أين “الأخلاق” الإسلامية؟!

لا أعني بعنواني هذا تردي المستوى الأخلاقي عند المسلمين, وإنما أعني به “المنظومة الأخلاقية” ذات المرجعية الإسلامية!

فمن المعلوم والمشاهد عبر العصور ارتباط الأخلاق بالأديان, ف “رجال الدين” هم من كانوا –ولا يزالون بدرجة كبيرة- يكتبون عن الأخلاق. ورغما عن أنهم يكررون دوما الحديث النبوي الشهير: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ “, إلا أن الناظر في “النتاج الأخلاقي”/ الكتابات الإسلامية عن الأخلاق تطبيقاً وتقعيداً وتنظيراً, يجد أنها جد قليلة مقارنة بغيرها في “المكتبة الإسلامية” والتي تعاني من تخمة شديدة وامتلاء بكتب الفقه والحديث, بينما الكتابات عن الأخلاق قليلة! رغماً عن أن الآيات التي تدور حول الأخلاق تفوق الألف وخمسمائة آية, بينما آيات الأحكام هي أقل من الخمسمائة آية!!

وهذه الكتابات القليلة أكثرها كتابات “تطبيقية” قديمة –وليست تأصيلية- تقدم للمسلم كيف يطبق أو يعيش بالأخلاق! والحديثة منها قائمة على تكرار ما جاء في القديمة مع عرضه بلغة معاصرة وبعض الصور التوضيحية أو ما شابه, ومن ثم فإنها –قد- تكون مناسبة للأطفال, بينما لا تُسمن ولا تغني من جوع مع الكبار, ومن ثم يلجئون إلى كتابات غربية حول الأخلاق, والتي تُقدم بشكل جاف, قد يكون مقنعاً عقلياً إلا أنه غير ذا تأثير على القلب أو النفس!!
وتبعاً لهذا القصور في “النتاج الأخلاقي” ورغما عن النتاج الفقهي الهائل, فإنه ليس عجيباً أن نرى هذا التردي السلوكي لأفراد المجتمعات الإسلامية! وذلك لأن “الأحكام” بدون “أخلاق”, لا يمكن أن تُخرج إنسانا سوياً بأي حال من الأحوال! وهذا ما قام به الرسول –وغفل عنه اللاحقون- بتقديم آلاف التطبيقات والنماذج والأقوال, كانت الغاية منها هي ترسيخ القيم والمبادئ الأخلاقية -والأسس الفكرية القويمة- عند المسلمين, من صدقٍ وأمانة وعدل ورحمة وحب وإخاء وتسامح وكرامة وحرية وعزة وسيادة وعفة وطهارة … الخ

ولا نريد أن نظلم المنظومة الفقهية في هذا الجانب, فالحق أنه كان –ولا يزال- للمنظومة الأخلاقية الإسلامية الدور الأكبر في سلوكيات المسلمين, وذلك لأن أغلب المسلمين لم يتلقوا دراسة دينية فقهية, كما لم يكن كثير منهم يرجع إلى أحكام الكتب الفقهية في كل كبيرة وصغيرة من شئون حياتهم, وإنما كانوا يعتمدون على عقولهم وأعرافهم, وما تتقبله نفوسهم ولا يرون أنه إثم! فلم يتلق المسلمون فقها! وإنما تلقوا خطباً دينية يقوم جلها على المواعظ والترهيب قبل الترغيب! ومن ثم كان تعرف المسلمون على الأخلاق “كلامي وعظي”! ومن المعروف أن الخطب تقوم دوماً على المبالغات وتجييش العواطف, ولعبت الخطب دوراً سلبياً في تكوين بناءٍ أخلاقي عجيب لدى المسلمين! انعكس في نظرتهم للدنيا ودورهم فيها ثم أفعالهم وأقوالهم, وفي توجيه أفعالهم واهتماماتهم إلى مسارات ومجالات بعينها, عُنوا بها أشد العناية, وأكثروا من القيام بها وعليها, وإهمال أخرى والعزوف عنها بل ورفضها واستبعادها!

إن الإشكالية الكبرى التي واجهتها الأخلاق في المنظومة الإسلامية, أن العلماء لم يقدموا للعوام معياراً ثابتا واضحا لها وإنما ربطوها ب “السنة”, فما رفعته السنة رُفع وما تركته تًُرك, ومن يطبق السنة فهو المسلم الصالح, ومن لم يطبقها فهو مبتدع طالح!! ولهذا لم يعد المسلم يثق كثيراً في فطرته أو في قدرته في الحكم على الأشياء ولم يعد مهتما بمشاعره! وأصبح كل همه أن يطبق كما فعل الرسول!
ولم يعد دور رجال الدين أن يُزكوا المسلم ليصل إلى –قريب من- الدرجة التي وصل إليها الرسول ومن ثم أصبح يتصرف بهذا الشكل, وإنما عليهم أن يقنعوا المسلم أن يفعل كما فعل الرسول!! رغماً عن أن كثيراً مما قام به الرسول كان تصرفاً تبعاً لبيئته ولظروفه وليس من المطلق, وهو مما ينبغي أن يؤخذ منه المغزى والحكمة وليس الشكل الظاهري. ولا نريد أن نغمض الصوفية حقهم في مجال التزكية, إلا أن جل جهدهم كان في الجانب الشعائري الذكري, وكان عمود تربيتهم/ تزكيتهم هو العزلة والخلوة وهو ليس مما يُنشأ أخلاقا سليمة, وإنما ينشأ انفصالا عن الدنيا ومجافاة لها!!

وتبعاً لربط الأخلاق بالسنة لم تعد للأخلاق مكانة مستقلة ولا المكانة الذي تستحق!

فهناك الكثير والكثير من الكتب التي تتحدث عن “التوحيد” والتفصيل في كل صغيرة وكبيرة من متعلقاته وتوابعه وما يترتب عليه .. الخ, وكذلك الكثير والكثير من الكتب عن السنن, بل وتجد كتباً كاملة عن سنة واحدة وبدعة واحدة وجمع لأقوال العلماء في المسألة!
إننا بحاجة إلى أن نعطي الأخلاق مكانتها الحقيقة في الدين, بأن يصبح ركنا الدين الرئيسين هما: الإيمان والأخلاق, -وهو ما نجده في كثير من الآيات التي تتحدث عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات (وعمل الصالحات هو نتيجة الأخلاق الصالحة).
ومكتبتنا الإسلامية بحاجة إلى كتابات كثيرة جديدة جادة تقدم تطبيقات معاصرة للأخلاق, وكذلك كتابات أخرى تعرض لتلك الأخلاقيات التي غفل السابقون عن الكتابة فيها أو مروا عليها مرور السِراع, لأنها لم تكن من قضايا أو اهتمامات الفرد في عصرهم.

والأهم أننا بحاجة إلى كتابات تُعدل “القالب الأخلاقي القيمي” للمسلم, تُعرفه أن فطرته التي فطره الله عليها هي الأصل, وأن الدين جاء مزكيا ومنمياً لها وأن عليه أن ينصت لها.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

عن المشهد التربوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.