الخطاب الديني بين التجديد والإحياء

لم تكن الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني مجرد نداءات أطلقها بعض الباحثين أو الأكاديميين, وإنما صُحبت – بل وسُبقت – بمساعٍ من أفراد وجماعات لمعالجة خلل الخطاب الديني السائد في الساحة الإسلامية, كلٌ حسبما يرى الداء والدواء.

ويمكن أن نقول أن هذه المساعي إجمالاً انحصرت في: “حركات إحيائية” و “محاولات تجديدية” فالحركات الإحيائية تتمثل بتلك المساعي التي ترى أنه كان سابقاً ثمة منهج صالح ولكن –لأسباب عدة- هُزم هذا المنهج، وتم الحياد عنه سواء تنظيراً أو تطبيقاً, وأن إحياء هذا المنهج وتعميمه كفيل بإصلاح الخطاب الديني – ومن ثم الأمة 

ومن أشهر المناهج التي سُعي لإحياءها كان منهج مدرسة أهل الحديث, والذي عُرف في زماننا هذا ب “السلفية”, والذي كُتب له انتشار كبير، وخاصة بين الشباب وبين محدودي التعليم.
وكذلك كان السعي لإحياء وتعميم المذهب الأشعري, الذي يرى أتباعه فيه وسطية بعيدة عن “ظاهرية وجمود السلفية” و “عقلانية المعتزلة” (ولا يمكن الحديث هنا عن إحياء الصوفية, فهي لم تتوارى أو تضعف, فلقد كانت حاضرة بقوة في المجتمعات الإسلامية, وإن بدأت تفقد جزءً من حضورها هذا في الفترة الأخيرة).

كما سعى آخرون لإحياء منهج المعتزلة, بعد أن رأوا فيه المنهج الأنسب للتعاطي مع أحوالنا في العصر الحديث, معتقدين أن الإشكالية الكبرى التي وقعت فيه الأمة قديما كانت هي القضاء على المنهج المعتزلي, ومن ثم سادت مناهج تراثية خرافية, أدت إلى تخريب “العقل المسلم”.

ورغم أن الحركات الإحيائية التقليدية تتميز عن غيرها بسهولة وصولها إلى أكبر عدد من المتلقين لانطلاقها من المساجد, فإن “المعتزليين الجدد” يحاولون المنافسة عن طريق الشبكة المعلوماتية, وحققوا خطوات لا بأس بها في هذا المجال في السنوات العشرة الأخيرة, إذ استطاعوا الوصول عبر الشبكة المعلوماتية إلى جمهور عريض.

وبجانب هذه الحركات الإحيائية, والتي يتحرك تحت غطائها كثيرون على شكل جماعات –أو ما يشبه الجماعات- كانت هناك محاولات تجديدية من أفراد, حاولوا تقديم فهم أو “قراءة جديدة” للدين, تلغي الإشكاليات المرتبطة به, وتجعله مناسباً لإنسان عصرنا الحديث

ومن أشهر تلك المحاولات هي القراءات اللغوية الجديدة للنص الديني, والتي قام بها عدد من الباحثين, مثل: نصر حامد أبو زيد ونصر، ومحمد شحرور، ومحمد أركون, إلا أن كتابات شحرور حظيت بفرصة وانتشار أكبر, وإذا أخذنا شحرور نموذجا

وجدنا أن منهجه المقدم في كتبه, التي ابتدأها ب: “الكتاب والقرآن, قراءة معاصرة”, هو تطبيق لبعض المناهج اللغوية الحديثة على النص القرآني, من أجل تقديم “تفسير” جديد للقرآن, وللعمل على إعادة صياغة المفاهيم الموروثة بشكل جديد, ومن ثم تجديد الفقه الإسلامي وحل مشكلة الجمود المسيطرة على الفكر الإسلامي.

وبجانب هذه الحركات الإحيائية, والتي يتحرك تحت غطائها كثيرون على شكل جماعات –أو ما يشبه الجماعات- كانت هناك محاولات تجديدية من أفراد, حاولوا تقديم فهم أو “قراءة جديدة” للدين, تلغي الإشكاليات المرتبطة به, وتجعله مناسباً لإنسان عصرنا الحديث

ومن أشهر تلك المحاولات هي القراءات اللغوية الجديدة للنص الديني, والتي قام بها عدد من الباحثين, مثل: نصر حامد أبو زيد ونصر، ومحمد شحرور، ومحمد أركون, إلا أن كتابات شحرور حظيت بفرصة وانتشار أكبر, وإذا أخذنا شحرور نموذجا
وجدنا أن منهجه المقدم في كتبه, التي ابتدأها ب: “الكتاب والقرآن, قراءة معاصرة”, هو تطبيق لبعض المناهج اللغوية الحديثة على النص القرآني, من أجل تقديم “تفسير” جديد للقرآن, وللعمل على إعادة صياغة المفاهيم الموروثة بشكل جديد, ومن ثم تجديد الفقه الإسلامي وحل مشكلة الجمود المسيطرة على الفكر الإسلامي.

ولا تقتصر المحاولات التجديدية على القراءات اللغوية، وإنما تمتد كذلك إلى “محاولات جزئية” تحاول معالجة القصور الموجود في بعض المبادئ والمنطلقات, من خلال نقد “القواعد العلمية” التي وضعها علماء المسلمين؛ عبر تجديد علم أصول الفقه, الذي دعا إليه بعض الباحثين مثل: حسن الترابي وحسن حنفي, وكذلك الدعوة إلى تجديد الفقه الإسلامي، التي تبناها جمال البنا في كتابه الكبير “نحو فقه جديد”.

إلا أنه يعيب هذه القراءات عيبان خطيران, وهو كونها قراءات لنخبة المثقفين, وليست حتى للمثقف العادي! ومن ثم فإن جمهورها ينحصر في شريحة محدود ضيقة, ومن الصعب إيصالها إلى العوام ونشرها بينهم! لأنهم وبكل بساطة غير قادرين على استيعابها, وسيعتبرونها لياً وتلاعباً بالنصوص!

والعيب الثاني هو أنها محاولات “عقلية علمية”, تخاطب العقل وتقنعه!
وهي ناجعة مع أولئك الذين لم يقنعهم الدين بصورته الحالية, بينما ينتظر الناس عواما ومثقفين من الدين خطاباً للقلب ومحتوى أخلاقي, وهو ما لا يقدمه أصحاب هذه القراءات بحال, لذا تظل الحركات التجديدية –بما فيها المعتزلية- أكثر تأثيرا, لأنها تقدم للراغب في التدين تراثاً كبيراً يشمل الجوانب العقلية والقلبية والأخلاقية.

ومن ثم فلكي يحقق الخطاب التجديدي نجاحا فإنه بحاجة إلى مجتهدين يجمعون الخطابين: الخطابَ العقلي, الناقد لقديم القواعد والأصول, وكذلك: الخطابَ القلبي الأخلاقي بالتوازي!
بعيداً عن الانتماءات الفرقية, فالمعتزليون الجدد قد يتوفر فيهم هذا الشرط, إلا أن تصنيفهم تحت فريق معين قد يُنفر كثيرين من السماع لهم! بينما مع ظهور “مشائخ عقلانيين” غير مصنفين لفريق بعينه, يأخذون من كل التراث ويتركون وينقدون ويعالجون, سيختلف الحال كثيراً وسيستطيعون الوصول إلى عدد أكبر من المتلقين!

ولهذا حاز الشيخ محمد عبده سابقاً على هذا الانتشار والقبول, لتوفر الشرطين فيه. وفي عصرنا الحديث يعد الشيخ عدنان إبراهيم نموذجا لهذا الصنف! حيث يقدم اجتهاداته واختياراته من التراث “الإسلامي” من خلال خطاب ديني “مسجدي”, منفتح على الآخر, يأخذ من النتاج الإنساني ما ينفع المسلم, ولهذا يتابع خطبه الأسبوعية أعداد تقدر بمئات الألوف على الشبكة المعلوماتية

وهو ما لا يحدث بحال مع كتابات “العقلانيين”. فهل “يتنازل” أتباع المنهج العقلاني ويحاولون النزول إلى المساجد –أو حتى تقديم دروس دينية على الشبكة المعلوماتية بالآراء التجديدية, باللغة التي يفهمها العوام، وبالمحتوى الثنائي: عقلي قلبي، أم سيكتفون بمخاطبة الصفوة من خلال الكتب ومن خلال شاشات التلفاز, بلغة علمية جافة, والرضا بتحقيق انتصارات أكاديمية؟!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

مناقشة كتاب عقائد الإسلاميين جزء ٢

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.