الدلع

كشخص جاد – وكان: حاد- لم يكن يخطر ببالي أن أكتب في يوم من الأيام حول “الدلع”, ولست أدري أصلا هل هناك مقالات “فكرية” جادة تكلمت حول هذه الظاهرة المحورية في حياتنا,
ولكن استكشاف “الذات” الإنسانية, ومحاولة استظهار المحركات والدوافع الرئيسة المهملة, هو ما دفعني إلى كتابة مثل هذا المقال. في البداية أود التنبيه إلى أن استخدام المفردة “العامية”: الدلع, راجع إلى انطباق مدلولاتها –تبعا للاستخدام الحياتي في: مصر- مع ما سأتحدث عنه في هذا المقال, بخلاف مفردة: “الدلال”, والتي تنحصر مداليلها بدرجة كبيرة في شكل عاطفي من أشكال العلاقة بين “الرجل” و “المرأة”.

مبدئيا “الدلع” في اللغة هو “الاسترخاء” عكس الشد, فهو شكل من أشكال “الطراوة” و “الليونة”, وهو كذلك في الواقع, لاحظ مثلا أن وصفنا لأوضاع الفتيات في الصور والتي تكون دوما عبارة عن “تثني وتكسر” يوصف هذا بأنه: دلع.
ولكن حديثنا هنا ليس عن أي استرخاء وإنما عن الاسترخاء الذي يكون في “معاملة” إنسانية, حيث يُعطى الفرد أكثر مما يحتاج –أو يستحق-, ويكون الشخص هو محور اهتمام من يعامله, حيث يُعطى الشخص الإحساس بأنه هو الملك المتوج, يُفعل له ما يشاء, حيث تتهاوى حدود: “ما ينفعش”, و “مش موجود”, حيث كل ما يتمناه الإنسان ممكن ومتوفر, فالدلع معاملة تتسم بالليونة, وبقدر ما تزداد الليونة تزداد درجة الدلع, ولهذا فمن المتوقع –والواقع فعلا- أن يكون أحد طرفي المعاملة: أنثى, حيث أنه يتحقق فيها شرط الليونة الذاتية.

و “الدلع” ليس بالظاهرة الجديدة الغريبة على الإنسان, وإنما هي تجربة أصيلة مرتبطة بالطفولة, بدأت منذ قدومه إلى العالم, فسنواته الأولى كانت سنوات “الدلع”, حيث يُفعل له –تقريبا- كل شيء, ويُطلب رضاه, وحيث يُحمل على الأعناق –فعلا-, ويضم إلى الصدر ضما, وحيث هناك بدل الشخص شخصان –أو أكثر- يتنافسان على إسعاده.

وتنقضي سنوات الطفولة وينتهي معها “الدلع” تقريبا, ولكنه يظل حاضراً وبقوة في وجدان الصبي والفتاة, وبالتأكيد هناك من الأطفال من يمر بطفولة قاسية لم يحصل فيها إلا على قليل من الدلع من أمه, وهذه هي المأساة حقا!! ومن بين أكبر أسباب الزواج والارتباط في الوعي واللاوعي يأتي “الدلع”, حيث المرأة تحلم برجل يدللها كأبيها, وحيث يريد الرجل امرأة تدلله كأمه عندما كان طفلاً,
وعندما لا يحصل على هذا “الدلع”, -لأسباب عديدة ليس هذا مقام استقصاءها- يبدأ في البحث عن أخرى تدلعه!! وكذلك السعي وراء “العاهرة” هو كذلك سعي وراء الدلع, حيث تنفذ له كل ما يرغب بدون تمنع أو رفض, حيث تتحول الأحلام إلى حقيقة!!

والدلع في الطعام من أهم أشكال الدلع للكبار والصغار, حيث يُصنع الطعام المفضل وبكميات كبيرة وبأصناف متنوعة وبأشكال جميلة مُزينة, حيث لا نصيب محدد للإنسان, وحيث لا وجود لممنوع “صحي”, وحيث هناك من يؤكلك .. يضع لك الطعام في فمك, وهناك من يأتيك بالطعام لحد السرير فتستيقظ من النوم .. لتأكل!

ولاحظ المصطلح الذي ظهر مؤخرا “دلع” كرشك, حيث أصبح هناك المطالبة بتدليع جزء معين من أجزاء الجسم, وهناك كذلك المطالبة بتدليل الجلد والشعر .. الخ, وكذلك “المساج” هو تجسيد جيد للدلع, حيث هو القيام بشكل صريح بعمل “استرخاء” للجسم المشدود المتوتر, حيث الهدف هو الوصول إلى الاسترخاء.

ولكون المرأة ذات طبع لين فإن الدلع ينسجم مع طبعها, ولهذا تشعر بالحاجة الشديدة إليه, أن تعامل بلين وطراوة وليس معاملة الشدة,
ولهذا كثيرا ما تطالب الرجل ب: “دلعني”!! ويقف الرجل صاحب الطبيعة المشدودة حائراً: ماذا يفعل!! عاجزا عن إدراك أن تنفيذ هذا الطلب لن يكون لحظياً بأن يفعل لها شيئا في هذه اللحظة, وإنما هو تغير في أسلوب المعاملة بشكل عام.
فالهدية مثلاً نوع من الدلع, بغض النظر عن قيمتها المادية, وأن تُعطى المرأة مبلغا كبيرا لتشتري كل ما تحب هو نوع كذلك من الدلال, وعدم المحاسبة على ما فعلت دلال!
وإني لأعجب صراحة من علاقة زوجية ليس فيها مسح متبادل متكرر دوما على الوجه وعلى الشعر للطرف الآخر. والمشكلة أن السائد في “العقد الاجتماعي” العرفي المصري –أو العربي- أن دور الزوجة هو خدمة الزوج, ويطالب الزوج بهذا الحق بدون مقابل “لين”, ومن ثم تحدث المشاكل,
ولو قدم الرجل قليلاً من “الليونة” في معاملة زوجته, لوصلت المرأة من تلقاء نفسها واستجابة لطبيعتها اللينة لدرجة “الدلع” التي يحلم بها الرجل, متجاوزة مرحلة “الرعاية”.

و”اسم الدلع” من مظاهر الدلع, حيث يُعطى الشخص اسما هو تحوير لاسمه الأصلي, أو اسم يدل على سمة معينة فيه أو فيها سواء سمة شخصية أو جسدية, أو اسماً يشير إلى العلاقة بينه وبين الطرف الآخر, أو اسم دلع من الأسماء المستخدمة في المجتمع بشكل عام, حيث أن العرف أن الدلع بالأسماء لا يكون إلا بين الأهل والأحبة,

وهناك من الرجال من يتقبل أن تدلله زوجته فيما بينه وبينها, بينما يحمر وجهه خجلاً إذا خاطبته في العلن بهذا الاسم, وهناك من الرجال من لا يتقبل التدليع بالاسم بتاتا, بينما تحب المرأة هذا في جميع مراحلها العمرية, بل ويسعدها وجود أكثر من اسم دلع لها.

ولا يقتصر الدلع على المعاملة الشخصية, وإنما يتعداه إلى كيان كامل من الكيانات المجتمعية وهو كيان “السياحة”, فمنظومة السياحة والفنادق قائمة على “الدلع”,
فعندما يذهب الإنسان إلى المطعم هو نعم ربما يأكل طعاما أشهى من البيت, ولكن المسألة ليست في اللذة وإنما في “الجو”, حيث المظهر الجميل, وحيث هناك من يشير له بإصبعه فيأتي ليلبي له طلباته, وهناك من يسأله: هل أعجبك الطعام؟ هل لديك أي ملاحظة .. الخ! والفنادق والقرى السياحية تقدم هذا بشكل أشمل, فلا يقتصر على مجرد لحظات من الدلع وإنما يتعداه إلى يوم كامل –أو عدد من الأيام- حيث جل ما يريد موجود بشكل شبه مثالي.
ولهذا فمهما ازداد التطور العلمي ستظل “الخدمة” في مجال السياحة بشرية, ولن تصير أبداً آلية (ولا أقصد بهذا تنظيف الغرف, وإنما التعامل والاحتكاك المباشر مع البشر), وبالمناسبة فإن “المقهى” ليس مؤسسة “دلع”, وإنما مؤسسة “تنفيس” حيث هي متنفس خارج البيت, وربما مكان للقاء الأصدقاء للتسامر.

في الختام أقول:
لا تظهر “الحضارة” إلا بجد واجتهاد, حيث هناك علم وعمل متواصلين, وفي العلم والعمل واللذين يستنزفان أكثر عمر الإنسان لا يوجد مكان للدلع, وإنما هناك صرامة وشدة وربما قسوة,
لهذا يظل الإنسان في حاجة وشوق مستمرين إلى “الدلع”, إلى أن يعود إلى “جنة الوالدين” التي خرج منها بنضجه, يحلم بأن يصير ولو لساعات مجددا ذلك “الطفل المدلل”, لينسى هذه الجدة والشدة,
وخلق الإنسان من أجل هذا الهروب كيانات عملاقة في مختلف زوايا الأرض, وبغض النظر عن تكلفتها الهائلة, فإن هذا الدلع لا يكون إلا “أياما معدودات” طيلة العام,

والدلع هو نوع من تقليل “الاحتكاك” الناشئ من المعاملات الإنسانية. ولهذا فإن كل إنسان بحاجة إلى فرد آخر مخصوص ملازم له طيلة عمره يوفر له هذا الاحتياج الرئيس, يقوم بتدليعه, يقوم بوضع القبلات بشكل مستمر على جبينه .. وعلى يده, يقول له باستمرار: أنت سيدي وأنتِ سيدتي. فإن لم يوجد ذلك الشخص .. احترق الإنسا

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

حول إنكار العقل الغربي ل “النظام الكبير”!!!

في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.