التقديس لدرجة الهجران و التهميش

يقدس الناس في بلادنا العربية و الإسلامية الدين أيما تقديس و هذا أمر حميد في عصر تهيمن عليه ممارسات نزع القداسة و المادية و التسليع لكل شيء: فنجد مظاهر هذا التقديس كالحرص على حفظ القرآن الكريم و تجويده وتعقد المسابقات و تمنح الجوائز , لكن لم نر جوائز تمنح على تطبيقه أو جائزة أحسن متدبر للقرآن الكريم مثلا! حيث أن القراءة تكون في أكثرها للتبرك و نيل الحسنات أو إهداء ثوابها لمن توفاه الله. أما عملية التفاعل مع القرآن بالتلاوة أو القراءة المتفحصة ككتاب كوني و مرجعية نهائية للإ هتداء و التطبيق في الحياة الدنيا قلما نجدها بل يكون التعويل أكثر على كتب التفسير لفهم معاني و مرامي القرآن حيث أن هناك مقولات تراثية من قبيل: “من قال برأيه في القرآن فقد كفر”، وتلك المقولة تكون في سياق عملية التفسير للمتخصصين فما بالنا بالمسلم العادي. فأحيط القرآن الكريم بسياج من الهيبة النفسية التي تخالف طبيعة النص التفاعلية. المفارقة أن القرآن الكريم يدعو الإنسان لتدبره: “وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ” 22سورة القمر و أيضا في قوله تعالى: “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا”24 سورة محمد.

بل أن عملية التهميش للقرآن امتدت إلى العلوم الدينية التراثية ذاتها اى في مراحل مبكرة من تاريخنا  كأصول الفقه و الفقه كما أشار العالم الجليل طه جابر العلواني رحمه الله في العديد من كتاباته حيث تمت عملية بناء تلك العلوم من خارج القرآن و كان يتخذ القرآن فقط كشواهد للاحتجاج دون أن يكون القرآن الكريم منطلقها و مرجعها الأساس بل فرضت الرواية الشفوية الظنية على الكتاب وأصبحت ناسخة و مخصصة له إضافة الى مصادر أخرى  كالإجماع و القياس و الإستحسان … الخ فضلا عن تغلغل كل من المنطق الأرسطي والرواقي في بنية هذا العلم وليس هذا المقام للإسهاب و التفصيل في هذا الصدد.[1]

بُعيد تشكل المذاهب الفقهية الأربعة بنهاية القرن الرابع الهجري و مع تكريس التقليد اصبحت كتب أئمة المذهب السابرين هى المرجع الأساس للفقيه و المفتي . فعلى سبيل المثال: كتب الإمام أبو حامد  الغزالي رحمه الله المتوفى (506ه.) حجة الاسلام في كتابه المستصفى, إذا وجد الفقيه إجماعا فلا حاجة له للعودة للقرآن و السنة و ذلك في بيان ترتيب الأدلة: ” فينظر أول شيء في الإجماع, فإن وجد في المسألة إجماعا ترك النظر في الكتاب والسنة, فإنهما يقبلان النسخ و الإجماع لا يقبله فالإجماع على خلاف ما في الكتاب و السنة  دليل قاطع على النسخ , إذ لا تجتمع  الأمة على  خطأ” ![2]كما ورد عن ابن الصلاح رحمه الله في كتاب تحفة المحتاج في شرح المنهاج: “بأن نص إمام المقلَّد  في حقه كنص الشارع في حق المقلِّد”.[3] فتحولت كتب  الفقه والأصول و الحديث الى شرعٍ مواز للقرآن الكريم.

 إذا أولى خطوات تهميش القرآن الذي هو أساس الدين تكون بتعطيل التفاعل مع النص و مع الواقع المعيش الذي ينص القرآن ذاته في العديد من أياته على التدبر في الكون و في تاريخ الأمم أي الواقع الإنساني و تحولاته فيحدث الشقاق بين ثنائية الواقع و الواجب فعلى الرغم من انتشار إذاعات القرآن الكريم و قنواته إلا  أن واقع العالم الإسلامي في اتجاه معاكس للقيم القرآنية أي أننا امام حالة من التقديس النظري حيث الحرص على الاعتناء بالمصاحف وطبعها طباعة فاخرة والاحتفاظ به في السيارات و خلافه و لكنه مهجور الى حد بعيد عمليا بل غير مؤثر في السلوك العام إلى حد بعيد.

 اذا نحن أمام خلل معرفي  إدراكي بالغ الخطورة يعطل الدين و مقاصده رصده المستشرق الأمريكي كيفين رين هارت حيث تعجب من حفظ الأطفال المسلمين للقرآن الكريم في بعض بلدان  إفريقيا و أسيا دون فهم حرفا واحدا منه ويكأن القداسة تحل في شخص الحافظ بل شبه الأمر بسر التناول في المسيحية، وإن كنت لا أتفق مع مبالغة هذا المستشرق الأمريكي و اسقاطه الثقافي المتأثر بخلفيته المسيحية، فهذا يخالف طبيعة التوحيد المتجاوز في الإسلام الذي يضع مسافة بين الخالق المطلق و الإنسان النسبي لكنه خلل تربوي و منهجي يؤثر بالسلب على عقلية ووجدان الإنسان المسلم الذي يؤمن بقيم الدين و لكنه يعجز عن العمل بها  في ميدان الواقع المعاصر الذي لم يك للمسلمين دورا في تشكلية بشكل كبير على مستوى السياسة والاقتصاد والاجتماع بسبب التراجع الحضاري والغفلة .[4]

فما ذكرناه آنفا من خلل إدراكي و معرفي للدين يشهد به واقعنا اليومي على ظاهرة التقديس مع التهميش بل يفرز في أحيان كثيرة مفارقات ساخرة فحين نتابع في الإعلام استضافة بعض الراقصات الشهيرات و التى تؤكد على سمو ما تقوم به من الفن بل يسألها المذيع عن رحلتها الأخير لقضاء العمرة و كيف كانت ردود أفعال الجماهير ,على صورها بزى الإحرام بجوار للكعبة المشرفة , على مواقع التواصل الإجتماعي ذاتها التي تنشر صورا مخالفا للشرع الحنيف  و كيف أنها حجت أكثر من مرة و قد يدخل المذيع في حوار عبثي بسؤال تلك الفنانة عن رأيها الشرعي في الرقص الشرقي و هل هومن قبيل الفن أم الابتذال! فأنا لا أشك في تلك المشاعر الدينية الخالصة و المتوارثة لكن بسبب الخلل المعرفي فهى تؤمن بقداسة الدين ولكنها تهمشه عمليا وتتبع نموذجا ماديا ينزع القداسة عن القداسة النظرية المتوارثة.

 مما يعبر عن التشوه الفكري للمجتمعات المسلمة الناجم عن العراك الحاصل بين المفاهيم العلمانية الغربية التي تهمين على مجتمعاتنا بحكم الأمر الواقع و بين جذورنا الدينية الراسخة غير المفعلة لأسباب معرفية وإدراكية بالأساس.

وما  أهل غزة ببعيد عن الجانب المأساوي لظاهرة التقديس المصاحب بالتهميش حيث يتساءل أطفالها قبل شيوخها أين العرب و المسلمين من نصرتنا؟ ألسنا بلد أولى القبلتين و ثالث الحرمين؟! الجواب إن الإيمان غير الواعي بالنص و الواقع غير المتفاعل معهما بكل قواه الإدراكية يتحول فيه الدين المقدس إلى كلام نظري و مشاعر جياشة لكن مع عجز تام في ميدان العمل و بهذا يهجر و يهمش الدين واقعيا و تكون الأمة سليبة الإرادة فشئونها بيد غيرها.

ختاما لابد من مراجعة شاملة ومنهجية بهدف إصلاح مؤسسات تعليم القرآن الكريم وألا يكون التركيز على الحفظ والترديد فقط كي نتخلص من متلازمة التقديس مع التهميش. لا بد من أن تتعلم الأجيال الجديدة  كيفية تدبر القرآن وتفعيله في السلوك اليومي فضلا عن التدريب على مهارات التحليل و التفكير النقدي وقراءة الواقع المعيش في المراحل السنية الأكبر. و كل هذا يحتاج إلى إعادة تأهيل معلمي القرآن و المنظومة التربوية والتعليمية بشكل عام حتى يكون التدين ذا فاعلية و محققا لمقاصد الشرع من توحيد و تزكية للإنسان لأن دونهما لا يمكن تحقيق باقي المقاصد من الإصلاح أو العمران و من ثم تحقيق العدل و لو بشكل نسبي، والله أعلى وأعلم.

بقلم الباحث:أحمد أمير


عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

في توالد المفردات في البدء كان “الاسم”

في مقالين سابقين تحدثت عن نشأة “التسمية”, أي كيف تم إعطاء دوال للمدلولات, فلم تعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.