تعبير “لا جناح عليكم / ليس عليكم جناح”!

حديثنا اليوم بإذن الله وعونه هو عن تعبير “لا جناح على/ ليس عليك جناح”, لننظر هل أصاب السابقون في تحديد معناه:

الناظر في كتابات المفسرين والفقهاء يجد أنهم يفهمون هذا التعبير بمعنى: أنه لا إثم على فاعل الشيء!

وحتى نبين للقارئ الكريم الأصل اللغوي للكلمة وكيف استُعملت بهذا المعنى نعرض ما ذكره الإمام الفخر الرازي في تفسيره: مفاتيح الغيب, عند تناوله لأول آية ذُكر فيها هذا التعبير, وهي قول الله العليم الحكيم:
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة : 158]
فنجد الإمام الرازي يقول:
“وأما الجناح فهو من قولهم : جنح إلى كذا أي مال إليه ، قال الله تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا } [ الأنفال : 61 ] وجنحت السفينة إذا لزمت الماء فلم تمض ، وجنح الرجل في الشيء يعلمه بيده إذا مال إليه بصدره وقيل للأضلاع : جوانح لاعوجاجها ، وجناح الطائر من هذا ، لأنه يميل في أحد شقيه ولا يطير على مستوى خلقته فثبت أن أصله من الميل ، ثم من الناس من قال إنه بقي في عرف القرآن كذلك أيضاً فمعنى : لا جناح عليه أينما ذكر في القرآن : لا ميل لأحد عليه بمطالبة شيء من الأشياء ، ومنهم من قال : بل هو مختص بالميل إلى الباطل وإلى ما يأثم به .
وقوله : { أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } أي يتطوف فأدغمت التاء في الطاء كما قال : { ياأيها المدثر } [ المدثر : 1 ] ، { ياأيها المزمل } [ المزمل : 1 ] أي المتدثر والمتزمل ، ويقال : طاف وأطاف بمعنى واحد .

المسألة السادسة : ظاهر قوله تعالى : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ } أنه لا إثم عليه ، والذي يصدق عليه أنه لا إثم في فعله يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح ، ثم يمتاز كل واحد من هذه الثلاثة عن الآخر بقيد زائد ،
فإذن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن السعي بين الصفا والمروة واجب ، أو ليس بواجب ، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الأقسام لا دلالة فيه البتة على خصوصية من الرجوع إلى دليل آخر ،

إذا عرفت هذا فنقول : مذهب الشافعي رحمه الله أن هذا السعي ركن ، ولا يقوم الدم مقامه ، وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه ليس بركن ، ويقوم الدم مقامه ، وروي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء ، أن من تركه فلا شيء عليه (……..)” اهـ

فهل هذا الفهم سليم؟
الناظر في القرآن يجد أنه تحدث عن الجناح ورفعه, وعن الجنف والإثم فقال:
فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة : 182]
(لاحظ اشتراك الجنف والجنح في حرفين واختلافهما في واحد, مما يعني تقارب معناهما, والناظر في كتابات اللغويين يجد أنهم قالوا أن الجنف كذلك بمعنى الميل, ولم يفرقوا بينهما!)

ومن ثم فإن الجنف غير الجنح غير الإثم, ومن ثم فما هو الجنح؟ وهل معنى رفع الجناح رفع الحرج؟ إن الناظر في القرآن يجد أنه استعمل تعبير رفع الحرج في آيات أخرى, منها آية جاء فيها التعبيران, تعبير رفع الحرج ورفع الجناح وهي قول الرب العليم:
” لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون [النور : 61]”

وتعبير رفع الحرج هو الأقرب إلى أنه ليس ثمة إثم (أو: مشكلة, بالتعبير العامي) في الفعل أو الترك, وبما أن الله غاير بينهما, فإن رفع الحرج هو حتما غير رفع الجناح, فما هو رفع الجناح؟

الناظر في الآيات القرآنية التي استعملت هذا التعبير يجد أنها لم تكن تتحدث عن الإباحة بالدرجة الأولى وإنما تُبطل أن يكون هناك عقوبة/غرامة مالية بشأن هذا الفعل, وننظر في بعض الآيات التي ورد فيها هذا التعبير, مثل قوله جل وعلا وعظم:
لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة : 236]
فهل الله يقول للمسلم أنه لا يأثم إن طلق المرأة –على أي حال من الأحوال, فما بالنا إذا كان الحديث هنا عن امرأة لم يمسها ولم يفرض لها شيئا- فهل هذا يحتاج إلى توضيح فهل هناك إثم في فعل المباح؟!

فإذا قلنا أنه لا يمكن فهمها على هذا الشكل, نقول: ولا يمكننا كذلك أن نفهم الآية بالفهم العامي “مفيش مشكلة” إذا طلقتم النساء, فالله لن يقول لعباده: عادي يعني إذا طلقتم النساء, فالطلاق هو فسخ لعلاقة متوقعة.

ومن ثم فإن الأولى أن يقال أن المقصود أنه لا عقوبة/غرامة مالية, فلا يجب عليكم أن تتصدقوا مثلا ولا أن تعطوها تعويضا مقابل هذا الطلاق وليس عليكم نفقة لها وإنما لها متعة على حسب استطاعة المطلق.

وكذلك يمكننا فهم باقي الآيات بهذا الشكل, مثل الآية السابقة التي تتحدث عن الصفا والمروة, فلم يكن المقصود أنه لا إثم في الفعل, وأنه مفيش مشكلة إنكم تتطوفوا بهما, وإنما يقول أنهما من شعائر الله وأنه لا عقاب على من يطوف بهما, ومن ثم فإن الآية ليست لإثبات حكم إباحة وإنما هي للرد على من قالوا أنهما ليسوا من مناسك الحج, وإنما أُلحق فيما بعد, وأن من يطوف بهما فعليه فدية, أو أن الله سيعاقبه على فعله هذا,
فأتت الآية لتقول أنهما من شعائر الله وأنه ليس ثمة عقوبة على التطوف بهما, ومن ثم فإن الآية لا تتحدث عن الإباحة وإنما عن إثبات التطوف بهما بلا غرم.

وتبعا لهذه الآية يمكننا استنتاج أن تعبير “لا جناح” أتى في الرد على أحكام أو أعراف لعقوبات كانت موجودة بين العرب (أو أهل الكتاب) فنزل الحكم القرآني ليبين أنه لا عقوبة على فعلها. (وأنها أصلا لم يكن مما حُرم على السابقين وأحل لنا), فافعلوا ولا تتحرجوا فليس ثمة عقاب,

وبهذا يمكننا فهم باقي الآيات مثل قول الرب العليم: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ [البقرة : 198]
فلا يعني أنك تاجرت مثلا في مكة عند الكعبة أنه عليك أن تدفع مقابل هذا أو أن فيه إثم عليه عقوبة, فليس ثمة شيء من هذا.

وكذلك يمكننا فهم قوله تعالى:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة : 234]
فنلاحظ هنا أن الله قال: “فلا جناح عليكم فيما فعلن”, فأين في شرع الله أن الإنسان يعاقب أو يأثم بفعل غيره حتى يقول لهم لا إثم عليكم؟! بينما إذا قلنا أنه كان هناك أحكام عربية/كتابية تقول أن الرجال يغرمون إذا فعلت المرأة كذا وكذا, فنعرف لماذا خاطب الله الرجال في شيء تفعله النساء ليبين لهم أنه لا عقاب عليهم.

وتبعاً لهذا الفهم لرفع الحرج يمكننا القول أنه يجوز قصر الصلاة من غير خوف من الكافرين في حالة السفر –كما جاء في السنة- ونرد قول القرآنيين الذين لا يقولون بالقصر إلا في حالة الحرب أو الخوف من الكافرين,
فهم فهموا أن:
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً [النساء : 101]
بينما الآية تقول للمؤمنين –الذين كانوا يتحرجون من فعل هذا- أنه ليس هناك عقاب/ غرامة لمن يقصر من الصلاة عند خوف الفتنة. وكما بيّنا سابقاً فإن تعبير رفع الحرج هو لإبطال حكم موجود لا أنه يتعدى إلى العكس.

وأقصى ما في الآية أنه على من يقصر في غير الخوف غرامة أو عقوبة, إلا أن الصلاة لا تبطل, ونحن لا نقول بهذا وإنما نقول أن الآية عرضت لحالة موجودة ردا على حكم موجود فليس ثمة مبرر للتعميم وإلا سيقال بعدم الدقة في كتاب الله.

وندعو القارئ الكريم لقراءة باقي الآيات تبعاً لهذا الفهم لرفع الجناح لينظر بنفسه أيهما أدق, قولنا أم قاله السابقون!
غفر الله لنا ولهم وللمسلمين أجمعين وتقبل منا ومنكم صالح العمل.
والسلام عليكم ورحمة الله.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.