“يجب على الله فعل الصلاح والأصلح”
“إنَّ الإِلهَ الذي يعرّفه القرآن، وهو بالطبع إله كلّ الأديان الإبراهيمية، هو إلهٌ ملتزم بالموازين الأخلاقية. ما أقصده من الموازين الأخلاقية هي الموازين نفسها التي فُطِرَت عليها طبيعة الإنسان، ويميل إليها الضمير الإنساني، ويدركها العقل البشري الذي وهبه الله تعالى.” اهـ
من القضايا التي دارت في تراثنا الإسلامي -وهي من القضايا المتجددة حتى في زماننا هذا- قضية: الفعل الإلهي!
ويمكن القول أنه كان هناك إجماع على أن الفعل الإلهي لحكمة -حتى وإن لم نعلمها، فهو سبحانه لا يفعل هكذا عبثا-
ولكن هل الفعل الإلهي “أخلاقي”؟!
في تراثنا الإسلامي قال المعتزلة بمقولة شهيرة، هي وجوب الصلاح والأصلح على الله. ودافعوا عنها دفاعا شديداً (وهذه المسألة كانت -في الظاهر- هي سبب تحول الإمام الأشعري عن المعتزلة).
وهذه المقولة وغيرها عن أخلاقية الفعل الإلهي، هي قياس عجيب للإله على الإنسان! قياس ينسى أن الإله هو الرب وأن له ما ليس للإنسان، وأنه -جل وعظم- ليس كالإنسان.
فإذا قلنا إن الإله “يجب” عليه كذا، فالسؤال البديهي: ومن الذي أوجب عليه هذا؟!
لو كان هو أوجب هذا على نفسه -وأعلمنا في كتاب من كتبه- لقلنا هو من أوجب (كما عرفنا: كتب ربكم على نفسه الرحمة)، ولكن لا دليل لدينا على أنه فعل هذا؟! فمن أوجب هذا على الله؟!
هل هو “العقل”؟!
وبغض النظر عن ما هو العقل، فهل للعقل هذه السلطة أصلا؟!! أن يلزم الله بشيئ!!
ومعلوم أن من يوجب/ يُلزم يكون “أعلى ممن يُلزَم، وهذا غير مقبول!
ولو قلنا إن العقل يقول: إن فعل الصلاح والأصلح من الله خير!
لكانت المقولة مقبولة وما جادل فيها أي أحد!
ولكن أن أقول إنه “يجب” على الله أي شيء فهذا عجب وتطاول!
ولهذا أتفق مع الإمام بن حزم في أنه لا يجب على الله شيء!
إن الله ربنا ذا الجلال له الكمال، ومن ثم فهو ليس بحاجة إلى أن يوجد شيئ يلزمه، فإذا عُدم، فإنه قد يأتي بالنقيض مثلا! فالله تعالى لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون! لأن هذا من كمال عدله ومن كمال رحمته، ولأن هذا من أفعاله -وأسمائه- الحسنى، وليس لأنه واجب عليه هذا!
النقطة الأخرى المتعلقة ب “أخلاقية” الفعل الإلهي.
فهذه “التسمية” لا تنسجم مع الذات الإلهية العلية، فالإنسان كائن ناقص “متخلق”، يحتاج لسنوات لاكتساب خلق، ويحتاج لمجاهدة نفسه لاكتساب خلق آخر، ويحتاج لزمن ولمجاهدة لترك غيرهما، بينما الله العلي العظيم ليس كذلك، فهو الرب ذو الأسماء الحسنى، وبأسماءه/ صفاته الحسنى (صيغة التفضيل من: أحسن) فهو سيأتي في أفعاله ب “العدل والإحسان”
.
ناهيك عن النقطة المحورية الأكثر أهمية، وهي أن الإنسان “محدود” المجال في العمل، بينما الله ليس كذلك!
فالله سبحانه خلق ويخلق -وهو الخلاق العليم-، وليس للإنسان ذلك!
وهو كذلك من يميت الناس (لحكم وافرات ليس المجال هنا للتفصيل فيها) سواء أفراد أو مجتمعات -بل ووضع سنة الموت وكتبها على عباده، وجعل الموت يتحقق بطرق معينة مثل مرض وهرم جسد … وو-، وجعل الإماتة هذه حقا حصرياً له، فمن قتل إنسانا واحداً متعمداً، فجزاءه جهنم خالداً مخلداً فيها-، وهو كذلك يبتلي الناس ويفتنهم ويختبرهم في حياتهم، وليس لأحد من البشر أن يفعل هذا مع إخوته من بني الإنسان.
ومن ثم فإن كثيراً من الإفعال الإلهية لا يمكن قياسها على الفعل الإنساني، ولهذا لو تذكر المعتزلة مثلاً “سنة الإماتة” والإهلاك، لما قالوا بوجوب الصلاح والأصلح مثلا، وذلك لأن الله لا يعامل خلقه كلهم بالسوية، وإنما الصالحون يثيبهم ويجزيهم، والضالون يرسل لهم الهدايات المتتاليات تترا، فإن استمروا على عصيانهم أعرض عنهم، فإن هم طغوا وأفسدوا وتجبروا، عاقبهم الله على قدر أعمالهم وإفسادهم.
إذا فمقولة أهل السنة: إن الله لا يجب عليه شيئ صحيحة، ولكن يجب أن تتبع بالتذكير بأن الله له الأسماء الحسنى، وهو يدبر الأمر يصرف الآيات، يسير العباد والأحوال بما يرى وكيف يشاء!
وكذلك علينا أن ننزه الله عن أن نقيسه على عباده، ونحاول قبل أن نقول بقولٍ ما، أن نبصر الصورة الإجمالية الكلية المقدمة في النص الإلهي، بدلاً من أن “نأخذ بعض الكتاب وننسى بعض”.