“ولم يكن لحديث عهد بإسلام أن يعترض على بعض الدين!”
كان تقدير الإله الحكيم أن يرسل إلى البشر واحداً منهم محملاً بهديه, فكان الدين منهجاً إلهيا يبلغه ويطبقه بشريٌ من الناس, ولم يكن الإسلام في عهده الأخير بدعاً من الدين, فحمل الإنسان الأعظم محمد بن عبد الله كتاب الله القرآن وبلغه الناس,
وفي هذا الكتاب عرّف منزلُ الكتاب مستقبلَه –ومستقبليه من بعده- بدوره في الرسالة فقال: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً [الأحزاب : 45-46]“, “لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [آل عمران : 164]”, “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [الجمعة : 2]”,
فالرسول شاهد ومبشر ونذير وداع إلى الله, وهو يقوم بهذا الدور بأن يتلو على الناس آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.
ولا يجادل أي مسلم في أدوار الرسول هذه, فالرسول وعظ وعلم القرآن وربّى وأدّب وبلّغ وقدّم القرآن نموذجا حياً في الواقع, وترك ثروة إنسانية تربوية هائلة من حِكم وأفعال لا يجادل فيها إلا … قرآني! إنما كان الخلاف الرئيس حول: تشريع الرسول زائداً عن القرآن على سبيل الوجوب! فهل كان للرسول هذا الحق؟!
الرأي السائد بين أهل السنة هو أن نعم, له هذا الحق, ويستدلون على هذا بآيات تأمر بطاعة
الرسول! مثل “ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران : 32],
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء : 59],
وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ [المائدة : 92],
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد : 33]
مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النساء : 80]”,
ولا خلاف في أن طاعة الرسول واجبة, والسؤال هو: هل قالت أن طاعته واجبة فيما زاد عن القرآن وتأويله؟! فحتى الآية الشهيرة التي يستدلون بها على غير وجهها “… وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل : 44]”, فيقولون أن الذكر هو السنة
, وعلى قولهم فالآية لا تزيد عن كون السنة بياناً للقرآن, والبيان لا يكون زائدا! وكذلك آية الحشر: “مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر : 7]”,
والتي تتحدث عن الفيء وأن ما يؤتيه الرسول الناس عليهم أن يأخذوه وينتهوا عما ينهاهم فلا تمتد أيديهم إليه! ثم جعلوا المراد منها السنة! فليس فيها أي دليل على استقلال الرسول بالتشريع.
والجدال حول حجية هذه الآيات في التدليل على استقلال الرسول بالتشريع جدال مقلوب! فهذه الآيات هي خطاب للمؤمنين, (وهي في الأصل مخاطبة للالتزام بالدين والخروج عن الجاهلية) والسؤال الذي ينبغي طرحه على الفقهاء هو: أين قال الله للرسول أن له حق التشريع؟!!
إن كل الأدلة المقدمة لا يوجد فيها دليلٌ واحد خاطب به الله الرسول قائلاً أن له أن يشرع!! وإنما يُستدل بها على من احتار في هذه المنزلة هل هي للرسول أم لا, بينما لا تُنشئ علماً عند الرسول نفسه أن له هذا الحق! فإذا لم ينشأ عند الرسول فلا يتحصل لغيره!
ويبرهن على هذا مقاما الرسول, فأحيانا كان الرسول يُسأل فيجيب, وأخرى كان يُستفتي فلا يجيب وينتظر أن يأتيه الوحي, ففي المقام الأول الرسول يجيب تبعاً ل: “الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ .. [الأعراف : 157]”,
فهو يعطي نصائح عامة تبعاً للأعراف السائدة فيأمر بالمعروف, بينما عندما كان يُسأل عن تشريع كان يتوقف حتى يأتيه الرد من الرب العليم, ولهذا نجد دوما أن “يسألونك” كانت تُتبع في القرآن دوماً ب: “قل”: “يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ …[البقرة : 215]”,
“يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة : 219]”
كما نجد أن الأمر يزداد تأكيداً عند الحديث عن الاستفتاء, فلم يقتصر في الموطنين المذكورين في القرآن على “قل” وإنما أُمر الرسول بالقول أن الله هو من يفتي! فليس للرسول أن يفتي: “وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ .. [النساء : 127]”, “يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ ..[النساء : 176]”,
ومن ثم فإذا كان الرسول المصطفى وهو من هو عقلاً وفطرة ومكانةً ليس له أن يفتي, فكيف يكون لغيره أن يفتي وتكون فتواه من دين الله؟!! إن انتظار الرسول لنزول القرآن ونسبة الإجابة والإفتاء إلى الله دليل صريح في التفريق بين كلام الرسول وبين كلام الله, وأن ليس جُل كلام الرسول وحي.
والحق أن ما دفعهم إلى فهم هذه الآيات بهذا الشكل هو ما وجدوه من تراث روائي, رأوا من خلاله أن السنة زادت عن القرآن تحريماً وإيجاباً, في أمور عديدة, مثل المحرمات من الرضاع, ومثل الحكم بكفارة للمجامع في نهار رمضان, وغير ذلك من الأمور التي لم يجر لها ذكر في القرآن!
فنقول: ما زاد عن القرآن, إما هو مما أسيء فهمه! أو مما لم يقله الرسول ونُسب إليه, أو كان في مناسبة مخصوصة, أو لم يكن على سبيل الوجوب! فمثلاً قولهم أن الرسول حرم أصنافاً من الرضاعة لم يحرمها القرآن واقتصر على صنفين هما: الأمهات والأخوات من الرضاعة, كما جاء في قول الرب العليم: “حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ .. [النساء : 23]”, استند إلى فهمهم لحديث “إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنْ الرَّضَاعِ مَا حَرَّمَ مِنْ النَّسَبِ ” اهـ
وبغض الطرف عن كون هذا القول جاء عن عائشة نفسها: “حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ فَقُلْتُ: لَا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَخَاهُ أَبَا الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ. فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا مَنَعَكِ أَنْ تَأْذَنِي عَمُّكِ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ فَقَالَ: ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكِ. قَالَ عُرْوَةُ فَلِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا تُحَرِّمُونَ مِنْ النَّسَبِ ” اهـ, فالسيدة عائشة استنتجت هذا من قول النبي!
وحتى لو كان الحديث من قول النبي الرحيم فإنه قال “إن الله حرم من الرضاع ما حرم من النسب”, فهنا ينسب التحريم إلى الله وليس إلى نفسه, ثم إنه قال: “ما” ولم يقل: “من”!
ومن ثم فنحن نفهم أنه لم يكن يقصد الأنواع من أم وأخت وعمة وخالة ولكن كان يقصد شيئاً حُرم به, وهو النكاح, أي كما حرم الله النكاح بسبب النسب في أنواع معينة فكذلك حرم النكاح بسبب الرضاع في النوعين الذين ذكرهما في كتابه, وليس عاما,
فنخرج من هذا الحديث بما قالت به الآية من أن المحرمات من الرضاع هن من ذكرتهن الآية وهي الأمهات والأخوات من الرضاعة فقط, وأن الحديث كان يوضح أن المحرم هو النكاح الذي يحرم بالنسب لا أنه كان يضيف أصنافا أخرى.
فإذا انتقلنا إلى كفارة المجامع في نهار رمضان نجد أنهم يستدلون بما رُوي عن “سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْرِبُ نَحْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَقُولُ: هَلَكَ الْأَبْعَدُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا ذَاكَ؟ فَقَالَ: أَصَبْتُ أَهْلِي وَأَنَا صَائِمٌ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُعْتِقَ رَقَبَةً؟ فَقَالَ: لَا فَقَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُهْدِيَ بَدَنَةً؟ قَالَ لَا. قَالَ. فَاجْلِسْ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقِ تَمْرٍ فَقَالَ: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ فَقَالَ مَا أَحَدٌ أَحْوَجَ مِنِّي فَقَالَ كُلْهُ وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَ مَا أَصَبْتَ ” اهـ,
وبغض النظر عن أن الرواية عن سعيد بن المسيب وهو تابعي, فلقد جاءت روايات أخرى تبين أن هذا كان بسبب الظهار: “أَنْبَأَنَا أَبُو سَلَمَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ أَنَّ سَلْمَانَ بْنَ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيَّ أَحَدَ بَنِي بَيَاضَةَ جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ حَتَّى يَمْضِيَ رَمَضَانُ, فَلَمَّا مَضَى نِصْفٌ مِنْ رَمَضَانَ وَقَعَ عَلَيْهَا لَيْلًا فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً. قَالَ لَا أَجِدُهَا. قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ. قَالَ: أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قَالَ: لَا أَجِدُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو: أَعْطِهِ ذَلِكَ الْعَرَقَ. وَهُوَ مِكْتَلٌ يَأْخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ صَاعًا إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ” اهـ,
فهذه الرواية بيّنت أن الحادثة كانت في ظهار, وأن الجماع كان ليلاً, ومن ثم فإن الرسول لم يزد عما في القرآن, إلا أن الرواة خلطوا وجعلوها في الصيام!
وما قيل في هذين النموذجين السريعين يقال في كل ما قيل بزيادته عن القرآن, فيمكن رده إلى القرآن بشكلٍ من الأشكال, ولهذا رأينا الإمام الشاطبي يرد كل السنة إلى القرآن فيقول: “السنة راجعة في معناها إلى الكتاب. فهي تفصيل مجمله, وبيان مشكله, وبسط مختصره, وذلك لأنها بيان له,
وهو الذي دل عليه قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) فلا تجد في السنة أمراً إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية, وأيضا فكل ما دل على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها فهو دليل على ذلك, لأن الله قال: (وإنك لعلى خلق عظيم)
وفسرت عائشة ذلك بأن خلقه القرآن, واقتصرت في خلقه على ذلك, فدل على أن قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن, فالسنة إذاً في محصول الأمر بيان لما فيه, وذلك معنى كونها راجعة إليه, وأيضا فالاستقراء التادم دل على ذلك حسبما يذكر بعد بحول الله. وقد تقدم في أول كتاب الأدلة أن السنة راجعة إلى الكتاب وإلا وجب التوقف عن قبولها وهو أصل كاف في هذا المقام. ” اهـ
فما لا يرجع إلى القرآن ليس بسنة وإنما فعل جبلي أو تاريخي أو تنظيم مجتمعي استند فيه النبي إلى القرآن, إذ لا يمكن ولم يحدث أن نفذ أحد كل أفعال الرسول باعتبارها شرع واجب النفاد, وكان هذا رأياً للإمام الشافعي, فكان يرى أن كل ما شرعه النبي هو مما فهمه من القرآن, فيرى مثلاً أن تحريم النبي للعمة والخالة كان قياساً على تحريم الجمع بين الأختين, حتى لا تحدث قطيعة أرحام! (وهو ما يمكن قبوله باعتباره حكماً تنظيمياً مجتمعياً من حاكم المدينة, وليس تحريما شرعياً)
ولهذا قام الإمام القرافي بالتفريق بين الرتب التي قام النبي بأفعاله تبعاً لها:
“الفرق السادس والثلاثون بين قاعدة تصرفه صلى الله عليه وسلم بالقضاء وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ وبين قاعدة تصرفه بالإمامة.
اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم فهو صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته وهو أعظم من كل من تولى منصبا منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة, غير أن غالب تصرفه صلى الله عليه وسلم بالتبليغ لأن وصف الرسالة غالب عليه, ثم تقع تصرفاته صلى الله عليه وسلم منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعا ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء ومنها ما يجمع الناس على أنه بالإمامة ومنها ما يختلف العلماء فيه لتردده بين رتبتين فصاعدا
فمنهم من يغلب عليه رتبة ومنهم من يغلب عليه أخرى ثم تصرفاته صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة فكل ما قاله صلى الله عليه وسلم أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكما عاما على الثقلين إلى يوم القيامة, فإن كان مأمورا به أقدم عليه كل أحد بنفسه وكذلك المباح وإن كان منهيا عنه اجتنبه كل أحد بنفسه وكل ما تصرف فيه عليه السلام بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء به عليه السلام ولأن سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك,
وما تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بوصف القضاء لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم اقتداء به صلى الله عليه وسلم ولأن السبب الذي لأجله تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بوصف القضاء يقتضي ذلك ” اهـ
فكما رأينا فثمة أفعال قام بها الرسول بحكم جبلته الإنسانية وأخرى باعتباره الحاكم وغيرها باعتباره النبي المرسل, ومنها ما كان على سبيل النصيحة والإرشاد, كما أنه كان يقضي بين الناس, ولكن كان قضائه تبعاً لنظره في المسائل وليس وحياً من الله! ومن ثم فحكمه في القضاء ليس دينا, وإنما صادرٌ من مقام القضاء,
كما قال “… إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِرَأْيِي فِيمَا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهِ “! فالرسول يقول أنه يقضي برأيه, إلا أنهم أبوا أن يجعلوا رأي الرسول شرعا! فزعموا أنه مما يريه الله! مستدلين بقول الرب: “لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ“, وهو اقتطاع كريه كاذب للآية للاستدلال على شرعنة رأي الرسول! بينما الآية تقول للرسول: “إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً [النساء : 105]”,
فهي من ناحية تتحدث عن الحكم بما أراه الله في الكتاب, ومن ناحية أخرى الآية نزلت تلوم الرسول على المخاصمة للخائنين (لرقة قلبه) فكيف تصبح حجة على شرعنة رأي الرسول؟!
إن الزعم أن من تمام الإيمان الفعل مثلما كان يفعل النبي (بغض النظر عن المرتبة) قول لا يصدر إلا من شخص لا يعلم طبائع البشر ولا الغاية من الدين. فالرسول كان يعلم أنه مربٍ مزكٍ معلمٌ ناصح ولكنه ليس مشرعاً, لهذا كان يتحرج أن يُنسب إليه تحريم,
مثل ما جاء: “عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: لَمْ نَعُدْ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ وَقَعْنَا فِي تِلْكَ الْبَقْلَةِ فَأَكَلْنَا مِنْهَا أَكْلًا شَدِيدًا وَنَاسٌ جِيَاعٌ ثُمَّ رَحَلْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرِّيحَ فَقَالَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ شَيْئًا فَلَا يَقْرَبْنَا فِي الْمَسْجِدِ. فَقَالَ النَّاسُ: حُرِّمَتْ حُرِّمَتْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا ” اهـ
فالنبي ينهى عن أمر يؤذيه هو وباقي المسلمين, فحولها بعض قصار النظر إلى تحريم, فبين الرسول أن ليس له تحريم ما أحل الله! (فطالما أنه ليس هناك نص من القرآن فهي حلال!)
وهذه النقطة كانت شغل الرسول الشاغل حتى أنه كان يفكر فيها في مرض موته, كما رُوي: “عن ابن طاووس عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: لا يمسكن الناس علي بشئ، فإني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه. ” اهـ
وذكرها في أكثر من موطن مؤكداً عليها, ومن ذلك ما جاء عن: “عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا كَالْمُوَدِّعِ فَقَالَ أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ -قَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ وَعَلِمْتُ كَمْ خَزَنَةُ النَّارِ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ وَتُجُوِّزَ بِي وَعُوفِيتُ وَعُوفِيَتْ أُمَّتِي فَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا مَا دُمْتُ فِيكُمْ فَإِذَا ذُهِبَ بِي فَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ أَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ ” اهـ
فالرسول لم يترك أصحابه –وقومه من بعده- في حيرة وإنما أعلمهم أن له السمع والطاعة في الدنيا, وبعد موته يكون المرجع حصرا لكتاب الله, ومن ذلك ما جاء: “عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة وهو مرعوب، فقال: « أطيعوني ما كنت بين ظهرانيكم، وعليكم بكتاب الله، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه» اهـ, وما جاء في حديث الحج الطويل عن جعفر: “... وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ ” اهـ
وهذا المعنى والتصور كان راسخا عند الصحابة, فيروى “عن طاوس قال: سمعت أبا الدرداء، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن كثير عن غير نسيان فلا تكلفوها، رحمة من الله فاقبلوها »,
وهذا ما جاء كذلك عن سلمان الفارسي “قال: سئل سلمان عن الجبن والفراء والسمن، فقال: إن حلال الله حلاله الذي أحل في القرآن، وإن حرام الله الذي حرم الله في القرآن، وإن ما سوى ذلك شئ عفا عنه ” اهـ
و: “عن عبيد بن عمير أنه كان يقول: إن الله أحل وحرم، فما أحل فأحلوه، وما حرم فاجتنبوه، وترك من ذلك أشياء لم يحرمها ولم يحلها، فذلك عفو من الله، ثم يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء) الآية. ” اهـ,
و “عن ابن عباس أنه سُئل عن لحم الغراب والحديا فقال: أحل الله حلالا وحرم حراما وسكت عن أشياء فما سكت عنه فهو عفو عنه. ” اهـ
والنبي الكريم كان حريصا أشد الحرص على ألا يُزاحم كتابَ الله شيءٌ, لذلك نهى عن كتابة حديثه, حتى لا يأتي يوم فيأخذ أحدهم أمراً أو نهياً له كالوارد في مسند أحمد فيجعله إلزاما أو حراما!!
وحتى لا يحدث في الإسلام مثل ما حدث في الإسلام الموسوي “اليهودية” عندما ظهرت المشناة/ المثناة بجوار التوراة, فأُعملت هي وأصبحت حاكمة على التوراة! وكان كبار أصحابه على الدرب, فحرق أبو بكر الأحاديث المكتوبة, وكذلك فعل عمر, حتى لا تكون مشناة جديدة في الإسلام “حدثنا عبدالله بن العلاء قال: سألت القاسم أن يملي علي أحاديث فمنعني، وقال: إن الأحاديث كثرت على عهد عمر، فناشد الناس أن يأتوه بها، فلما أتوه بها، أمر بتحريقها، ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب. ” اهـ
ورغما عن هذا كله حدث ما نهى الرسول عنه, بأن أخذ أصحاب الحديث بالعلة! في النهي, وقالوا أن النهي كان لكيلا يختلط الحديث بالقرآن ! وكأن أصحاب الرسول لم يكونوا يعلمون هذا من ذاك جيدا! ومن ثم بدأ التأصيل للسنة بمخالفة السنة!
ولقد عد عبد الله بن عمرو كتابة الأحاديث من أشراط الساعة, إذا قال: «من أشراط الساعة أن يظهر القول ويخزن ويرتفع الأشرار ويوضع الأخيار وتقرأ المثاني عليهم، فلا يعيبها أحد منهم، قال: قلت: أما المثاني؟ قال: كل كتاب سوى كتاب الله.» اهـ.
إن رسول الله كان يعلم أن أوامره ونواهيه الخاصة إرشادية نصحية تربوية تهذيبية عرفية, لذلك نهى عن كتابتها, بينما لم يجد حرجا في أن تُنقل للناس, كما روي “عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنَّا قُعُودًا نَكْتُبُ مَا نَسْمَعُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ: مَا هَذَا تَكْتُبُونَ؟ فَقُلْنَا: مَا نَسْمَعُ مِنْكَ فَقَالَ: أَكِتَابٌ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقُلْنَا: مَا نَسْمَعُ فَقَالَ: اكْتُبُوا كِتَابَ اللَّهِ أَمْحِضُوا كِتَابَ اللَّهِ أَكِتَابٌ غَيْرُ كِتَابِ اللَّهِ أَمْحِضُوا كِتَابَ اللَّهِ أَوْ خَلِّصُوهُ. قَالَ: فَجَمَعْنَا مَا كَتَبْنَا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ أَحْرَقْنَاهُ بِالنَّارِ. قُلْنَا: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ أَنَتَحَدَّثُ عَنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ تَحَدَّثُوا عَنِّي وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ” اهـ
ولكن انقلب الحال الآن وأصبحت أحاديث الرسول شرعاً جديدا يُلزم به الناس! وأصبح من يقول أن التحليل والتحريم لله وحده في كتابه محارباً لسنة الرسول!
وأصبح من يقول أن استقلالها بالتشريع يعني أن تُقبل كلها ولا يوجد ما يُسمى بالحديث الضعيف , فتبعاً لفهمهم لآية “… وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ … [الحشر : 7]”,
يجب أن نأخذ كل أحاديث الرسول, وإلا أصبحنا من الرافضين له! وهو لم يقل: خذوا الأحاديث من فلان أو ردوها من علان لأنه ضعيف الحفظ أو كذاب! أو لأنه شيعي أو إباضي أو … الخ! فهذا منهج محدثين ابتدعوه وتراضوا به, بدون مستند نصي له ! مخالفين النص!
فلقد ورد فعلاً الأمر بعرض الأحاديث على القرآن في بعض الأحاديث … الضعيفة! وتبعاً لتأصيلات أهل الحديث فالحديث الضعيف مقدم على الرأي! إلا أنهم قدموا الرأي هنا على الحديث الضعيف! ونحن نقول أن الحديث ضعيف ولسنا بحاجة إليه, فدليلنا من القرآن
والذي قال: “… وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ .. [البقرة : 213]“, وعاب على أهل الكتاب إعراضهم عن الكتاب فقال: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ [آل عمران : 23]”, فها هم أهل الحديث ندعوهم لنحتكم إلى كتاب الله في صدق الحديث وكذبه والذي اختلفنا حوله, ولكنهم يأبون!!
ولا يعني قولنا هذا أننا نلغي “الإنسان” من معادلة الدين! فيجب ألا ننسى بحال أن الرسالة الخاتمة جاءت “تفاعلاً”, فلم يكن الدين بنوداً جامدة, وإنما هدي يتنزل تبعاً لحاجة الجماعة الأولى التي نزل بين ظهرانيها بما يناسب عامة البشر إلى قيام الساعة,
فالرسالة “تفاعل” من الله العليم الحكيم مع البشر عامة ومع المكلف بحمل الرسالة خاصة: النبي المصطفى والإنسان المجتبى محمد بن عبد الله! والذي تبعاً لتطبيقه الهدي المنزل له في سور سابقة كانت السور التالية تثبيا وإرشاداً وإعانة وتوجيها ولوماً وتصحيحاً,ويكفيه فخراً وعزاً ومكانة علية أن أكثر نداءات وخطابات وتوجيهات القرآن –والتي يتعبد الناس الله بتلاوتها إلى يوم الدين- كانت له!
وأنه أصبح النموذج والأسوة التي ينبغي الاقتداء بهديها إلى يوم القيامة, فيُقتدى بما أثنى عليه الله ويُتجنب ما ليم عليه النبي, ويؤخذ من سيرته ومسلكه الدروس والعبر والعظات! وهذه النداءات الفردية والخطابات الموجهة للنبي يشعر معها “المصلح” و “طالب الهدى” أنها موجهة لها, وأن عليه لكي يصل أن يسير على هذا الدرب.
إذاً فالله لم يشرك في دينه ملَكا ولا بشراً, فالدين كله من الله للناس وبالناس! إعلام بغيب (مطلق أو نسبي) وحكم من الله بكلام الله على بعض أفعال البشر أنها صواب أو خطأ (قصاً وتشريعاً), فالناس وأفعالهم هم النصيب الأكبر من محتوى الدين,
ولكن الحكم والصياغة من الله, وبشرية الصياغة يضيع الإطلاق في الدين ويدخل النسبية والنقص فيه!! إذاً فدور البشر كلهم -بدءً من الرسول وحتى آخر إنسان- هو الاستقبال والاهتداء وليس الإنشاء, والرسول الكريم في نهاية المطاف ما هو إلا إنسان استقبل الدين وطبقه خير تطبيق وأوّله أفضل تأويل .. فقام بالجزء العملي أمثل القيام وترك لنا إرثاً عظيما نافعاً.
وهذا الجانب العملي مما ينبغي الاستفادة به, ولا يعني أنه أضيف إليه ما ليس منه أن نلقيه بأكمله خلف ظهورنا كما فعل القرآنيون, وإنما نأخذ منه ونترك! والمنهج القويم في قبول تِركة “الإنسان” الرسول التأويلية التطبيقية لنعرف ما نأخذ وما نرفض هو عرضها “الأحاديث” على القرآن, لمعرفة صحتها من ضعفها, فما وافق أُخذ وما خالف رُد!
ولمن يرفض هذا المنهج نقول:
كيف نعرف الوحي من أقوال الرسول مما ليس وحيا؟!
نريد مرجعا نعتمد عليه في هذا بشكل قطعي يرفع الإشكال, فالقرآن لا خلاف بشأنه بينما السنة منها الوحي ومنها غير الوحي؟!
إذا قلت أن كل قول الرسول وحي, نقول:
أين هو وحي المرحلة المكية؟ لقد ضع ما يزيد عن ثلث الدين؟!
أم أنه كان تربية وتهذيبا وتزكية؟ -وهذا ما نقول به-
أم أن أقوال الرسول أصبحت شرعا بعد الهجرة إلى المدينة؟!
فأين الدليل على التحول في الحجية والمكانة؟!
قلنا سابقاً أن أقوال الرسول انتُزعت من سياقها وبُني عليها أحكام ما أنزل الله بها من سلطان, ونعرض هنا أنموذجا لهذا الاقتطاع وبناء الأحكام, بتلك الأحاديث التي تقول أن الرسول أوتي مثل القرآن, وأنه لا يُكتفى بالقرآن فقط في مسائل الحلال والحرام,
وأن هناك الكثير لم يُذكر في القرآن ولا بد من الرجوع إلى السنة لمعرفة حكم الله فيه . وبغض النظر عن أنه لا ينبغي لمسلم أن يصدق بحديث مثل هذا, إذ أنه حتى على افتراض أن السنة وحي بالمعنى واللفظ من الرسول,(مقولة “الوحي بالمعنى” من أساطير التراث الإسلامي! فالكلمات هي مادة التفكير وبدون وجود كلمات لا يمكن للإنسان أن يفكر ويقتصر الأمر على الغرائز! ومن المعلوم أن الصور, ساكنة كانت أو متحركة, لا تصلح للتشريع, لاحتمالها آلاف آلاف الإمكانيات!)
بغض النظر عن هذا فلا يمكن أن يكون كلام الرسول مثل كلام الله العليم الذي قال: “قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء : 88]”, فلا يمكن للبشر قاطبة أن يأتوا بمثل محتوى أو صياغة القرآن!
وبغض الطرف عن تعارضها مع الآيات القرآنية والأحاديث سابقة الذكر, التي أكدت أن الرسول كان له الطاعة في الدنيا, والمرجعية بعده لكتاب الله فقط, نقول:
هذه الأحاديث وردت بصيغ عديدة, وهذا يعني وجود سهو من الرواة, كما أنها لم تذكر في أعم الروايات السبب الذي قيلت فيه (ربما لحاجة في نفس بعض الرواة!), والذي لو عُرف لاختلف الحكم الذي يمكن استخراجه من الروايات! لذا
“نقارن بين الروايات لننظر ماذا تقول: يروي ابن بطة: “عن المقدام بن معدي كرب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أوتيت الكتاب وما يعدله يوشك شبعان على أريكته يقول: بيننا وبينكم هذا الكتاب فما كان فيه من حلال أحللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه، وإنه ليس كذلك» , فهذه الرواية عن المقدام تقول: “وما يعدله” وليس: “ومثله معه”,
كما يرويه ابن بطة بالرواية الأخرى كذلك, التي تحول فيها “وما يعدله” إلى “ومثله معه”: “عن المقدام بن معدي كرب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا أن يوشك شبعان على أريكته يقول: عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل الحمار الأهلي» وذكر الحديث .
والبيهقي يذكر ذلك التحوير صراحة, فيقول: “عن المقدام بن معد يكرب الكندي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أوتيت الكتاب وما يعدله – يعنى: ومثله- يوشك شبعان على أريكته يقول بيننا وبينكم هذا الكتاب فما كان فيه من حلال أحللناه وما كان من حرام حرمناه ألا وانه ليس كذلك ألا لا يحل ذو ناب من السباع ولا الحمار الأهلي ولا اللقطة من مال معاهد إلا أن يستغنى عنها و أيما رجل أضاف قوما فلم يقروه فان له أن يعقبهم بمثل قراه. “,
بينما يروي الترمذي: “عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ. وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ”
ويروي أحمد: “عن عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا أَعْرِفَنَّ مَا يَبْلُغُ أَحَدَكُمْ مِنْ حَدِيثِي شَيْءٌ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ مَا أَجِدُ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى “, فالإمام أحمد يروي الحديث بدون أي زيادة وإنما يتحدث عن استنكار الرسول على عدم امتثال بعض صحابته لأوامره ونواهيه!
(والملاحظ أن هذه الروايات كلها واردة عن المقدام, فمرة تقول: “وما يعدله” ومرة تقوله: “ومثله معه” ومرة لا تعرض لهذه المثلية بتاتا وإنما تقول أن ما حرم رسول كما حرم الله! (وهذه الجملة هي التي جعلت الرواة يقولون أن الرسول أوتي القرآن ومثله معه!),
كما أنها تتغير بين “أحدكم” وبين “رجل”! فلأن الحديث صدر أول ما صدر كان يخاطب الصحابة, ولأن الرواة رأوا أن كلمة “أحدكم” قد تجعل الحكم خاصا بالصحابة أو ليست دليلا لهم فيما يستدلون به, تحولت –عمدا أو لا شعوريا- إلى “رجل” ليصبح لها حكم العموم!)
وتوضح رواية البيهقي المناسبة التي قيل فيها هذا الحديث: “حدثني ابن جابر أنه سمع المقدام صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء يوم خيبر منها الحمار الأهلي, وقال: يوشك الرجل متكئ على أريكته يحدث بحديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال أحللناه ومن حرام حرمناه. ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حرم الله عز وجل. “
فمناسبة الحديث كانت غزوة خيبر! إلا أن الرواة غيروا في الهيئة التي قيل بها الحديث ! وتبين لنا رواية الطبراني جانباً آخر للجو التي قيلت فيه: “عَنِ الْعِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:”لا يَحِلُّ لَكُمْ مِنَ السِّبَاعِ كُلُّ ذِي نَابٍ، وَلا الْحُمُرُ الأَهْلِيَّةُ، وَلا تَدْخُلُوا بُيُوتَ الْكِتَابِيِّينَ، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلا مَا طَابُوا بِهِ نَفْسًا، وَلا تَضْرِبُوا، أَيَحْسَبُ امْرُؤٌ مِنْكُمْ قَدْ شَبِعَ حَتَّى يَظُنَّ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلا فِي الْقُرْآنِ، أَلا وَأَنِّي وَاللَّهِ قَدْ حَدَّثْتُ وَأَمَرْتُ وَوَعَظْتُ “.
فهنا نجد أن الرسول يقول أن الله قد حرم أشياءً في غير القرآن, ولم يعرض لأنه أوتي مثل القرآن بحال! فإذا نظرنا في سنن الدارمي, ألفيناه يقول: “عن الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ أَشْيَاءَ يَوْمَ خَيْبَرَ الْحِمَارَ وَغَيْرَهُ, ثُمَّ قَالَ: “لَيُوشِكُ ِالرَّجُلِ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ مَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ. أَلا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ هُوَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ. “, فالناظر في هذه الرواية يجد أن الرسول لم يتكلم عن تحريم الله أشياء خارج القرآن وإنما يتكلم عن أنه هو “حرم” أشياء, وأن هذه الأشياء مثل ما حرم الله (وسنعرف وجه المثلية بعد سطور)!
وبعد هذا التناول لأهم الروايات التي تتحدث عن وجود وحي مماثل للقرآن نصل إلى الرواية الحاسمة التي ستبين لنا أين ومتى ولماذا قيلت هذه الجملة, وكيف نفهمها في سياقها: “عن الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِيِّ قَالَ: نَزَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَمَعَهُ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ, وَكَانَ صَاحِبُ خَيْبَرَ رَجُلًا مَارِدًا مُنْكَرًا فَأَقْبَلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَلَكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا حُمُرَنَا وَتَأْكُلُوا ثَمَرَنَا وَتَضْرِبُوا نِسَاءَنَا؟ فَغَضِبَ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: يَا ابْنَ عَوْفٍ, ارْكَبْ فَرَسَكَ ثُمَّ نَادِ أَلا إِنَّ الْجَنَّةَ لا تَحِلُّ إِلا لِمُؤْمِنٍ وَأَنْ اجْتَمِعُوا لِلصَّلَاةِ قَالَ فَاجْتَمَعُوا ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: “أَيَحْسَبُ أَحَدُكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلا مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ أَلا وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ وَعَظْتُ وَأَمَرْتُ وَنَهَيْتُ عَنْ أَشْيَاءَ إِنَّهَا لَمِثْلُ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرُ, وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا بِإِذْنٍ وَلا ضَرْبَ نِسَائِهِمْ وَلا أَكْلَ ثِمَارِهِمْ إِذَا أَعْطَوْكُمْ الَّذِي عَلَيْهِمْ “
وكما رأينا فلقد قال الرسول “أحدكم”, أي أن الرسول الكريم كان يخاطب الصحابة, وبإضافة تعبير “متكئا على أريكته”, أو “شبعان”, -الوارد في روايات أخرى-, يظهر أن النبي الكريم يتحدث عن واقعة حصلت في غزوة خيبر, وكان المعترضون على أمر النبي الكريم المخالفون له من الأغنياء, لذلك عبر ب: المتكئ على الأريكة أو الشبعان!
ولقد صدر عن الرسول الكريم بعض التعليمات والأوامر للصحابة, فحرم عليهم أشياء في يوم خيبر, لظروف الغزوة, تحريما مؤقتا, إلا أن بعض الصحابة لم يستجيبوا لهذا الأمر, بل وصدرت بعض التجاوزات من بعضهم عندما فتحوا خيبر, فذبحوا حمر اليهود ودخلوا بيوتهم وضربوا نسائهم وأكلوا من ثمارهم, فأتى حاكم خيبر يشكو ذلك إلى النبي الكريم, فاغتاظ النبي الكريم من موقف هؤلاء الصحابة من أوامره ومن تجاوزاتهم.
ويبدو من موقف هؤلاء أنهم فهموا أن الطاعة للرسول الكريم بما ذُكر صراحة في القرآن, وما عدا ذلك فليست طاعته واجبة! فأمر الرسول الكريم بجمعهم ليعلمهم أن له السمع والطاعة في القرآن وفي غيره, لأنه أعلمهم بكتاب الله وكيفية إسقاطه على أرض الواقع (تأويله)! ونلاحظ أن الرسول في هذه الرواية وفي رواية الطبراني في المعجم الكبير لم يقل: “حرمت”, لأنه يعلم حدوده كرسول, وإنما قال: “وعظت وأمرت ونهيت”, وهي الألفاظ التي يُقبل صدورها من الرسول.
إذن فالحديث لم يختلف عما رواه أحمد –وذكرناه سابقاً- من أن الرسول الكريم في حياته كان السمع والطاعة له في كل كبيرة وصغيرة, لأنه يأتيه القرآن والوحي الموجِّه في المواقف المختلفة, والذي ليس بمطلق لعموم الأمة وإنما لهذه المواقف تحديدا, كما أتاه الوحي بالخروج إلى بدر, وبأن يقول لمن معه آمرا: كفوا أيديكم, وكما وعد المسلمين بالنصر في أُحد إذا هم أطاعوا, وكل هذا الوحي كان من أجل نصرة النبي الكريم والرسالة, وباقي الأجيال غير مخاطبة به بداهة, ولكن كان الصحابة ملزمين بذلك!” اهـ
وهكذا جعلوا هذا الحديث مرجعاً يردون إليه باقي الأحاديث الكثيرة التي صرح فيها الرسول –وصحبه- بدوره, بدلاً من أن يُرد الواحد إلى الأكثر ويُفهم من خلاله!
المحرمات من المطعومات
للتدليل على قولنا بأن السنة لا تزيد إيجابا أو تحريما على ما في القرآن, نعرض هنا نموذجا يبين أن الحكم المستنبط من ضم آية قرآنية مع أحاديث نبوية لن يخرج بزائد وجوباً أو حرمةً عما في الآية, مع احتمالات وجود زيادة تهذيبية إيجاباً وتركاً, وهو ما قام به الرسول ويقوم به المسلمون في كل عصورهم! وهذا النموذج هو: المحرم من المطعومات, فماذا يحرم على المسلم أكله؟!
الناظر في القرآن الكريم يجد أن المحرمات معدودة ومذكورة بصيغة الحصر, وهي الواردة في قوله تعالى: “إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة : 173]”,
وتؤكد آية المائدة المذكور هنا بزيادة تفصيل في بعض الأنواع, حتى لا يكون لبس أو شك, فتقول: “حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة : 3]”,
ثم تنفي آية الأنعام إمكانية وجود أي محرم غير المذكور: “قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام : 145]”
ومن هذه الآيات, التي وردت بعدة صيغ تفيد الحصر, مثل: “إنما”, والنفي والاستثناء مثل “لا أجد فيما أوحي إلى …. إلا”, يُخرج بحكم واحد لا خلاف فيه ولا لبس, هو أن المحرم من الطعام هو أربعة أصناف فقط هي: الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله.
فإذا نظر المسلم في كتب الفقه حول هذا الأمر فسيجد الصفحات الطوال, تتحدث عن حرمة كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وخلاف حول حكم الحمر الأهلية, وحول الضفدعة والأرنب وأصناف أخرى! ويقارن المرء بين قول الله والذي لا يزيد عن سطر واحد وبين الصفحات الطوال في كتب الفقه, ليعرف سهولة دين الله وكيف عقّده الفقهاء عبر العصور!
والتفريعات الفقهية الكثيرة راجعة إلى فهم الفقهاء أحاديث للرسول منزوعة من سياقها التاريخي كزيادة عن القرآن, بدلاً من القول بأنها حكم مخصوص لحالة مخصوصة, كما تصرح هي نفسها بذلك, ومن ذلك ما روي “عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَكل ذي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ ” اهـ,
وهذا النهي لم يكن عاماً ولا معدوم العلة, وإنما كان في موقف مخصوص كما جاء عن: “..
وكما رأينا فلم يزد الأمر عن الأمر بكفئ القدور وعدم الطعم من لحوم الحمر! ورغماً عن كون الرسول لم يقل: حُرمت, ولم يشر إلى كون النهي أبدي بقوله مثلاً: لا يأكل المسلم لحوم الحمر! وإنما وجه الخطاب إلى الجيش فقط, رغماً عن هذا حصل خلاف لاحق بين الصحابة والتابعين حول كون النهي معللاً (لأنها لم تُخمس أو لكونها حمولة الرجال) أو نهي مطلق!
ولا أميل لهذين التعليلين, فلم يكن الرسول ليهدر هذا الكم من النعمة لمخالفة وقعت, وإنما لسبب آخر رُوي: “عَنْ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ يَوْمَ خَيْبَرَ فَإِنَّ الْقُدُورَ لَتَغْلِي قَالَ وَبَعْضُهَا نَضِجَتْ فَجَاءَ مُنَادِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا وَأَهْرِقُوهَا. قَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى فَتَحَدَّثْنَا أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا لِأَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَهَى عَنْهَا الْبَتَّةَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ ” اهـ
وأنا أميل لهذا التعليل, وأن هذه الحمير كانت تأكل العذرة ومن ثم لم يكن لحمها صحيا, فنهى الرسول عن أكله, وهذا ما ينطبق على أي حيوان, فلو كان لحمه ضاراً لا يؤكل, وإن كان نقياً يؤكل!
ومن ثم فليست الحمير محرمة لذاتها, وإنما كان لعلة, ناهيك عن ورود النهي مرتبطاً بالثوم في رواية أخرى عند البخاري كذلك, فهل الثوم حرام؟!
ولقد رد الإمام الفخر الرزاي في تفسيره تمحكات الفقهاء لإعمال هذه الأحاديث وجعلها قائلة بحرمة أكل أصناف زائدة عما في كتاب الله, والذي ذكر هذا الحكم بصيغة الخبر وهو مما لا يُنسخ! ناهيك عن كون آية المائدة من آخر ما نزل من القرآن, ومن ثم فهي حاكمة على الأحاديث ويجب فهمها تبعاً للآية, وليس العكس.
ولا يقتصر الأمر على الإمام الرازي, فمن الأحناف والمالكية من لا يقول بتحريم هذه الأصناف وإنما يقولون بالكراهة, ولقد عرض الشيخ رشيد رضا في تفسيره: المنار, لحكم المحرمات من المطعومات فقدم دليلاً قرآنياً إضافياً, فقال: “إذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) يفيد تخصيص هذه الحرمة بهم من وجهين: (الأول) أن قوله: وعلى الذين هادوا حرمنا كذا وكذا يفيد الحصر في اللغة (والثاني) أنه لو كانت هذه الحرمة ثابتة في حق الكل لم يبق لقوله: (وعلى الذين هادوا حرمنا) فائدة – فثبت أن تحريم السباع وذي المخلب من الطير مختص باليهود فوجب ألا تكون محرمة على المسلمين. وعند هذا نقول: ما روي أنه صلى الله عليه وسلم حرم كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطيور، ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى،
فوجب ألا يكون مقبولا وعلى هذا التقدير يقوى قول مالك في هذه المسألة. وأقول: “إن تضعيفه الحديث مع صحة روايته في الصحيحين وغيرهما إنما هو من جهة المتن، وقد قالوا: إن من علامة وضع الحديث مخالفته للقرآن وكل ما هو قطعي، وهذا إنما يصار إليه إذا تعذر الجمع بين الحديث الظني والقرآن القطعي، وقد جمعنا بينهما بحمل النهي على الكراهة في حال الاختيار، وهو مذهب مالك كما تقدم تفصيله ” اهـ
إذا وكما رأينا, فالمحرمات من المطعومات هي ما ذكر الله في كتابه, وما زاد في الروايات جاء في حوادث مخصوصة لعلة مخصوصة, وعُممت بلا دليل!
بعد هذا كله نطلب إلى القارئ أن يسأل نفسه:
هل لا يزال مقتنعا أن أقوال الرسول الزائدة عن القرآن تشريع لعامة المسلمين؟!