المشهور أن الأزمنة –اللغوية- في اللسان العربي هي: الماضي والمضارع والأمر!! وعندما يبدأ العربي في تعلم اللغات الأجنبية –الهندوأوروبية- منها تحديدا, يُفاجأ –غالباً- بعدم وجود “الجملة الاسمية”, وإنما جملة تحتوي فعلا, يسمى فعل الكينونة, كما يُفاجأ بوجود عدد كبير من الأزمنة في هذه اللغات, والتي غالبا ما تسبب له مشاكل في استخدامها!
ويمكنني القول أن العربية تحتوي صيغاً تدل على “جل” الأزمنة في اللغات الأخرى, إلا أن اللغويين العرب لم يعتبروا هذه الصياغات “أزمنة” مستقلة, وقالوا بثلاث أزمنة فقط, واستند لغويونا في تقسيمهم للأزمنة إلى وجود “أبنية” مستقلة للفعل, ففي العربية “شكل” للفعل يدل على المضارعة, وآخر يشير إلى المضي, وآخر عند بناء الفعل في صيغة الأمر (ولهذا اعتُبر: الأمر, زمنا!!)
ولم يعتبر اللغويون “المستقبل” زمنا, لأنهم لم يجدوا تصريفاً مستقلاً له في العربية, فما هو إلا الفعل المضارع مسبوقا ب: سوف, أو بحرف الزيادة: السين!
ولو قسمنا الأزمنة في اللغات الأوروبية تبعاً لهذا الشكل لأمكننا القول بوجود أربع أزمنة فقط, هي: المضارع (والذي سيُستخدم كذلك في بناء المستقبل مسبوقا ب: سوف!)
والزمن المستمر سواء الماضي أو المضارع (والذي يُبنى في الانجليزية مثلا بفعل الكينونة + الفعل مضافا إليه مقطع) -ولا يوجد هذا الزمن مثلا في الألمانية-, والماضي البسيط, والذي يُبنى بالتصريف الثاني للفعل, و “الماضي المركب”, والذي يُبنى بالتصريف الثالث للفعل مسبوقاً بفعل مساعد –أو فعلين-! (والذي قد يدل كذلك على: المستقبل الثاني)
أما إذا عكسنا الحال وحاولنا تقسيم الأزمنة في العربية تبعاً للأبنية الغربية, سنجد أن فعل الكينونة “سيكون” هو اللاعب الرئيس والوحيد تقريباً -باستثناء المستقبل البسيط!!
فالعربية وإن لم يظهر فيها فعل الكينونة في المضارع البسيط, (لأن العرب اعتبروا “التعلق/ العلاقة” بين المسند والمسند إليه: المبتدأ والخبر, بديهية, ومن ثم فلا حاجة إلى ذكره) إلا أنه ظهر في باقي الأزمنة مرتبطاً بفعل الجملة وأفاد دلالات عديدة
(بينما عندما جاء مؤثراً في الاسم لم يفد إلا: المضي, وأضاف كذلك مرتبطاً بالسين “جواب الشرط” وهو معنى غير زمني: إن فاز فريقك “ستكون” مفاجأة كبيرة.) ولنصحب فعل الكينونة في العربية لنبصر ماذا أفاد, وجدير بالذكر أننا نستخدم هذه الصيغ بهذه الدلالات بدون أن يعلمنا أحد إياها وبدون أن ننتبه إلى وجودها أصلاً:
لم تعرف العربية صيغاً فعلية تدل على “القرب” أو “البعد” الزمانيين, وإنما نستخدم “محددات زمنية” للإشارة إلى هذا: غدا, بالأمس, قبل عامين .. الخ. بينما وُجدت صيغ تدل على الاستمرارية والتمام والانتهاء والاستقبال, تبعاً لتصور العرب للتفاعل بين فعل الكينونة وصيغتي المضارع والماضي
فمثلاً:
يُبنى “الماضي المستمر” في العربية ب: (كان + الفعل المضارع), مثل: كان يلعب الكرة, والتي تشير إلى استمرارية الحدث في الماضي لفترة ما, بخلاف: لعب الكرة, والتي تشير فقط إلى حدوثه في الماضي. ولا تعرف العربية صيغة المضارع المستمر وإن كان لدينا صيغة “اسم الفاعل” والتي تتشابه دلالتها –وليس بناءها- بدرجة كبيرة مع دلالة المضارع المستمر: محمد قائم, جالس, نائم, واقف.
يُبنى “الماضي المنتهي/ الأسبق/ الحكائي” ب: (كان + قد + الفعل الماضي) مثل: كان قد أكل السمكة, فهذه الصياغة تشير بالفعل إلى انتهاء الفعل في الماضي, (بخلاف الصيغة البسيطة: أكل السمكة, والتي تشير إلى مجرد الحدوث في الماضي), وتسميته بالحكائي إشارة إلى أنه يُستخدم في حكاية أحداث, فلن تُستخدم هذه الصياغة في جملة منفردة, وإنما لقص عدة أحداث: كان قد أكل السمكة, عندما دق الهاتف. كان قد أغلق الباب قبل أن يبدأ الصوت القادم من … الخ.
يُبنى “المستقبل التام” ب: (محدِد زمني + سيكون + قد + الفعل الماضي) مثل: غدا ظهرا سأكون قد أنهيت أعمالي. بعد ساعتين سيكون العميل قد وصل بالفعل إلى ألمانيا. وصيغة المستقبل التام لا تشير إلى نية القيام بفعل ما (كما تشير صياغة “المستقبل البسيط”: سأسافر, سوف أنتظر), وإنما تدل على توقع انتهاء الحدث في وقت ما.
يُبنى زمن “الماضي الافتراضي” ب: (كان + علامة التسويف + الفعل المضارع) مثل: كنت سأتصل بك. أي أنني لم أفعل, ولكن “كنت سأفعل”. كان سيقع. (ولكنه لم يقع). ونلاحظ أن هذه الصياغة هي معكوس بناء “المستقبل التام”, فهناك ظهر فعل الكينونة في المضارع وهنا في الماضي, وهناك كان المفردة التأكيدية: قد, وهنا حرف التسويف: السين, وهناك كان الفعل في الماضي, وهنا في المضارع.
ونكتفي بهذا التطواف السريع مع فعل الكينونة العربي, والذي اشتهر باستخدامه كأحد “النواسخ” المؤثرات في الأسماء,هو وأخواته! بينما نُسي كيف استخدمه العرب للإشارة إلى هذه التحديدات الزمنية, والتي لم نعتبرها زمنا مستقلاً لأن علمائنا لم يعتبروا صيغة: “فعل مساعد + فعل” تساوي زمنا جديدا!
بارك الله فيكم وشكرا جدا على هذا المجهود الرائع.