سألت الأخت الفاضلة سارة عن آية القصاص في البقرة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة : 178]
ما المراد منها؟
وآية القصاص من الآيات التي سببت مشاكل للمفسرين والفقهاء, لأنهم فهموا منها أن الحر يقتل بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى! ومن ثم اتخذها غير المسلمين متكئاً للطعن في الدين, الذي لا يساوي بين البشر! فجعل الحر لا يُقاد بالعبد ولا يقاد الرجل بالأنثى!
وعلى الرغم من أن الفقهاء فهموا من الآية أن الحر يقتل بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى, إلا أنهم عطلوا “مدلول الخطاب” هنا, فقالوا أن الحر يقاد بالعبد والذكر بالأنثى وبالعكس.
وعلى الرغم من تعطيلهم ل “مدلول الخطاب” فإن الآية ظلت مشكلة لهم! ذلك لأنهم لم يستطيعوا تقديم توجيه مقبول لقوله: “فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ” يتطابق مع منطوق الآية! وكيف يكون ذلك ” ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ”؟!
وعلى الرغم من إدراكي أن هذا التوجيه لآخر الآية لا يتطابق معها إلا أني –لعدم وجود تصور بديل لدي فيها- كنت أمر عليها مرور الكرام مكتفيا بالفهم التقليدي للشطر الأول منها القائل بأن القرآن ذكر هذا إبطالاً لعادة الجاهلية في الإهمال والشطط في القتلى,
فإذا كان المقتول عبداً أو حقيرا تركوا المطالبة بحقه أو تهاونوا فيه فقبلوا بأي شيء, وإذا كان المقتول عظيما فإنه لا يُكتفى بمقابله بقاتله, وإنما يُبحث عن عظيم في قبيلة القاتل فيقُتل في مقابله وربما يُقتل عدد من قبيلة القاتل كمقابل لهذا المقتول, ومن ثم نزلت الآية تقول أن لا تعتدوا ولا تتهاونوا فلا يُزاد عن القاتل.
ثم لمّا سألت الأخت الكريمة سارة عن الآية ونظرت فيها بتمعن وجدت أن هذا التوجيه لا يصلح بحال, فقد يكون القاتل للحر عبداً أو العكس أو قاتل المرأة رجلا أو العكس, فما فائدة النص هنا على أن الحر بالحر والعبد بالعبد؟!
ومع نظري في الحكم المذكور في الآية لا يدور حول القصاص ” ل القتلى” وإنما يتحدث عن القصاص “في” القتلى! كما أن الآية –مثل كل آي القرآن- على الحقيقة وليست الآية مجاز مرسل! فالقصاص في القتلى, أي أنهم مقتولون فعلا وليس “سيقتلون فيما بعد”,
ومن ثم فالقصاص في القتلى (وليس: القتيل) يكون فيه الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى! ومن ثم فكلا الطرفين قتيل!! وليس الحديث عن طرف حي وآخر قتيل, وإنما الحديث عن قتلى!
ومن خلال نظري في السياق الذي جاءت فيه الآية التي تحدثت عن قتلى, وجدت أن الآية السابقة كانت تتحدث عن القتال “البأس”:
لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة : 177]
فرجح لدي هنا أن الحديث عن قتلى في قتال “معركة” وليس عن أي قتيل, فلما نظرت في آية المائدة لأخرج منها بتصور أدق للقصاص, وجدت الرب العليم يقول:
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة : 45]
فالله قال أن النفس بالنفس والعين بالعين … الخ, ثم قال: والجروح قصاص, فقلت: لو كان المقصود من القصاص جرح مقابل جرح (أو قتل إنسان مقابل آخر–هناك في البقرة-), لما كان هناك اختلاف يستوجب التمايز بين النوعين!!
ثم لاحظت أن هذا القصاص قابل لأن يُتصدق به! ومن ثم فهذا القصاص مال! فظهرت احتمالية للفهم أن يكون المراد من القصاص هو: المبادلة بالقيمة. فنظرت في الآية فوجدت أنه احتمال مقبول للجروح التي لا يمكن ضبطها, إذا يصعب أن يُجرح إنسان بنفس مقدار الجرح الذي جُرحه المجني عليه,بينما يمكن أن يُقدر هذا الجرح ويُعوض.
ولما أسقطت هذا المعنى على آية البقرة وجدت أن المعنى استقام, فهنا الحديث عن قتلى في الحرب فُينظر في القتلى بين الطرفين كيف هم, فيُنظر عدد الرجال والإناث والعبيد في كل طرف ويقابل بعدد الرجال والإناث والعبيد, فإن زاد قتلى طرف عن آخر –وهو زائد على الغالب إذا يصعب جدا أن يتساوى عدد القتلى في الطرفين!-يُعوض هذا الطرف بتعويض مالي, ويطلب حقه بالمعروف ويؤديه إليه الطرف الآخر بإحسان.
وبهذا ظهر لي كيف يكون القصاص تخفيف ورحمة, فهذا الحكم وأد فتنة الثأر للدماء المسفوكة بين الطرفين بتعويضات مالية, فلا يتطلع طرف إلى الاعتداء بعد ذلك على أبناء الطرف الآخر, وبهذا يظهر كيف يكون لنا في القصاص حياة, فبهذا الحل لا يستمر مسلسل القتل وتُحقن الدماء بين الطرفين.
ولما وصلت إلى أن القصاص بمعنى المبادلة أخذت أبحث هل قال أحد بهذا القول, فوجدت أن الشيخ اليمني الكبير: إسماعيل الكبسي قال بهذا القول في موقعه الطيب: هنا القرآن, وفصل في الموضوع تفصيلاً طيباً يُغني عن مزيد بحث وتناول لباقي الآيات, وهو وإن كان تناوله من زاوية أخرى إلا أنه وصل إلى أن الحديث في آية البقرة عن القتال كذلك! ونقدم بحثه للقارئ في المشاركات التالية.
هل يعني “القصاص” في القرآن قتل القاتل عمداً؟
تأملوا معي الآيات؛ يقول الله تعالى في سورة المائدة وهي آخر ما نزل من القرآن كما يقال:
(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ(45)) [سورة المائدة].
إلى هنا يكون المعنى أن قتل النفس يقابله قتل النفس بلا تفريق بين ذكر وأنثى، ولا حر وعبد.
ثم إن فقاء العين وجدع الأنف وقطع الأذن واقتلاع السن يقابله مثله في الناس هو ما يسمى القود، ثم ماذا جاء بعد ذلك؟؟ تأملوا:
جاء قوله تعالى: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ).
يعني أن الإنسان إذا أصاب إنساناً بجرح؛ فإنه لا يقاد ويمثل الجرح؛ لأنه لا يعلم المقدار في العمق والاتساع والأثر، وإذن فإن على الجارح أن يقدم للمجروح المال وهو مقرر في الأروش.
وإذن فالمراد بالقصاص هنا هو المبادلة والمقاصصة بين الجاني والمجني عليه بأن يقص الجرح ويتبع أثره، ويتقصى عمقه وسعته؛ ثم يقدر ويقوم بما يستحقه من المال فيدفعه الجاني للمجني عليه قصاصاً أي بدلاً لما أصاب المجني عليه؛ مع العلم أن المقاصصة لغةً هي تتبع الأثر؛ قال تعالى: (..فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا(64)) [سورة الكهف]. وقال: (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ..(11)) [سورة القصص].
ثم إن القصص في القرآن يعني تتبع آثار الناس الغابرين وإبرازها للمستخلفين للعبرة والعظة.
وهكذا فإن القصاص يعني تتبع أثر الجناية وسعتها وعمقها؛ ثم بالتالي الحكم بما تستحقه من المال قصاصاً للمجني عليه من الجاني؛ أي بدلاً وتعويضاً له على ما أصابه، وتطييباً للنفوس، وللتأكيد على هذا المعنى الذي أوضحته تأتي بقية الآية لتؤيد ما ذهب ما ذهبت إليه.
نعم اقرأوا معي ولنعد إلى البداية:
(وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ). ثم ماذا بعد؟.
(فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ). أي من تصدق بالتعويض أي بالمال الذي استحقه المجني عليه قصاصاً من الجاني أو المجروح من الجارح؛ فإنه أي التعويض المتصدق به كفارة للمجني عليه، وصدقة تكتب له تكفر عنه سيئاته وترفعه عند ربه بصدقته التي تنازل عنها لأخيه الجاني، وقد استحقها قصاصاً وتعويضاً.
إنه مقامٌ يرتفع فيه المجني عليه إلى مقام الذين كفر الله عنهم سيئاتهم، وأوجب لهم مقام عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ لأنه أصبح من العافين عن الناس ومن الكاظمين الغيظ إحساناً، والله يحب المحسنين، بل وأصبح من الصابرين،
ومن الذين: (..وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ(22)جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ(23)سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ(24)) [سورة الرعد].
أليس هذا هو المقام الذي يطمح إليه أولوا الألباب؟. ومع ذلك فلنعد إلى بقية آية المائدة فهي تختم بقوله تعالى: (..وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(45)) [سورة المائدة].
وعلى هذا الأساس؛ هل صح لديكم الآن أن القصاص لا يعني القود؟ ولا يعني مقابلة الفعل بمثله، ولكن يعني التعويض المالي المشروع؟.
إذا أردتم دليلاً آخر؛ فلنعد إلى سورة البقرة؛ قد تظنون إني سأعود بكم إلى قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ …(179)) [سورة البقرة]. أو إلى قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى.. (178)) [سورة البقرة]؟.
لا لن أعود بكم إليهما، نعم؛ بل سأترك العودة إليهما إلى مرحلةٍ متأخرةٍ لأنها هي المراد من هذه الكلمة الشاملة، وهي مرمى الهدف من هذا البحث الهام. لكن الآن أعود بكم أولاً إلى قوله تعالى:
(الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ(194)) [سورة البقرة].
إن الآية تأتي بعد أن أوضح الله أن القتال لا يصح إلا عند العدوان من الكفار؛ (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(190)) [سورة البقرة].
ثم جاء في الآية التي تليها: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(191)) [سورة البقرة].
وهكذا استمر الأمر والنهي والتوضيح لأسباب ومواقع القتال ودوافعه حتى قال: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ..(194)) [سورة البقرة].
قال الزمخشري في الكشاف: فكأن هذه الآية جاءت جامعةً مجملةً ما تقدم، مقررةً حقيقةً لا تخفى وهي أن على المسلم أن يقابل الفعل من المعتدي بمثله؛ فإذا اعتدى في الشهر الحرام فله أن يرد العدوان بمثله في الشهر الحرام. وإذا اعتدى الكفر على الحرمات وهي فتنة الناس والصد عن البيت الحرام؛ فإن الحال هذه تستدعي القصاص أي المبادلة المعاوضة بالمثل؛
فإن أخرج الكفار المسلمين من ديارهم فليكن القصاص بمثله وهو إخراجهم من الديار، وإن صدوهم عن المسجد الحرام فإن على المسلمين أن يصدوهم عن مصالحهم في كل مكان وأن يمنعوهم عن المسجد الحرام حتى ينتهوا عن الفتنة والعدوان.
إذن فالقصاص هنا هو المبادلة بالمثل؛ قال الزمخشري في هذه الآية (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) أي وكل حرمة يجري فيها القصاص في هتك حرمة أي حرمة كانت اقتص منه بأن تهتك منه حرمته؛ هكذا قال.
وعلى أي حال فقد ختمت الآية بقوله تعالى:
(فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(194)) [سورة البقرة].
نعم؛ فالعدوان يقابل بمثله ولا زيادة ولا نقصان؛ بل إن التقوى هو الميزان لأهل الإيمان، والله هو الرقيب وهو مع المتقين في كل حالٍ ومكان؛ فكيف يمكن أن يفرطوا أو يطغوا، وكيف يمكن أن ينتقموا بأكثر مما نالهم من المعتدي؛ كلا بل بمثل ما اعتدى وليكن ميزانهم التقوى.
وعلى هذا فإن القصاص لن يكون إلا في حالة الاضطرار الذي لا مناص منه، والذي لا بد أن يقتص به أثر الكفر والعدوان حتى يكف عن العدوان ويرتدع عن الاستهزاء بالإيمان، ويعلم أن للمسلمين قوة تردع الطغيان وتستنصر بالرحمن، وتدافع عن الحق بلا إدهان، وتقاتل أئمة الكفر والفتنة عن الدين لعلهم ينتهون، ويكون الدين لله رب العالمين.
بعد هذه الجولة السريعة في الآيات المتضمنة كلمة “قصاص”.
نحط الرحال عند الآية الأساس، والتي اضطربت عندها الرؤوس وانكسرت الأقواس، وتاه المفسرون فيها بلا وعيٍ ولا إحساس، وتحسسوا لأقاويلهم مختلف المخارج والأخناس؛ فلم يعودوا بطائلٍ يطمئن القلب ويمحو الالتباس.
تلك هي آية القصاص الرئيسة في البقرة وهي الآية رقم [178] ثم الآية التي تليها [179]؛ ولنقرأ الآيتين:
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(178)) [سورة البقرة].
ثم؛ (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(179)) [سورة البقرة].
هذه هي الآيات المراد، وهي التي إليها وجهت الاجتهاد؛ ولكن تريثوا قليلاً فإني قبل أن أدخل معكم في تفسيرها وإيضاح المقصد منها.
لا بد أن نعترف معاً ونسلم بقضية هامة في الدين، وحقيقة جلية للمسلمين، وصفةً لازمةً للمؤمنين؛ تلك هي أن المجتمع المؤمن لا يمكن أن يكون فيه قتل عمد، ولا يتصور أن يتعمد مؤمنٌ قتل مؤمنٍ عن سابق قصدٍ وترصدٍ؛ إن هذا مستحيل في مجتمع المؤمنين ومن فعله فليس فيهم ولا منهم؛ بل هو قد خلع الدين من نفسه وانخلع عن المؤمنين برجسه، ولم يكن من المجتمع ولا من جنسه.
هذه حقيقةٌ يؤكدها الله، فكيف نغفل عما أكده وأثبته وكيف نشاه؟!
ألم يقل في سورة النساء: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً.. (92)) [سورة النساء]، إن هذا التعبير لا يأتي إلا في حالة التأكيد، والنفي القاطع الشديد، وهذا التركيب لا يستعمل إلا في حالة استحالة الصفة التي تساق لها الجمل، مثل: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(143)) [سورة البقرة].
ومثل: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ..(179)) [سورة آل عمران].
والآيات من هذا النوع وبهذا الأسلوب كثير، وهي تدل على أن الموضوع الذي تتحدث عنه خطير، وبالاهتمام جدير، وأن الصفة التي يدور حولها لا يمكن أن تحدث في التقدير.
وعليه؛ فإن الله هنا في قضية القتل في المجتمع المؤمن يجعلها مستحيلة العمد والعدوان، ويحصر ويقصر حدوثها في المجتمع المؤمن على طريق الخطأ والنسيان، ولنعد قراءتها بإمعان:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(92)) [سورة النساء].
هلا تلاحظون أيها الأعزاء أن الله نفى نفياً قاطعاً مؤكداً أن يحدث قتل عمد في المجتمع المؤمن؟. بلى؛ نفى نفياً قاطعاً وبأسلوبٍ قويٍ ساطعٍ أن يكون شأن المؤمن قتل مؤمن أبداً إلا في حالة واحدة هي حالة الخطأ،
وعلى هذا الواقع النظيف الزكي، والمجتمع التقي النقي فإن حدوث مثل هذا القتل الخطأ يستدعي الجزاء المرضي لأهل المقتول، وهو الدية المسلمة إليهم، ثم لوح لهم بما يزكيهم،
وبما يمكن أن يبادر إليه المؤمنون الصادقون، وهو التصدق بالدية لأهل القاتل والعفو عن استحقاقها ليزيد بذلك الحب بين المجتمع، وينمو فيه الخير ويموت الطمع، ويكون الفضل متبادلاً بينهم، وحسن الظن شائعاً فيهم، والإخاء الصافي مظلاً لهم؛ فيعيشون في سلامٍ وأمنٍ مدى عمرهم، وحب ووئامٍ في كل أحوالهم، والتعاون على البر في كل شئونهم، وهذا هو الذي يرضاه لهم ربهم، ويزيدهم من فضله في دنياهم وأخراهم.
هذا هو شأن الدية التي هي تعويضٌ يرضاه أهل المقتول، ثم وبعد التلويح بالتصدق بها يأتي الجزاء الذي يجب على القاتل الخطأ للمجتمع ولله، ذلك هو تحرير رقبة مؤمنة، فما دام قد تسبب في إخراج نفسمؤمنة من الحياة فليخرج رقبة مؤمنة من الرق إلى الحياة الكريمة، وهكذا يصبح القتل الخطأ سبباً للحياة الأزكى، و
مع أن التحرير مشروط بأن تكون الرقبة مؤمنة فإن المقتول لو كان من قوم عدو للمؤمنين محارب لهم وهو مؤمن مهاجر محب لهم، فإن الدية لا تستحق لأهله، ولكن يكتفى بتحرير رقبة مؤمنة عند قتله.
أما إذا كان المقتول من قومٍ بين المؤمنين وبين قومه عهود ومواثيق على السلام فإن الدية واجبة التسليم، ومقدمة في الحكم العام ومقدمة ثم في سياق الكلام، وهذا يدل على أن للعهود احتراماً لدى الأمة التي تدين بالإسلام، ويكون الإيمان لها هو الوسام.
وهكذا يتكرر شرط تحرير الرقبة المؤمنة في الثلاث الحالات بالتزام، ثم إذا لم توجد فإن التوبة تتحقق بالصيام شهرين متتابعين بلا انفصام، وهكذا يحكم الله في هذه الحالة أجمل الأحكام، وأسلس الوسائل للسلام، وكيف لا وهو التواب وهو العلام، وكان الله عليماً حكيماً.
إن التوبة من الله وقد نالها القاتل الخطأ وأصبح من المؤمنين الأتقياء؛ ثم ماذا؟. تعالوا نقرأ الآية التي تلي هذه الآية:
(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا(93)) [سورة النساء].
لاحظوا صياغة فعل القتل في الآيتين؛ فإنه في الأولى جاء بصيغة الماضي (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً) ؛ ليدل على أن هذا الفعل لن يحدث إلا مرةً لأنه خطأ ولا يمكن أن يتكرر من المؤمن مرة أخرى؛ لكن الفعل في الآية الثانية جاء بصيغة المضارع (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) ليدل على أن المتعمد مستعد للتكرار، مستهين بالنفس بإصرار؛ متجرئ على العدوان باستكبار؛
فهو بهذا قد خرج من صفة المؤمنين إلى صفة الكفار، وأصبح من أصحاب النار، ومن حصب جهنم الكبار، ومن أهلها الذين يخلدون فيها أبداً، وعليهم غضب الله سرمدا؛ وتحيط بهم لعنته بما اعتدى، وفوق هذا فقد أعد الله له عذاباً عظيماً، وهذا هو مصير ومآل من كان معتدياً أثيما؛ وهو به جدير وإليه يصير، مذموماً حكماً من الله الذي كان عليماً حكيماً.
وهكذا يتضح أن القتل العمد لن يكون من مؤمنٍ أبداً، وأن مقترفه قد خرج من صفة الإيمان وللكفر ارتدى، وفي غضب الله تردى؛ لأنه أثم واعتدى، وأصبح الإثم والقتل من طبعه، لا يتورع عنه ولا يرجع ولا يرتدع،
أما المؤمن الصادق فإن القتل العمد منه مستحيل، فإذا وقع الخطأ منه فقتل فإن له إلى التوبة سبيل، بهدى ربه الجليل، وبفضله الجزيل، وهو نعم الولي والوكيل، وعلى هذا نقطع أن المؤمن لا يقتل إلا خطأ، ولا يتعمد القتل أبداً، وأن الذي يقتل متعمداً فإنه كافر خارج عن طريق الهدى، وغضب الله ولعنته تحيط به في جهنم خالدا، والعذاب العظيم معد له من الله رب العالمين، الذي لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
وعلى ضوء هذه الحقيق الساطعة التي قررها الله في المجتمع المؤن بصورة قاطعة، نرجع معاً إلى الآية التي وردت في سورة البقرة، وفيها الهدف الذي سقنا له هذه السطور المحررة.
ذلك أن المفسرين لم يدركوا معناها الحقيقي الذي يريده رب العالمين، وأقدموا على تفسيرها ظانين أن القتل العمد هو المراد بيانه للمؤمنين، واستمروا يفسرونها على أساس أن القتل العمد العدوان هو المقصود، ولم يدركوا أن آيات البقرة تبدأ بالخطاب للمؤمنين فتقول: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى (178)) [سورة البقرة].
فيا ترى ماذا يقصد بهذا الخطاب؟! ولماذا قال في القتلى ولم يقل في القتل؟! لماذا أتى بصيغة الجمع فقال: “في القتلى” ولم يأت بصيغة المفرد فيقول في المقتول، سؤال يجيب عليه المتأمل في القرآن بإمعان،
ولقد عرفنا حقيقة صفة مجتمع الإيمان، ذلك أن مجتمع الإيمان لا يمكن أن يحدث فيه قتل بعمد وعدوان، إذن فماذا يراد بهذه الآيات المكتوبة على مجتمع الإيمان؟! تعالوا نواصل التأمل؛ إنها تفصيلٌ لما سبق في سورة الحجرات وأجمل؛ فلقد جاء فيها:
(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(9)) [سورة الحجرات].
ثم قال بإجمال وتوكيد: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(10)) [سورة الحجرات].
إذن فإن المؤمنين قد يحدث بينهم اقتتال لسبب من الأسباب كالسخرية والسباب، والتنابز بالألقاب، وسوء الظن والتجسس والاغتياب.
إن هذه عيوب قد تؤجج الأحزاب، وقد تدعو للاقتتال والخروج عن الصواب، لكن الله يؤكد أن المؤمنين شأنهم الأخوة التي تساوي أخوة الأنساب، ولهذا قال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، ولم يقل: “إخوان” أي كأنهم من والد واحد، وكيف لا وهم يجمعهم دين واحد، وسبيل واحد، ورب واحد، فلا يصح إلا أن تكون الأخوة فيهم هي الوصف السائد، ثم فأصلحوا بين إخوتكم فالصلح بين الأخوة واجب بأمر الله،
ولكن على أساس التقوى والسير على هداه، عسى أن تنال رحمته التي يرجوها كل مؤمن من ربه وإليها يسعى رغبة ورهبة؛ وعلى هذا فإن الصلح بين الأخوة المقتتلين واجب على أساس التقوى، وبالعدل الذي به الكل يرضى، بل وبالقسط الذي يسقط كل غل وشحناء، ويمحو كل سبب للخلاف بجلاء، ويعيد لحمة الإخاء.
فكيف كيف يتم هذا الصلح العادل والمقسط؟ وكيف كيف يستطيع المؤمن أن يقوم بالمهمة وتبقى بلا شطط وبلا غلط؟.
لا بد أن يدله على ذلك ويهديه، ولا بد أن يوضح له ما أشكل عليه، ولا بد أن يبين له ما أجمله فيما أوجب عليه، وهذا هو شأن الله مع عباده المؤمنين المتوكلين؛ الذين بهداه يهتدون، وبه يستعينون وبالحق منه يعدلون.
وهكذا تأتي آيتا البقرة لتفصل الإجمال، وتبين المبهم، وتدلنا على طريق الصلح العادل بين المؤمنين إذا اقتتلوا؛ بل إلى سبيل الصلح بالقسط الذي لا يدع مجالاً للشطط ولا يسمح بالرجوع إلى الخطأ، ولا يترك باباً من أبواب الشجار إلا أوصده، ولا سبباً من أسباب الغنى إلا قطعه، ولا قولاً من أقوال السوء إلا أسكتها؛ فإذا الغاضب راضي، والمغبون مستوفي، والمجروح مجبور، والغارم موفور،
وإذا الذين اشتجروا فسالت الدماء قد التحموا فسادت محبة الإخاء، وإذا الذي انقطع قد اتصل، والذي تقيح قد اندمل، والذي نقص قد اكتمل، والذي غوى عاد إلى رشده وعقل، والذي أخطأ قد تزكى وعلى الله أقبل وتاب إلى ربه وتبتل، وبهذا يعود المجتمع المؤمن يخرج من جحيم الاقتتال، إلى جنة الإخاء الوارفة الظلال، ومن ظلمات الجهالة والندم، إلى نور السلامة والنعم، ومن بيداء الخطب والخواء، إلى مروج الخصب والرخاء، ومن الغوى إلى الهدى؛ فيظلهم الله برحمته، ويزيدهم هدى على طريق طاعته؛ فإذا هم بهداه ينطلقون، على طريق المرسلين تابعين، ولله محبين وله شاكرين؛ فيزيدهم الله بالشكر مغنماً وعطاءً عظيماً وفاء بوعده الذي يقول فيه:
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ(7)) [سورة إبراهيم].
إن هذا الأمل الجميل الذي تخيله للمؤمنين المتصالحين؛ وهذا الطريق الجليل الذي يدعو إليه الله عباده الصالحين، هو ما جاءت آيات البقرة لتدلنا عليه وتدعونا إليه؛ فلنقرأ الآيات، ولنتدبر البينات؛ لنصل إلى الحقيقة التي تتضح بالتدبر والإمعان، والتي هي الهدف لكل ذي لب وإحسان؛ بل هي الحكمة التي هي ضالة أولي الإيمان؛
لنبدأ القراءة بعون الله، ولنعد إلى الآيات مهتدين بهدى الله؛ عسى أن نصل بهداه، إلى ما أراده وما قضاه، وإن نحقق بالتأمل ما حكم به الله؛ بلا التباسٍ ولا متاه؛ يقول الله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى).
هو خطاب للمؤمنين وإخبارٌ لهم بأن الله كتب عليهم هذا الحكم المبين، المشع برحمته للمؤمنين، وهو القصاص في القتلى؛ أي التعويض المالي في حدوث قتلى بين فئتين للقاتلين من المؤمنين؛
ولهذا جاءت كلمة القتلى مجموعة وليس مفردة، فالحكم خاص بالقتل الجماعي، فلو كان يريد بيان حكم القتل الفردي لقال: “كتب عليكم القصاص في القتيل أو المقتول”، ولكن لا يعني هذا أن القتل الفردي لا يدخل فيه لأنه قد يكون حصيلة الاقتتال قتيلاً واحداً،
وقد يكون القتيل فرداً بالخطأ؛ فهو داخل في حكم القصاص؛ أي التعويض المالي، كما جاء في سورة النساء التي أوردناها سابقاً.
وعلى أي حال، فلا يزال الحكم مجملاً وغير مفصل، ولعل السامع والقارئ سيسأل: ما هو القصاص في القتلى؟. فقال مبيناً:
(الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى).
وهكذا جاءت هذه الجملة مبينة للجملة السابقة المجملة، وهذه هي القاعدة المعروفة في علم البيان.
إن الجملة المفصولة عن أختها تكون للأولى بياناً، وهكذا كان هنا فلقد أوضح الله أن القصاص في القتلى إذا تعددوا بين الفئتين المتقاتلتين يكون بأن يحصى القتلى من الجانبين، وأن يحدد عدد الذكور الأحرار، وعدد الذكور العبيد وعدد الإناث الحرات، وعدد الإناث والإماء.
ومن المعلوم أن دية المرأة نصف دية الرجل، وأن دية العبد أقل من دية الحر؛ وعلى ضوء هذا الإحصاء وهذا التحديد؛ تبدأ المعاضة والمعاوضة بين الفريقين، فإذا كان لأحدهما قتيلان من الذكور الأحرار وللآخر قتيل واحد حر وأنثى حرة مثلاً فإن الجانب الذي له قتيلان حران يستحق ديتين كاملتين؛ بينما الجانب الآخر يستحق دية ونصف دية؛
إذن فقد عفي للأول شيء وأصبح زائداً له نصف دية على الفريق المقابل، وهذا مجرد مثال؛ وإذن فالذي عفي له من أخيه شيء وهو الفريق الأول له الحق أن يتبع المستحق عليه الزيادة ولكن متابعة لطيفة غير مزعجة، وبالمعروف الذي لا يؤذي ولا يثير الحرب؛ هذا هو الواجب عليه، وهذا هو ما يريده الله؛ فاتباعٌ بالمعروف فلا يجرح ولا يجحف ولكن في المقابل فإن على الذي لديه الحق أن يؤدي المطلوب بإحسان؛ فلا يسوف ولا يماطل ولا يجزئ ولا يؤخر ويؤجل؛ بل يعجل ويكل ويدفع بطيب نفس وبلا حمل ولا غل؛
أليس الأمر بين الجميع هو القسط والعدل، أليس الهدف هو الصلح بين الإخوة وتضميد جراح القتل؟، بلى؛ إذن فيبادر كل فريق إلى ما عليه بلطف وأسلوب لا يخل ولا يعطل الصلح الأفضل؛ فالذي له الحق يتبع بمعروف، والذي عليه الحق يؤي بإحسان بلا تسويف، وبذلك تندمل الجراح ويستقيم الصف، والصلح قد قام بين الفريقين واتصف، وكان بالعدل والقسط الذي لا ينسف، وهكذا يصبح الحكم بين الفريقين تخفيفاً ورحمةً وعطاءً من ربهم ونعمة؛ فليبادر الجميع إلى امتثال حكمه، والعمل بما قضاه؛ فإنه العليم المتفرد بعلمه، وهذا ما يؤكده الله ويقول:
(ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) ؛ يا للجمال ويا للحكم الفيصل الذي لا يقبل الجدال؛ ولهذا فإن القبول به والقنوع، والاستسلام له والخشوع؛ هو السبيل إلى استمرار الرحمة ودوام النعمة، وبقاء الأخوة بين المؤمنين قوية غير منفصمة، والمحبة متنامية غير محطمة؛ فمن خرج عن هذا السبيل، والتخفيف الجميل، والرحمة من الله الجليل، فقد استحق العذاب الوبيل، والجزاء الذي يليق به بلا تأجيل؛ وهذا ما يؤكده الله ويقول: (فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(178)) [سورة البقرة].
هذا هو حكم الله الحكيم العليم، وله واجب الانصياع والتسليم، وهذا هو شأن المؤمنين الذين يحكمون بما أنزل الله بلا ارتياب، وهذا هو طريق أولي الألباب، لأن فيه السلام والنمو والأمان، بل هو الحياة التي لا يخالطها ذل ولا خوف ولا أحزان؛ وهكذا يقول الله الرحمن مؤكداً هذا المآل لمن احتكم بحكم الله بإذعان؛ (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(179)) [سورة البقرة].
إنه حكم يرضاه الله الوهاب لأولي الألباب، ولقد كتبه عليهم وهو نعم الكتاب.
إنه السبيل إلى استمرار التقوى واستقامة العبودية والزكاء، واتصال الحب والإخاء، وذلك هو الباب إلى الحياة الأسمى في الدنيا والأخرى؛ حياة يظلها الأمن والسلام، في كل حالٍ وحين؛ فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.
وكيف لا وهم في رحمة الله يقيمون، وإلى جنته سائرون، وتلك هي الحياة التي نالوها بهذا الحكم الحنون.
وبعدُ؛ فهل اتضح المعنى من الآيات؟
وهل اقتنع القارئ بالتفسير هذا وبهذه القراءة للآيات.
أرجو أن يكون هذا هو المعنى الحق، والتفسير الأصدق، ولست بهذا أدعي الوصول، ولكن أظن أني قلت ما يفهمه من النص أهل العقول.
وعلى أي حال فإن فهم النص على غير هذا الأسلوب؛ هو الذي جعل المفسرين في اضطرابٍ وخلافٍ طويل؛ لأنهم ابتعدوا عن المعنى المقصود، ولم يقدروا مراد الله ومقصده المكين في شأن المؤمنين؛
ولكي أؤكد الاضطراب والخلاف؛ تعالوا نقرأ ما قال الزمخشري في الكشاف، لقد مضى في تفسير الآيات على أساس أن المراد بالقصاص هو القتل لمن قتل، ولكنه حتى وصل إلى قوله تعالى: (فمن عفي له .. شيء) [:]؛ اضطرب وحار، وتمحل المعنى بإصرار؛ فلنقرأ ما قاله في هذا الموضوع بذاته؛ لنرى حيرته وحيرة كلماته؛ فهيا معاً نتتبع خطواته.
وبعد أن نقلنا ما قاله بعض المفسرين في الآية؛ فإن الموضوع يتضح لنا من المنقول عنهم لم يدركوا موضوع الآية وماذا تقصد، ولماذا تشرع.
غير أن السيد قطب رحمه الله قد اقترب من الموضوع بشكل واضح؛ حينما رجح أن الآية تعالج موضوع القتل الجماعي؛ غير أنه لم يتنبه إلى أن المراد بالقصاص “الدية” فاستمر على الفهم العادي المتعارف عليه؛ وقرر أن الحر يقتل بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ولم يدرك أن هذا لا يمكن أن يتم ولا يصح أن يقام لأن الموضوع الجماعي لا يتضح فيه بالتحديد والتأكيد من الذي كان هو القاتل، ومن الذي كان المقتول؟
ولا يتضح من هو الذي قتل فلاناً وبمن قتل فلان؟ ولا يتأكد لنا من هو المباشر لقتل هذا الحر ومن هو المباشر لقتل هذا العبد؟ ومن هو المباشر لقتل هذه الأنثى هل هو حر قتل حراً أم هو عبد قتل حراً أم هو حر قتل حراً أم هي أنثى قتلت حراً؛ ما دام القتل جماعياً بين الطرفين، والاقتتال مختلط الأهداف والأغراض، مختلف المواقع والأحيان والوسائل والأسلحة؛ فلا يتضح للناس كيف تم قتل هذا ومن قتله لاسيما في هذا الزمان عصر السلاح البعيد المدى، المقذوف من بعيد على الأهداف سواء بالبندقية أو بالرشاش أو المدفعية أو الطائرات والصواريخ؛ فكيف يمكن في مثل هذه الحال تمييز أن فلان العبد قتل فلاناً العبد، وأن فلاناً الحر قتل فلاناً الحر، وهكذا في البقية،
إذن فالتمييز شبه مستحيل في هذا الوضع المختلط الأشخاص والأسلحة والمواقع والأهداف، وعلى فرض التمييز لقاتل ومقتول وهو محال فإن الحال هنا هو القتال الجماعي، والحل هنا هو الصلح والديات لا القود؛ فالقصاص المتعارف عليه بين المفسرين ليس محله هنا وليس القصاص، المراد هنا هو الديات؛ فيعطى لكل فريقٍ من الفريق الآخر دية كل مقتول منهم؛ فإذا قتل من أحد الطرفين مثلاً حر وعبد وأنثى، ومن الطرف الآخر حران اثنان وعبد وأنثى فإن الطرف الآخر قد عفي من الأول أي زاد له دية حر واحد؛ فعليه أن يؤديها بإحسان، وعلى أصحاب الدم الاتباع بمعروف، وهكذا يكون الحل،
وهكذا يكون الصلح بين الطائفتين المؤمنتين إذا اقتتلوا، وبهذا الصلح تدور الحياة وتنمو، وصدق الله القائل للمؤمنين: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(179)) [سورة البقرة]