كعادة أي مجتمع إنساني يأتيه فرد بشر منه يطلب إليهم الإيمان بالله ويعلمهم أنه رسول الله إليهم! طلب أهل مكة من الرسول الكريم آية –وليس معجزة- تثبت أنه مرسل من عند الله!
فكان أن رد القرآن الكريم عليهم في مواطن عدة أن القرآن الكريم هو آية محمد وهو الدليل على أن محمد هو مرسل من عند الله, وأن من لا يؤمن بهذا القرآن لن يؤمن بغيره من الآيات! وتكرر هذا المعنى كثيرا في القرآن, وأصرح آية في نفي الآيات الحسية للرسول الكريم هي آية الإسراء والتي يقول الله تعالى فيها: “وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً [الإسراء : 59]”
فهذه الآية قاضية على أن الرسول لن يؤتى آيات يؤمن من أجلها القوم. إلا أن المشهور بين المسلمين أن القمر انشق/ انفلق للرسول استجابة لطلب المشركين! والمستند في هذا ليس كتاب الله وإنما روايات عديدة في كتب الحديث, مثل:
ما رواه الترمذي عن ابن مسعود: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر فلقتين فلقة من وراء الجبل وفلقة دونه فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا. يعني: اقتربت الساعة وانشق القمر.
وعند الإمام أحمد: حدثنا معمر عن قتادة عن أنس ابن مالك قال: سأل أهل مكة النبي [ص] آية. فانشق القمر بمكة مرتين فقال: (اقتربت الساعة وانشق القمر). (وعلى هذه الرواية فالمفترض أن السورة نزلت قبل الانشقاق!! فلما حدث استدل الرسول بالآية!!!!)
وعند الإمام البخاري: عن عبدالله بن مسعود, قال: انشق القمر على عهد رسول الله [ص] فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة. قال: فقالوا: انظروا ما يأتيكم من السفار, فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم قال: فجاء السفار فقالوا ذلك .” اهـ
فهذا طرف من الروايات الواردة في الباب, فهل هذه الروايات صحيحة؟!
نقول: لا يمكن أن تكون هذه الروايات صحيحة بأي حال من الأحوال, لأسباب عدة:
أولها: أنها تعارض إصرار القرآن على رفض طلب المشركين آية حسية, فكيف يعارضهم ويكرر ذلك في سور نزلت بعد هذه السورة ثم يكون القمر قد انشق.
ثانيها: المعارضة البينة لما يقولون وبين مبنى السورة كلها, فالسورة كلها أتت للرد على طلب الآيات الحسية وضربت على ذلك الأمثلة البينة- وسنوضح ذلك عند تناولنا للسورة- فقلب السادة المفسرون الآية وجعلوا الآية الأولى إثبات للآية الحسية!
ثالثها: المخالفة البينة للغة! فالآية تتكلم عن انشقاق القمر والروايات تتحدث عن انفلاق القمر أو انفراقه! وشتان بين الاثنين, فالله يقول أنه انشق والشق لا يمكن أن يكون أبدا فرقا!
فالشق حتما غير الفرق! والشق والتشقق كما يفهمه كلٌ منا لا يعني أبدا الانفصال! فإذا أنت قلت: شققت الثوب أو الشيء, أو الجدار مشقوق! لا يفهم أحد على الإطلاق أن جزء الشيء مفصول عن الآخر وإنما يفهم أن هناك صدع وشق بين الجزأين وهناك جزء متصل. وليس الأمر مجرد استعمال يومي لنا قد يخطئ أو يصيب وإنما هذا ما تقوله اللغة, فإذا نحن نظرنا في المعاجم وجدنا أن ابن منظور يقول في اللسان:
” والشَّقُّ: الصَّدْع البائن، وقيل: غير البائن، وقيل: هو الصدع عامة. …….. والشَّقُّ: واحد الشُّقوق وهو في الأصل مصدر. الأزهري: والشُّقاق تَشَقُّق الجلد من بَرْدٍ أَو غيره في اليدين والوجه. ” اهـ
إذا فهذا هو معنى الانشقاق ونلاحظ أن معظم أصحاب المعاجم عند تعرضهم للفظة “شقق” لم يذكروا آية الانشقاق كنموذج للفظة! لأن المعنى الوارد في الروايات كتفسير لها يخالف اللغة فهي تقول بالفرق وليس بالشق! فكيف يذكرونها؟ ولو كان المعنى الوارد في الروايات محتملا للشق لما أهمله اللغويون! وما جاء في الروايات هو الفرق وهو كما جاء في المقاييس:
” الفاء والراء والقاف أُصَيلٌ صحيحٌ يدلُّ على تمييز وتزييلٍ بين شيئين. من ذلك الفَرْق: فرق الشعر. يقال: فرَقْتُه فَرَقاً. ……… والفِرق الفِلْق من الشَّيء إذا انفَلَقَ، قال الله تعالى: فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطّودِ العَظِيم [الشعراء 63].” اهـ
ومعنى الشق واضح في الذهن وفي القرآن ولا يعني أبدا الانفصال النهائي بين الطرفين فمفردة “انشق” وردت في القرآن أربعة مرات هي:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ [القمر : 1], فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ [الرحمن : 37], وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ [الحاقة : 16], إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ [الانشقاق : 1]
فهل واحدة من هؤلاء يمكن أن تكون بمعنى الفرق! وكل مشتقات “شقق” في القرآن بمعنى التصدع لا الفرق, فمثلاً:
… وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء … [البقرة : 74], وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ .. [الفرقان : 25], َيوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً … [ق : 44].
فنخرج من هذا بأن مؤلف هذه الروايات كان أعجمياً لا يعرف المعاني الدقيقة للسان العرب ولا القرآن ومن ثم قال بما قال وقُبل رأيه في زمن سادت فيه العجمة.
والسبب الرابع والأخير –ونذكره عرضا من باب الاستئناس- وهو أن التاريخ لم يذكر لنا واقعة فرق القمر هذه شيئا! ونحن لا نعول على هذه المسألة كثيرا ولكن هذا أيضا من المقويات.
ونبدأ الآن في تناول السورة تناولا سريعا لنؤكد ما نقول, ونطلب إلى القارئ أن يحضر المصحف ليبصر ما سنقول:
الناظر في السورة من أولها إلى آخرها يجد أنها ترد على الكافرين ردا مزلزلا وتخبرهم أنه لن يأتيهم آية حسية كما أتى السابقون لأنه إذا حدث وأتت الآية ولم يؤمنوا فسينزل الله بهم العذاب كما فُعل بالسابقين! فهذا قانون لا يتخلف –والعجيب المريب أن السادة المفسرين جعلوه متخلفا!- وأن القرآن كفاية لهم وموعدهم الساعة حيث سيكون مرجعهم إلى كذا وكذا.
فتبدأ السورة بقوله تعالى:” اقتربت الساعة وانشق القمر” فهي تخبر المشركين والكافرين أن الساعة قد اقتربت وأن القمر قد انشق! ونحن نجزم أن القمر قد انشق فعلا ولكنه لم ينشق للرسول الكريم, فربما مع تقادم الزمن عليه حدث فيه شقوق, وفي هذا إشارة إلى قرب الساعة, أو ربما انشق لرسول سابق طلب إليه قومه آية فأتتهم هذه الآية ولكنهم لم يؤمنوا, وأميل إلى الاحتمال الأول أكثر.
ثم ثنت فقالت: “وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر”, وعلى فهم المفسرين فالسورة تقول : اقتربت الساعة وانفرق القمر للرسول, ثم تناقض نفسها فتقول: وإن يرى المشركون آية يعرضوا ويقولوا … فإذا كان الوضع كذلك وهم سيعرضون فلم قدم الله لهم الآية ولم لم ينزل بهم العذاب؟!
“وإن يروا آية يعرضوا” هنا نلاحظ أن الله عز وجل استعمل صيغة المضارعة التي تفيد الدوام والاستمرار والاستقبال, أي أن حالهم إذا رأوا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر! إذا فعلى قولنا فالله تعالى يقول: اقتربت الساعة وانشق القمر (ولا يزال هؤلاء مكذبين) وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر! (فلن تجدي معهم أي آية حسية!)
“وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر” فإذا كانوا كذبوا بالقرآن واتبعوا الهوى فما الفارق بين القرآن وبين الآية الحسية؟ فكما فعلوا هنا فسيفعلون هنا!
“ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر” ولقد جاءهم في القرآن –وكذلك في السورة- من أنباء الأقوام المكذبين ما فيه الزجر الكافي!
“حكمة بالغة فما تغني النذر” فالقرآن حكمة بالغة! ولا يحتاج المرء بعده إلى إنذار, فإذا لم يكن فيه الكفاية فلن يكون في غيره!
“فتول عنهم” فهذا أمر من الرحمن للرسول بالتولي والإعراض عن المشركين! ولست أدري كيف يصدر هذا الأمر لمن استجاب لطلبهم!
ثم تخبر السورة الكريمة أن التكذيب لم يكن دأب أو عادة أهل مكة فقط بل كان عادة كل الأقوام قبلهم, وكانت النتيجة الحتمية للتكذيب هي إنزال العذاب بالأقوام المكذبين لا محالة, وتبدأ السورة بعرض أول نموذج للتكذيب في السورة والتاريخ وهو تكذيب قوم نوح لسيدنا نوح, فلقد كذبت قوم نوح واتهموه بالجنون فدعا الله أن ينصره على المكذبين فنزل بهم العذاب ونجى الله سيدنا نوح والمؤمنين معه!
ثم يختم الله تعالى القصة بالفاصلة التي ستتكرر في كل قصص السورة وهي قوله تعالى: “فكيف كان عذابي ونذر” والآية أسلوب تعجب معروف أي كيف كان شدة عذاب الله وكيف كانت عظيمة نذر الله تعالى! ثم يأتي بالمقابل لذلك فيقول:
“ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر” أي أن القرآن ليس عسيرا ولا شديدا ولكنه ميسر للذكر فهل من مدكر! –وهذه الفاصلة مثل كل السورة تهدم دعواهم بحدوث انفراق القمر, فالآية تقارن دوما بين وجود النذر والتكذيب بها ثم نزول العذاب وتظهر أن القرآن في مقابل هذا سهل يسير وغني كاف! فلو كان هناك أي آية حسية في أول السورة لانهدم بناء السورة كله!
ثم تذكر نماذج أخرى وهو نماذج عاد قوم هود وثمود قوم صالح وقوم لوط, حيث كذبوا فجاءهم العذاب! وكذلك الحال مع آل فرعون. ثم ينتقل الخطاب إلى أهل مكة أو إلى المكذبين عامة في كل زمان ومكان فيقول:
“أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) …”
أي هل تظنون أنكم أفضل من هؤلاء؟ أم أن لكم براءة في الكتب السابقة؟ بداهة لا أنتم مثلهم أو أقل! فكما حدث لهم سيحدث لكم, فلقد كذبوا فنزل بهم العذاب وأنتم أيضا إذا كذبتم سينزل بكم العذاب في الدنيا! (وعلى قول السادة المفسرين فكفار مكة أفضل من أي كفار آخرين, فلقد كذبوا ولم يعذبوا!)
إذا وكما رأينا عزيزي القارئ فإن السورة كلها توضح للمشركين كيف أنهم سيكذبون مهما جاءهم من البينات وكيف أن هذا التكذيب مآله إلى الخسران في الدنيا والآخرة ثم تذكرهم بأن مطلبهم مطلب يورث العذاب والخسران وأن الله الرحيم قدم لهم بدلا من ذلك القرآن العظيم الميسر!
لذا فإما أن تأخذ بالروايات وتهدم السورة أو تأخذ ما قلنا وترد الروايات لمعارضتها البينة للقرآن!