اجتهاد جديد غير مسبوق حول صدقة الفطر

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد وسلام على عباده الذين اصطفى، ثم أما بعد:
ففي كل رمضان يثور الجدل حول إخراج صدقة الفطر، هل تُخرج حبوبا/ طعاما أم يمكن أن تخرج قيمة/ مالا؟ وكالعادة كنت أتجنب خوض الجدل في هذه المسألة لأنه لن يقدم أو يؤخر كثيراً.
ولكني قابلت هذا العام تحديدا في –وقبل- رمضان، على مواقع التواصل عدد من “الفتاوى” الموغلة في الجهل، والتي تقول بتحريم أشياء وإبطال عبادات ومنع أفعال، (وهي من المسائل الخلافية منذ قديم الزمان، إلا أن الناقل قرأ قولاً فأقنعه أو أعجبه فنقله على مواقع التواصل بدون أن يتثبت من وجود أقوال أخرى أو يعرف بأدلتها!!)

ورغما عن كوني كنت قد عقدت النية ألا أجادل أو حتى أكتب بخصوص مسائل فقهية، إلا أني رأيت أن أتناول مسألة صدقة الفطر، وذلك لأن التناول سيكون من زاوية مغايرة تماماً، حيث سأعرض لها من زاوية “مستند” الرسول الكريم في الأمر بها، فأقدم فرضية فريدة، أقول فيها:
من يتدبر التشريع الرباني يجد أنه جعل هناك صدقة/ زكاة يخرجها الإنسان من دخله مثل صدقة المال أو الأنعام أو الزروع، كما أنه جعل “الإنفاق” الباب الأول للكفارات مثل إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لا يستطيع الإنفاق يتجه إلى بدائل أخرى مثل الصيام.

وعندما كتب الله الصيام على عباده ربطه بالإطعام، فقال:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ
وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ”
فجعل فدية المطيق إطعام مسكين، وبعدها قال: فمن تطوع خيرا فهو خير له، فمن زاد عن طعام مسكين أو حتى أخرج بدون إفطار فهو خير له.

وأنا أرى أنه من هذه الجزئية استقى الرسول الكريم من هذه الآية أن يتصدق/ يتطوع المسلمون في آخر رمضان، فيخرج كل منهم صدقة عن نفسه وعن كل فرد من أفراد بيته هي طعام للفقراء والمساكين، حتى يعم الفرح والسرور المجتمع المسلم، ومن ثم فهو اجتهاد نبوي إمامي (بصفته حاكم المؤمنين)، مثله مثل النهي عن ادخار لحوم الأضاحي في عام فاقة ثم إباحته لهم بعدها –فكان أمرا تنظيميا إماميا-.

قد يقول قائل: وما الدليل على مثل هذا القول؟!
فأقول: أولاً: مخالفة هذه الصدقة كل “الإلزامات المالية” في الإسلام، فأنا إما ارتكبت معصية ومن ثم فأنا أفدي أو أكفر، وإما اكتسبت مالاً فأنا أتصدق منه، أو لدي مال وأريد أن أخرج منه صدقة، فما هو مبرر إخراجي مال بعد عبادة ثقيلة أطال القرآن في تلطيفها عند الحديث عن كتابتها عن المسلمين ليخفف من وطأتها عليهم؟! ناهيك عن أنها محددة بالأفراد وليس بنسبة من المكسب أو الملك أو ما شابه!!

ثانياً: صياغة الصحابة للإلزام بها عند الحديث عنها، فنجد عند البخاري مثلاً:
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
“فَرَضَ النَّبِيُّ” صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ أَوْ قَالَ رَمَضَانَ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ
وفي مصنف عبد الرزاق:
عن ابن عمر قال : “أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر على (4) كل حر ، وعبد مسلم ، صغير ، وكبير صاع من تمر أو صاع من شعير.

ابن ماجة
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ
“فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ” صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ.
فنجد أن عبد الله بن عمر وابن عباس عند الحديث عنها أسند الأمر بها إلى الرسول … وليس إلى الله! وهذا ما لا نجده في أي “عبادة” أخرى، فلم نجد مثلا رواية تقول: فرض رسول الله الصلاة كذا أو فرض رسول الله كذا! وإنما هناك حديث عن أداء رسول لها وتعليم المسلمين إنما نسبة الفرض بها إلى الرسول فقط –وليس إلى الله وللرسول- فلا نجدها إلا هنا!!

وما يقوي هذا ما روي في مصنف عبد الرزاق:
عن أبي عمار قال : سألنا سعد بن قيس بن عبادة عن زكاة [ الفطر ] فقال: أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا، ونحن نفعله.
فها هو الصحابي سعد بن قيس كذلك يفرق بينها وبين “الزكاة المفروضة” وينسبها إلى الرسول فقط! وكيف أن النبي لم يؤكد عليها بعد نزول فريضة الزكاة، ولو كانت وحياً واجباً لما انقطع عن الأمر والتذكير به في “الرمضانات” التالية! ولكن الرسول لم يفعل!
انتبه 6 أو 7 رمضانات –بعد فرض الزكاة في القرآن- لم يأمر فيها الرسول المسلمين بصدقة الفطر، وهذا يؤكد قولي بأنها “اجتهاد” نبوي إمامي في تنزيل آي القرآن على واقع المسلمين بما فيه نفع لهم.

وحتى لا يظل هناك شك في نفس القارئ بسبب حديث ابن عمر “فرض” وأن الأصل في الفرض هو الوجوب!
فأقول: هذا هو المعنى الفقهي المتأخر الذي اكتسبته المفردة, إنما أصل معنى الفرض هو التحديد وفي سياقنا الدين: التشريع .. إعطاء حكم –كما قال الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب: “وأصْلُ مَعْنى الفَرْضِ في اللُّغَةِ الحَزُّ والقَطْعُ، قالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: الفَرْضُ الحَزُّ في القَدَحِ وفي الوَتِدِ وفي غَيْرِهِ، وهَذا أيْضًا راجِعٌ إلى مَعْنى القَطْعِ؛ لِأنَّ مَن قَطَعَ شَيْئًا فَقَدْ أبانَهُ مَن غَيْرِهِ، واللَّهُ تَعالى إذا فَرَضَ شَيْئًا أبانَهُ عَنْ غَيْرِهِ، فَفَرَضَ بِمَعْنى أوْجَبَ، وفَرَضَ بِمَعْنى أبانَ، كِلاهُما يَرْجِعُ إلى أصْلٍ واحِدٍ” اهـ
وفي القرآن: ” لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً”، أي ما لم تجامعوهن أو تحددوا/ تبينوا لهن مهرا.
وكذلك: ” إِنَّ ٱلَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍۢ ۚ “
وكذلك: “ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له”، فافهمها هنا بمعنى: شرع الله لك ستجدها أنسب من: أوجب لك، ويؤكده كذلك قوله:
” قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ “، فستجد أن فرض بمعنى “شرع” وليس: أوجب! لأنه حتى لا يستقيم: أوجب الله لكم! أوجب تتعدى ب: عليكم.

إذا فزكاة الفطر كانت اجتهاداً نبوياً تنزيلا لآيات القرآن على الواقع!
وإخراجها طعاما يؤدي إلى تراكم الطعام عند الفقراء والذين يقومون ببيعه مرة أخرى إلى التجارة بسعر بخس، فيستفيد التاجر ويخسر الفقير!

فإما أن نأخذ بالاجتهاد الذي يحقق المقصد وهو إغناء الفقراء عن المسألة في هذا اليوم، ونخرجها مالاً، أو نأخذ بالاجتهاد الآخر والذي يقول بجواز تأجيلها لما بعد الفطر، كما جاء في مصنف عبد الرزاق:
5841 – عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : لا بأس أن تؤدوا زكاة الفطر قبله بيوم أو يومين ، أو بعد الفطر [ بيوم ] أو يومين ، قال : وكان يخرجها هو قبل أن يغدو.
5842 – عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : هل في ذلك حرج إن أخرتها حتى تكون بعد الفطر ؟ قال : لا.
فيخرجها الناس طعاما ولكن لا يعطون الفقراء إلا جزء يسير، ويُعطى الجزء الأكبر لمؤسسة مخصوصة تقوم بتقديم هذا الطعام للفقراء طيلة العام كحصة أو تموين شهري بسيط، وبهذا لن يتراكم لدى الفقير، كما إنه لو باعه فلن يغنيه كثيراً، وبهذا يستفيد منه.
والله أعلى وأعلم.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

مناقشة كتاب عقائد الإسلاميين جزء ٢

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.