهلون!
فلما رأوا العذاب الذي وُعدوه مستقبل أوديتهم, ظنوا أنه شيء بسيط سينزل بهم بعض التراب أو الصخور, فقال الله أنه ليس كذلك, وإنما هو ما استعجلوا به, فهو ريح فيها عذاب أليم!
والمفسرون قالوا أنهم ظنوا أن الرياح القادمة سحابة داكنة اللون ستنزل عليهم الماء فاستبشروا, فنزل بهم العذاب!
أما أنا فأقول أنهم أدركوا أن هذا القادم شيء ضار, إلا أنهم نعتوه بالعارض, فهم يريدون القول أن هذا شيء حدث بالصدفة وليس مسببا, كما أنه لن يدوم!
ومن ثم فسنتحمل ما يمطرنا به من رمال أو حجارة, فهو أمر عارض!
(لاحظ أن القرآن لم يستعمل المطر إلا مع الأذى أو الإهلاك)
فرد الله عليهم بأنه ليس كما يدعون, وإنما هي ريح فيها عذاب أليم
, تدمر كل شيء بأمر ربها!
ونتوقف مع هذه الريح التي قال المفسرون أن قوم عاد ظنوا أنها سحابة, فمتى يظن الإنسان أن الريح سحابة ….. داكنة؟!
إن هذا لا يكون إلا إذا كانت الريح محملة بشيء, أما لو كانت مجرد رياح فلن يرى الإنسان شيئا, وهذا ما نقول به!
فنحن نقول أن هذا الريح كانت محملة بالرمال والأتربة التي قصفت بها قوم عاد, فلم تنفعهم حصونهم وأبنيتهم للنجاة منها!
ونزيد صورة الريح تفصيلا فنقول:
كانت الريح التي هبت عليهم في أول أمرها على شكل إعصار, تلك الريح التي تأخذ الشكل الحلزوني وتبدأ في الدوران حول نفسها, فتجذب الأشياء إليها ثم تقذف بها! فهذه هي الريح التي كانت تنزع الناس –الذين كانوا من القوة ما كانوا- وليس ما قاله المفسرون من أنها كانت تدخل في مناخرهم وتخرج من أدبارهم وتصرعهم على الأرض على وجوههم حتى صاروا كأعجاز نخل خاوية .
وبعد أن قام الإعصار بدوره في القضاء على هؤلاء الناس, تحول إلى عاصفة, محملة بالرمال والأتربة, استمرت في فعلها أياما وليال,هذا حتى غطت هذه البلد الظالمة, وهكذا طُمر قوم عاد فلم يبق لهم أثر.
وبهذا نفهم لماذا سخر الله ريحاً صرصرا عاتية على قوم هود لمدة سبع ليال وثمانية أيام حسوما, وذلك حتى تُردم وتطمر هذه الأودية فلا يبقى لهم باقية!
وتصور أخي هذا المشهد, ريح عاتية مستمرة الهبوب على منطقة ما, محملة بالرمال والأتربة, ويستمر هذا لمدة ثمانية أيام, كيف يكون الحال؟!
وبهذا يمكننا القول أن التصحر الذي أصاب هذه المنطقة هو تصحر مفاجئ حدث مرة واحدة!
وقبل أن ننهي هذا الموضوع نتوقف مع التساؤل الشهير الذي يُطرح عند قوله تعالى: ” تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [الأحقاف : 25]”
فيقال: كيف تدمر كل شيء, والمساكن لا تزال ترى؟! وكيف تقول أنهم قد طمرتهم الرمال ومساكنهم لا تزال تُرى؟!
نقول: هناك فارق بين المساكن والديار! فالديار لزام أن تكون مبنية –بأي شكل كانت- أما المساكن فهي محل نزول الأقوام واستقرارهم بها! سواءً بنوا فيها أم لم يبنوا!
ونتذكر أن الرب العليم قال:
“وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ [إبراهيم : 45]”
فليس المراد أنهم سكنوا في نفس المنازل التي بناها السابقون! فالمنازل غير موجودة أو مهدمة, وإنما أنكم عشتم في نفس المنطقة التي عاش فيها الذين ظلموا أنفسهم, ونزل بهم العذاب!
وبهذا يصبح المراد من قول الحق أنه أصبح لا يرى إلا المنطقة التي كانوا فيها, أما مبانيهم وكل ما أنتجوه فلم يعد ظاهراً للعيان بأي حال!
وهذا يعني أنهم قد …….. طُمروا بريح عاتية حملت في طيها الأحقاف!!!
أعاذنا الله وإياكم, وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته