حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن غاية من أهم الغايات البشرية, والتي يجب تحقيقها بأكبر شكل ممكن بينهم, حتى تستطيع البشرية الغرض من وجودها بأكبر شكلٍ ممكن!
حديثنا اليوم عن أهمية ارتباط البشر ببعضهم بعضا, وكيف أن زيادة أواصر هذا الارتباط سيساعد على زيادة التقدم العلمي والإنتاجي والمعيشي للبشر كلهم, كما أنه سيؤدي لا محالة إلى القضاء على كثير من الأسباب التي تؤدي إلى نشوب الحروب بين الشعوب, مما سيؤدي إلى هيمنة جو من السلام العالمي بين شعوب الأرض.
وهذه الغاية وتلك الأهمية معروضة في بضع آيات من آي الذكر الحكيم, ركزت على هذا المعنى أيما تركيز, والحق يقال أني كنت أفهم الآية المحور, التي سيدور حديثنا حولها في هذا المقال فهما معكوسا, -ربما بسبب فهمي المغلوط لآية أخرى, سنذكرها كذلك-وكنت أتعجب من أن الله تعالى يقول أنه فرّقنا لنتعارف! ثم أدركت بعدها أن فهمي للآية فهم غير صحيح!
والآية محور حديثنا هي قوله تعالى:
“يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات : 13]”
وقبل أن نتكلم حول الآية نذكر ما قاله الإمام الفخر الرازي عند تناوله إياها في تفسيره, حيث قال:
“وفيه وجهان: أحدهما: {جعلناكم شُعُوباً} متفرقة لا يدري من يجمعكم كالعجم، وقبائل يجمعكم واحد معلوم كالعرب وبني إسرائيل,
وثانيهما: {جعلناكم شُعُوباً} داخلين في قبائل، فإن القبيلة تحتها الشعوب، وتحت الشعوب البطون وتحت البطون الأفخاذ، وتحت الأفخاذ الفصائل، وتحت الفصائل الأقارب، وذكر الأعم لأنه أذهب للافتخار، لأن لأمر الأعم منها يدخله فقراء وأغنياء كثيرة غير محصورة، وضعفاء وأقوياء كثيرة غير معدودة. ثم بيّن فائدة ذلك
وهي التعارف وفيه وجهان:
أحدهما: أن فائدة ذلك التناصر لا التفاخر, وثانيهما: أن فائدته التعارف لا التناكر، واللمز والسخرية والغيبة تفضي إلى التناكر لا إلى التعارف. وفيه معان لطيفة الأولى: قال تعالى: {إِنَّا خلقناكم} وقال: {وجعلناكم} لأن الخلق أصلٌ تفرع عليه الجعل {شُعُوباً} فإن الأول هو الخلق والإيجاد، ثم الاتصاف بما اتصفوا به، لكن الجعل شعوباً للتعارف والخلق للعبادة” اهـ
وقبل أن نبدأ حديثنا حول الآية نقول:
نحن نخالف القول الثاني الذي ذكره الإما الفخر, والذي جعل الشعوب تحت القبائل, ونتفق مع جاء في لسان العرب, والذي قال فيه:
“ابن الكلبي: الشَّعْب أَكبر من القبيلة ثم القَبِيلة ثم العِمارة ثم البَطْن ثم الفَخِذ” اهـ
ونبدأ كعادتنا بتمهيدٍ لغوي, حتى يتكون لدى القارئ تصور جيد حول الكلمتين المحوريتين في الآية, وهما: شعوب وقبائل, ويمكن للقارئ الكريم تجاوز هذا المبحث إن أحب!
إذا نظرنا في مقاييس اللغة لابن فارس ألفيناه يقول:
“الشين والعين والباء أصلان مختلفان، أحدهما يدلُّ على الافتراق، والآخر على الاجتماع. ثمَّ اختلف أهلُ اللغة في ذلك، فقال قومٌ: هو من باب الأضداد. وقد نصَّ الخليلُ على ذلك. وقال آخرون: ليس ذلك من الأضداد، إنّما هي لغات. قال الخليل: من عجائب الكلام ووُسْع العربيَّة، أنَّ الشَّعْب يكون تفرُّقاً، ويكون اجتماعاً. وقال ابن دريد: الشَّعب: الافتراق، والشَّعْب: الاجتماع.
وليس ذلك من الأضداد، وإنّما هي لغةٌ لقوم. فالذي ذكرناه من الافتراق.
وقولهم للصَّدْعِ في الشيء شَعْب.
ومنه الشَّعْب: ما تشعّبَ من قبائل العرب والعجم، والجمع شعوب.
قال جل ثناؤه: وَجَعلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ [الحجرات 13].
ويقال الشَّعب: الحَيُّ العظيم. قالوا: ومَشعب الحقّ: طريقُه. قال الكميت:
فما لِيَ إلاَّ آلَ أحمدَ شيعةٌ وما لي إلاّ مَشعَب الحقِّ مَشْعَبُويقال: انشعبت بهم الطُّرق، إذا تفرَّقَتْ، وانشعبت أغصانُ الشجرة. فأمَّا شُعَب الفَرَس، فيقال إنَّه أقطارُهُ التي تعلُو منه، كالعنق والمَنْسِج، وما أشرف منه. قال:ويقال ظبيٌ أشعبُ، إذا تفرَّق قرناه فتبايَنَا ببينونةً شديدة. قال أبو دُؤاد:
وقُصْرَى شَنجِ الأنسا ءِ نَبّاحٍ من الشُّعْبِ
والشِّعب: ما انفرَجَ بين الجبلَين. وشَعوبُ: المنِيّة؛ لأنَّها تَشعَب،أي تفرِّق. ويقال شَعبتْهم المنيّة فانشعبوا،أي فرّقتْهم فافترقوا.والشَّعِيب: السِّقاء البالي، وإنَّما سمِّي شَعِيباً لأنَّهُ يَشْعَب الماء الذي فيه، أي لا يحفظُهُ بل يُسيله. قال:قال ابن دريد: “وسمِّي شعبانُ لتشعُّبِهم فيه، وهو تفرُّقُهم في طلب المياه“.وفي الحديث: “ما هذه الفُتْيا التي شعَّبت الناس؟”. أي فرّقتهم. وأما الباب الآخر فقولهم شَعَبَ الصَّدْعَ، إذا لاءمَه. وشَعَبَ العُسَّ وما أشبهه.ويقال للمِثْقَب المِشْعَب. وقد يجوز أن يكون الشَّعْب الذي في باب القبائل سمِّي للاجتماع والائتلاف.” اهـ
والذي نراه نحن والله أعلم أن الشعب أصل يدل على تفرق يندرج تحت –يرجع إلى- تجمع, فأفراد الشيء متفرقة ولكن يجمعها رابط ما, فهي متفرقة ومجتمعة في آن الوقت, ونوضح للقارئ بمثال:
هناك طريق واحد كبير, وبعد مسافة تشعب الطريق إلى شعب, فالطرق تتشعب ولكنها تندرج تحت طريق أول كبير, والبشر يتفرقون ولكن يجمعهم رباط به يصيرون شعبا واحدا!
وإذا نظرنا في المقاييس بشأن الكلمة الأخرى وجدنا ابن فارس يقول:
“القاف والباء واللام أصلٌ واحدٌ صحيحٌ تدلُّ كلمهُ كلُّها على مواجهةِ الشَّيء للشَّيء، ويتفرع بعد ذلك. فالقُبُل من كلِّ شيء: خلافُ دُبُره، وذلك أنَّ مُقْدِمَه يُقْبِلُ على الشَّيء. والقَبيل: ما أقبَلَتْ به المرأةُ من غَزْلها حين تَفتِله. والدَّبير: ما أدبرَتْ به. وذلك معنَى قولهم: “ما يَعْرِف قبيلاً من دَبِير. سُمِّيت قِبلةً لإقبال النَّاس عليها في صَلاتِهِم، وهي مُقْبِلةٌ عليهم أيضاً.ويقال: فَعَل ذلك قِبَلاً، أي مُواجَهَة.
وهذا من قِبَل فلانٍ، أي من عنده، كأنَّه هو الذي أقْبَلَ به عليك. والقِبَال: زمام البَعيرِ والنَّعل. وقابَلْتُها: جَعَلْتُ لها قِبالَينِ، لأنَّ كُلَّ واحدٍ منهما يُقْبِلُ على الآخَر.
وشاةٌ مُقابَلة: قُطِعَت من أذنها قِطعةٌ لم تَبِنْ وتُرِكَتْ مُعلَّقة من قُدُم. [فإن كانت] من أُخُرٍ فهي مُدابَرة.
والقابلة: الليلة المقْبلة. والعامُ القابل: المُقْبل. ولا يقال منه فَعَلَ. والقابلة: التي تَقْبَلُ الولدُ عند الوِلادِ. والقَبُول من الرِّياح: الصَّبا، لأنَّها تُقابِل الدَّبور أو البيتَ.
وقَبِلْتُ الشَّيءَ قَبولاً.والقَبَل في العين: إقبال السَّوادِ على المَحْجِر، ويقال بل هو إقبالهُ على الأنف.
والقَبَل النَّشَْزُ من الأرض يستقبِلُك. تقول: رأيتُ بذلك القَبَل شخصاً.
والقبيل: الكفيل؛ يقال قَبِل به قَبالةً، وذلك أنَّهُ يُقْبِل على الشَّيء يَضْمنُه.
وافعَلْ ذلك إلى عشرٍ من ذي قَبَل، أي فيما يُستَأنف من الزَّمان.
ويقال: أقبَلْنا على الإبل، إذا استقينا على رؤوسها وهي تشرب. [و] ذلك هو القَبَل.وفلانٌ مُقْتَبَل الشَّباب: لم يَبِنْ فيه أثر كِبَرٍ ولم يُولِّ شبابُه.
وقال: ليس بِعَلٍّ كبيرٍ لا شبابَ به لكن أُثَيْلةُ صافي اللَّونِ مُقْتَبَلُ
(…..) وقبائل الرَّأس: شُعَبُه التي تَصل بينها الشُّؤون؛ وسمِّيت ذلك لإقبال كلِّ واحدةٍ منها على الأخرى؛ وبذلك سمِّيت قبائلُ العرب. وقَبِيل القوم: عَرِيفُهم. وسمِّي بذلك لأنَّه يُقبِل عليهم يتعرَّف أمورَهم. قال:
أوَ كُلَّمَا وَرَدَتْ عُكاظَ قبيلة بَعثوا إليَّ قبيلَهم يتوسَّمُ
ونحن في قَبَالة فلانٍ، أي عِرافته، وما لفلانٍ قِبلةٌ، أي جهةٌ يتوجَّه إليها ويُقبِل عليها. ويقولون: القَبِيل: جماعةٌ من قبائلَ شتَّى، والقبيلة: بنو أبٍ واحد.” اهـ
وبداهة فإن ال “قبائل” لا تنحصر في المجتمع العربي فقط, وإنما توجد في مناطق أخرى كثيرة في العالم.
وقد يلقي لفظ “قبيلة أو قبائل” بعض ظلال سلبية عند بعض القراء ويعدها مرحلة متأخرة في سلم التقدم البشري الاجتماعي, ولكن ينبغي أن يكون الأمر كذلك مع الشعوب! ولكنها الألفة وسيرى القارئ كيف ذلك في الموضوع.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات : 13]
ونبدأ فنقول:
يخاطب الله تعالى الناس حاثاً إياهم على التعارف, مذكرا إياهم بالتنوع الذي أوجده فيهم, فهم مخلوقون من ذكر وأنثى, وليسوا جنسا واحدا, ولم يقتصر الأمر على خلقهم أفراد كجنسين, وإنما انضم هذان الجنسان تحت أربطة عدة, حتى صاروا شعوبا وقبائل!
(والإنسان منذ نشأته كجنس أو كفرد وهو يسعى للاتصال بغيره والارتباط به, لأن الفرد يعلم أنه ضعيف بنفسه قوي بغيره, ولقد وُجدت بعض الروابط, مثل رباط الأسرة, والذي يجمع المنتسبين إلى أب واحد وأم واحدة, ثم تشعب الأمر فصار من ينتسبون إلى جد قديم …
وبمرور الزمن ازدادت الروابط التي تربط الأفراد ببعضها, فنشأت روابط بين من يسكنون المنطقة الواحدة من الأرض, لمصالح مشتركة كثيرة. وهكذا عمل الإنسان على زيادة هذه الروابط وتوسيعها, لما فيها من إكسابه قوة.
ولأن الإنسان يحب التمايز في نفس الوقت, ولأنه عدو ما يجهل, عمل على إيجاد فواصل بينه وبين غيره من الشعوب والأفراد, الذين لا يشتركون معه في روابطه مع الآخرين, فعمل على إضفاء صفات القوة والخيرية لمجتمعه, وإضفاء صفات سلبية على المجتمعات الأخرى, كما عمل على استغلالهم وإيذائهم.)
لذا لا يعني كون الإنسان من عائلة ما في قبيلة ما أو شعبٍ ما أن يكتفي بهذا الرباط, وإنما على البشر جميعا أن يعملوا على زيادة هذا الارتباط والاتصال لتتحقق الغاية النهائية وهي الأمة الإنسانية الواحدة!
فإذا كان الله قد أعمل سننا لنصير شعوبا وقبائل, فإنه يهدينا إلى الطريق الأمثل, والذي نصير به أمة واحدة وهو التعارف!
فإذا عملنا على زيادة تعارفنا ببعضنا ألغينا الكثير والكثير من التصورات الخاطئة عن بعضنا بعضا, كما سيساعدنا هذا التعارف على أن يعرف كل شعب ما لدى الآخر بطريقة صحيحة, وبذلك يستطيع الشعب أن يتقبل ما لدى الآخر أو يرفضه!
كما سيوجد هذا التعارف جوا من الإخاء, يجعل من العسير على شعبٍ أن يعتدي على الآخر!
والناظر في حال البشر يجد أن من أكبر أسباب سهولة الاعتداء على الطرف الآخر هو الجهل به وعدم التواصل معه, فالأوروبي يرمي القنابل والصواريخ على العربي والمسلم بسهولة لأنه يرى أن العربي أو المسلم إرهابي أو إنسان متخلف, أو إنسان رافض للحضارة, لذا قد يؤنبه ضميره بعد ذلك, ولكن ليس بنفس القدر الذي سيؤنبه إذا ألقاها على أوروبي مثله أو بعض أفراد شعبه!
واليهودي الذي يقتل الفلسطينيين فإنه يشعر أنه أعلى منهم, فهو من شعب الله المختار, وهؤلاء أدنى منه درجات, كما أنه يرى أنهم أعداء, عليه القضاء عليهم قبل أن يقضوا عليه, لذا لا يتحرج من الفتك بهم!
وليس الأمر مقتصرا على الغربيين فكذلك نجد أنه من السهل على العربي المسلم أن يقتل الأوربيين المسالمين, لأنهم في نظره مجموعة من الزناة (1) الفسقة المنحلين , الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون! ولأنهم فعلوا به وبأجداده الكثير والكثير, لذا فلا حرج في قتلهم, حتى تطهر الأرض منهم!
بينما من العسير جدا أن يقاتل العربي العربي والمسلم المسلم لوجود روابط كثيرة بينهم, مثل رابط اللغة والعرق والدين, تجعل الواحد فيهم يشعر أنه يقاتل أخاه فعلا!
وقس الأمر على نفسك, فمن السهل أن تؤذي من لا تعرفه وليس بقريبك ولا صديقك, بينما من العسير أن تفعل الأمر مع من بينك وبين عشرة, بغض النظر عن جنسه أو لونه أو لسانه أو دينه, لأن العشرة النابعة من التعارف تمنعك من ذلك, وما الشعب إلا إنسان كبير!
لذا إذا حدث تعارف حقيقي سينشأ عنه إخاء وتقارب بين البشر, يعمل على ارتقاء الجنس الإنساني كله, ليتخطى الاكتفاء برابطة القبيلة أو الشعب, ليصل إلى مرحلة الأخوة الإنسانية الكاملة.
ولقد كنت أفهم هذه الآية فهما عجيبا في الماضي, فكنت أظن أن الله هو من فرق الأمة الواحدة التي كان عليها الناس في أول خلقهم, إلى شعوب وقبائل, ثم طلب إليهم أن يتعارفوا, انطلاقا من فهمي لقوله تعالى:
وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ……. [هود : 118-119]
فكنت أفهم أن الاختلاف من أسباب خلق الإنسان, وهو أن يختلفوا! بينما المعنى على العكس تماما!
(وكان هذا الفهم المعكوس راجع إلى فهم آية أخرى, وهي قوله تعالى:
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [البقرة : 213]فكنت أفهم أن النبيين كانوا سبب الاختلاف, وأن الناس كانوا أمة واحدة على الكفر –وهو رأي من ثلاثة في فهم الآية-, ثم تبين لي أن الناس كانوا أمة واحدة على الإيمان, وأن الأنبياء ما جاءوا إلا بعد حدوث الاختلاف, فلقد جاءوا لرفعه, والتدليل على هذا القول له توجيهات كثيرة أهمها قوله تعالى في نفس الآية: ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه, فالناس اختلفوا فبعث الله النبيين وأنزل الكتب ليُرفع الاختلاف, لا أن النبيين هم أصل الاختلاف!
كما يؤيد هذا قوله تعالى:
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس : 19])
ثم فهمت بعد ذلك أن الله يعرف الناس أنه جمّعهم ونوّعهم إلى شعوب وقبائل, كما نوعهم إلى ذكر وأنثى, وطلب إليهم التعارف ليزداد الترابط, وآية هود تأكيدٌ لهذا المعنى, فالله تعالى يقول أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة, ولكنه لم يشأ, والاختلاف بين الناس سيظل موجودا, إلا من رحم الله فسيتحدون ويترابطون ويتآخون, ولذلك خلقهم! أي أن الله تعالى خلق الناس ليتفقوا لا ليختلفوا!
إن كل أب حريص كل الحرص على أن تكون هناك علاقات حميمة وتواصل قوي بين أبناءه, لأنهم في نهاية المطاف أخوة من أصل واحد, كما أن هذا يزيدهم قوة, كما أن هذا هو السلوك المفترض الطبيعي بين الأخوة, أن يكونوا متعارفين متحابين متعاضدين!
والناس عيال الله في الأرض, وهو ربنا وأبونا -الذي في السماء, كما قال سيدنا عيسى عليه السلام!- فمن المنطقي أن يأمرنا بالتواصل والتعارف!
والإشكال الذي ظهر عند المفسرين كان في قوله تعالى: ولذلك خلقهم, فلقد فهم كثيرٌ منهم أن الله تعالى خلق الناس للاختلاف!
ويعرفنا الإمام الفخر الرازي باختلاف! المفسرين حول هذه الآية فيقول:
“ثم قال تعالى: {ولذلك خَلَقَهُمْ} وفيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: قال ابن عباس: وللرحمة خلقهم، وهذا اختيار جمهور المعتزلة. قالوا: ولا يجوز أن يقال: وللاختلاف خلقهم، ويدل عليه وجوه:
الأول: أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى من عوده إلى أبعدهما، وأقرب المذكورين ههنا هو الرحمة، والاختلاف أبعدهما.
والثاني : أنه تعالى لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك الإيمان، لكان لا يجوز أن يعذبهم عليه، إذ كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف.
الثالث: إذا فسرنا الآية بهذا المعنى، كان مطابقاً لقوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
فإن قيل: لو كان المراد وللرحمة خلقهم لقال: ولتلك خلقهم ولم يقل: ولذلك خلقهم.
قلنا: إن تأنيث الرحمة ليس تأنيثاً حقيقياً، فكان محمولاً على الفضل والغفران كقوله: {هذا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى } [ الكهف : 98 ] وقوله : {إن رحمة الله قريب من المحسنين} [ الأعراف : 56 ] .
والقول الثاني: أن المراد وللاختلاف خلقهم.
والقول الثالث: وهو المختار أنه خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف. روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال : خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا ، وأهل العذاب لأن يختلفوا ، وخلق الجنة وخلق لها أهلاً ، وخلق النار وخلق لها أهلاً.” اهـ
ونحن نخالف الإمام الفخر الرازي فيما يقول, فالله تعالى قال: ولذلك, وهذا يعود على المفهوم من الآية, وهو الجعل أمة واحدة! فالناس لا يزالون مختلفين إلا من رحم الله فاتفقوا, ومن اتفق فهو في رحمة الله!
وفيه إشارة إلى أنه كلما زاد الاتفاق بين الناس كان ذلك من رحمة الله بهم, وأنه مرغوب فيه من الله تعالى!
وبهذا تكون هذه الآية تأكيدا لآية الحجرات في أنه على الناس أن يعملوا على زيادة ارتباطها وتعارفهم بغيرهم ورفع أسباب الخلاف, وبذلك يدخلون في رحمة الله تعالى.
وهذا يبين مدى الاختلاف بين القرآن -الذي يأمر بالتعارف ويحث عليه ويعتبره من أهم أهداف الإنسانية, لتحقيق الأمة الواحدة بدرجة من الدرجات- وبين التوراة والتي جعلت الله تعالى هو من شتت الناس! لأن هذه الوحدة ستمكنهم من فعل كل ما يحلو لهم!
وذلك كما جاء في سفر التكوين:
10: 32 هؤلاء قبائل بني نوح حسب مواليدهم بأممهم و من هؤلاء تفرقت الأمم في الأرض بعد الطوفان
11: 1 و كانت الأرض كلها لسانا واحدا و لغة واحدة
11: 2 و حدث في ارتحالهم شرقا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار وسكنوا هناك
11: 3 و قال بعضهم لبعض هلم نصنع لبنا و نشويه شيا فكان لهم اللبن مكان الحجر و كان لهم الحمر مكان الطين
11: 4 و قالوا هلم نبن لأنفسنا مدينة و برجا رأسه بالسماء و نصنع لأنفسنا اسما لئلا نتبدد على وجه كل الارض
11: 5 فنزل الرب لينظر المدينة و البرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما
11: 6 و قال الرب هوذا شعب واحد و لسان واحد لجميعهم و هذا ابتداؤهم بالعمل و الان لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه
11: 7 هلم ننزل و نبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض
11: 8 فبددهم الرب من هناك على وجه كل الارض فكفوا عن بنيان المدينة
11: 9 لذلك دعي اسمها بابل لان الرب هناك بلبل لسان كل الارض و من هناك بددهم الرب على وجه كل الارض” اهـ
إن القرآن يذم التفرق والاختلاف كل الذم ويعدهما مصدر شر ومجلبة عذاب:
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران : 105]
ولا يعني هذا أننا نقول أن الناس بتعارفهم سيدخلون في الإسلام أو أكثرهم سيفعلون, أو أن الخلاف بين الناس سيُرفع وينتهي! لا فالخلاف موجود وباق إلى يوم الدين, ولن يحدث في يوم ما أن يتحد البشر على كلمة واحدة!
ولكنا نقول:
بالتعارف سيُقضى على كثير من أسباب الخلاف وينشأ كثير من أسباب الوحدة والائتلاف.
وبهذا نكون قد بيّنا أن الناس في رحلة تعارف ابتدأت بتعارف الجنس بالجنس الآخر: الذكر بالأنثى[1], وأصبح هذا التعارف بداية نشأة الأسرة, ثم ازدادت الروابط بين الأسر حتى أصبحوا قبائل وشعوب وأجناس وأعراق!
وعليهم أن يزيدوا التعارف حتى يصبح البشر كلهم أخوة في أمة, فلهذا خلقهم الله. والله تعالى أعلى وأعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله.
____________________