نظرات حول فعل “الكينونة”

من المعلوم أن اللغة العربية يوجد بها نوع من الجمل لا يوجد في اللغات الهندأوروبية, وهو: الجملة الاسمية, وذلك لأن اللغة العربية رأت أن العلاقة بين المسند إليه “المبتدأ” وبين “المسند” الخبر أمر بدهي, فعندما أقول: محمد مجتهد.
فهذا أمر لا يحتاج إلى توضيح, ومن ثم لم تحتج إلى استخدام مفردة خاصة به, بينما –لأسباب يطول ذكرها- لم ير الأوروبيون علاقة الإسناد بين المسند إليه والمسند –عندما يكونا اسمين أو اسم ونعت- في الجملة بتلك البدهية, ومن ثم استخدموا فعلا ينبه ويعرف بتلك العلاقة وهو فعل الكينونة, فلزام أن يقال في تلك اللغات مثلاً: أنا أكون طويلا. ولا يُكتفى بقول: أنا طويل.

ولا بد هنا أن ننبه أن العرب افترضوا لحذف “فعل الكينونة” ثبات العلاقة بين المسند إليه والمسند, وبعبارة أخرى: غياب عامل الزمان, بينما عند الحاجة إلى الإشارة إلى الزمان ظهر فعل الكينونة, سواء في الماضي أو المستقبل: كان الطالب مجتهدا, سيكون الطالب مُجداً.
وبعد هذه المقدمة أقول: ليست مسألة ظهور أو غياب فعل الكينونة في الجملة هو محور حديثنا, وإنما كيف رأى أصحاب الألسنة المختلفة هذا الفعل, ودوره وظهوره في الواقع وفي الحياة وفي الكون, وكيف استخدموه تبعا لذلك, فأقول:

أول ملاحظة ينتبه إليها متعلم اللغات الهندأوروبية أن فعل الكينونة فيها, سواء كان:
sein, to be, Être
هي أفعال شاذة التصريف, فالأفعال المشتقة منها لا تشبهها, وتكاد تكون أفعال أخرى مستقلة عنها, لاحظ مثلاً (والتصريفات هنا في المضارع):
Be .. am, is, are
Sein .. bin, sind, bist, seid, ist

بخلاف تصريف فعل الكينونة بالعربية, فهو فعل منتظم تصريفاته مشتقة منه مباشرة: كان يكون كُن, أكون كنا كنت كانوا كنتما .. الخ, وبداهة فإنه تبعا لهذا الانسداد التصريفي في اللغات الأوروبية فإنه من المنطقي ألا يُشتق من هذا الفعل مفردات أخرى لها علاقة بمعناه, إلا أنه كان هناك بعض الاستثناءات اليسيرة, مثل: The Being, Sein Dasein.
حيث أضيفت الحروف الدالة على الاستمرارية في الإنجليزية, وأضاف أحد الفلاسفة الألمان “هيدجر” مقطعا لفعل الكينونة
فإذا تركنا دور وبناء فعل الكينونة -كفعل مساعد- في اللغات الهندأوروبية وانتقلنا إلى المعنى, فإننا نجد أن المعنى الرئيس له هو “الوجود” كمضاد للعدم, ولهذا دل على الوجود بشكل عام, كما أنه يأتي بمعنى: التواجد, الحضور, الحدوث, التكون, مع ملاحظة أن كل هذه اللغات احتوت أفعالاً تدل على هذه المعاني, إلا أنه لم يكن ثمة علاقة تشابه أو اتصال بين هذه الأفعال وبين فعل الكينونة, مثل:
(exist, happend, existieren, vorhanden, geschehen)

ورغما عن اشتراك معاني فعل الكينونة في العربية مع مثيله في باقي اللغات, فهو يأتي بمعنى التواجد والحضور: “وهو معكم أينما كنتم”, والحدوث .. الخ, إلا أن الحال يختلف كلية مع فعل الكينونة في اللسان العربي تبعا للمنزلة التي أنزله العرب إياها, حيث رآه العرب “الحدث” الرئيس في الكون ومن ثم اشتقوا منه المفردات الدالة على الحدوث وعلى “التجسد” أو الظهور, وهذه هي النقطة المحورية الرئيسة لموضوعنا, وهي كم و “كيف” المفردات التي اشتُقت من فعل الكينونة في اللغة العربية, ونأخذك عزيزي القارئ في جولة مع فعل “الكينونة” وكيف رآه العرب, فنقول:

الظريف أن العرب استخدموا الفعل كدال على “الحدوث” وكذلك على الاستمرار والثبات!! ولهذا دل المصدر “ك و ن” على مجموع “الموجودات” المادية, من أرض وشمس وقمر ونجوم وكواكب, وهي ثابتة مستمرة, ومن ثم فإن الكون هو “العالم” كله, وهي ما يمكن مقابلتها في اللغة الإنجليزية بكلمة: “Universe”

“مكان” مشتق من المصدر “ك و ن”, فكأن العرب لاحظوا أن الموضع أو “قطع المسافات المجزأة” هي ظهور وتجسد للكينونة, فبنوا من الكينونة: المكان. كما استخدم العرب الفعل للإشارة إلى الزمن “الماضي” أو المستقبل: كان, سيكون, وهو ما يشترك فيه جزئيا مع اللغات الأوروبية.
عبّر العرب عن المخلوقات المتواجدة داخل حيز المكان ب “الكائن/ الكائنات”, فالإنسان والحيوان والنبات هي كلها: كائنات. وقريب من هذه المفردة كذلك مفردة: “كيان”, وإن كانت هذه المفردة أكثر تجريدا, فهي لا تشير في الغالب إلى مخلوق, وإنما إلى الاستقلالية والذاتية أو إلى أنه “ذات” غير طبيعية مثل شركة أو مؤسسة.

اشتق العرب من ” ك و ن” الفعل: تكوَنَ والمصدر: تكون, والذي لا يدل فقط على الحدوث, وإنما على انضمام عدد من العناصر لبعضها لإنشاء عنصر جديد مستقل بذات يحمل سمات مخالفة لسمات أفراده ولسمات باقي الأفراد المحيطة به.

ومن الكينونة اشتق العرب كذلك المفردة الدالة على “احتمالية” أو قابلية الحدوث أو الظهور, وهي: “ممكن”! وكذلك اشتقوا الفعل “مكّن”, وهو الدال على إعطاء المُكنة أو القدرة على فعل شيء.
والله سبحانه وتعالى “مكون الأكوان/ الأشياء”
ولك “مكانة” مخصوصة عندي/ عند السلطان.

ونطلب إلى القارئ أن يترجم هذه المفردات إلى اللغة الأجنبية التي يتقنها, سواء كانت الإنجليزية أو الألمانية أو الفرنسية أو غيرها, ليبصر بنفسه كيف أن هذه اللغات استخدمت مفردات أخرى تماما, بينما أعاد العرب كل هذه الأفعال إلى أصل الوجود, فعل الكينونة, والذي به خلق الله:
” إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس : 82]”

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

عن المشهد التربوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.