الرضا بالفوضى!

حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن آفة سيطرت على حياتنا كلها, وأحاطت بشباكها جميع جوانبها, وهي الفوضى, بجميع أصنافها وأشكالها.

ولأن الفوضى هي المسيطرة في مجتمعاتنا العربية!!! لم تعد أمرا غريبا أو ملحوظا أو استثنائيا أو مستهجنا مرفوضا, وإنما أصبح المألوف هو الفوضى, والاستثناء هو النظام! والذي يُستغرب وسرعان ما يُدعى المرء إلى تركه وإلى التلذذ بالفوضى!

ولأن الفوضى لا تحتاج إلى أي جهد أو فكر! نجد أكثر البشر يلتزمونها مسلكا, تجاوبا مع طباعهم الحيوانية!!! على الرغم من الخسائر الفادحة التي تعود عليهم بسببها, إلا أننا كثيرا ما نسمع عن عشق الفوضى!

وقبل أن نبدأ حديثنا عن معالجة هذه الظاهرة, لا بد أن نتوقف قليلا مع أسبابها, لنعرف لماذا انتشرت هذه الظاهرة بهذا الشكل البشع!

يعتبر “الكسل” هو السبب الرئيس للفوضى, فالأصل في الطبيعة الفوضى (ولذا لا يمكنها أن تخلق بأي حال من الأحوال!!) والتنظيم يعتمد على الفكر والجهد, فلماذا يتعب الإنسان نفسه إذا كان لا يرى في الأمر ضررا عاجلا, فليتكاسل, فالكسل أحلى من العسل (السام!!!) وبعد ذلك سيصلح ما أفسده الدهر, أقصد سيرتب الفوضى التي أنشأها أصلا!

وبخلاف الميل الطبيعي للفوضى فإن استنفاد الإنسان جهده في بعض الجوانب, والتي يراها محور حياته, يكون له الأثر الأكبر في إنشاء الفوضى, فالإنسان يقتل نفسه لتحقيق هدفه وإنجاح محوره, وما بخلاف ذلك يُؤدى بأي شكل كان!
والعجيب أن الذكاء قد يكون سببا كبيرا من أسباب الكسل المؤدي إلى الفوضى! فقد يثق الإنسان في ذكاءه لدرجة يظن معها أنه لا يحتاج إلى تنظيم أموره وحاجياته, فعقله سيسعفه في أي موقف كان!!!

وبخلاف الكسل فإن العبثية تلعب دورا كبيرا في إشاعة الميل إلى الفوضى, فإذا الكون قد وجد صدفة ولا غاية من حياة الإنسان ولا سؤال ولا حساب فلما الإجهاد والتنظيم في عالم فوضوي؟

ويضاف إلى العبثية الإحباط الذي يعاني منه الكثيرون, بسبب عدم تحقيقهم بعض مساعيهم في حياتهم, فيؤدي هذا إلى عدم التنظيم في باقي الجوانب!

وغير المذكور هناك الكثير من العوامل التي تؤدي إلى الفوضى, مثل إهمال الوالدين لتربية أبناءهم على خلق التنظيم والتخطيط, ومثل شعور الإنسان بالأمن لتوفر جميع احتياجاته الأساسية والفرعية بشكل مبالغ فيه … وغير ذلك كثير!

ومن آثافى الدهر أننا أصبحنا نسمع عن الفوضى المنظمة أو الفوضى البناءة!! تصور عزيزي القارئ: فوضى منظمة, كيف؟!

أي أن الإنسان إذا استمر في فوضاه ولم يلغها, وتراكمت الفوضى وعمت, فقد تخرج هذه الفوضى في يوم من الأيام شيئا جميلا منظما, وقد تحمل هذه الفوضى في ثناياه جمالات عدة, وقد تكون هذه الفوضى حافزا ودافعا كبيرا للإنسان لكي ينتج ويبدع!

ويبدو أن حكامنا العرب الأشاوس يتبعون نفس هذه السياسة مع شعوبهم, فهم يرون أن إغراق الشعوب في البؤس سيؤدي حتما إلى قدح زناد فكرهم واستخراج روائع وبدائع لن يأتي بها المرفهون حتما!!!!!

وهنا نصل إلى السؤال المحوري في هذا الموضوع, وهو:
كيف نزيل هذه الفوضى, ونعمم النظام؟
والإجابة بكل يسر –عسير التنفيذ!!!- هي بالإيمان والتدبر!

فإذا آمن الإنسان بكتاب ربه, إيمانا نابعا عن التدبر, فسيرى في الكتاب نظاما بل أنظمة بديعة, لم ولن يرى مثلها في أي مكان أو كتاب غيره –ويمكن للقارئ الكريم أن يرى بعض نماذج على ذلك في تناولنا لبعض السور مثل المرسلات والذاريات والنازعات, والمعروضة على صفحات الموقع-,
فإذا اكتشف النظام في القرآن ظهر له النظام في الكون كله حوله كأبرز ما يكون, فيتوغل النظام في جسده فلا يرضى بالفوضى بأي شكل كان!


فسيرى في كتاب ربه منهاجا قويما لتنظيم حياة الناس, سيسعى هو جاهدا لتطبيق جانب منه على أرض الواقع, وكلما زاد عدد المؤمنون المتدبرون زاد عدد المؤمنين بحتمية وجمال النظام, والذين سيطبقونه على أرض الواقع! فتزداد تدريجا بقعة النظام مزيحة قدرا من الفوضى, وهكذا …..

قد يكون القارئ قد قرأ بعض مقالات تتحدث عن علاج الفوضى, والتي ذكرت بعض العناصر مثل التفكير العلمي المنطقي, والموضوعية والدقة والتجريد, وتحديد الأهداف والتخطيط!

ولكن لا بد من القول أن هذه العناصر لا تُلقن تلقينا وإنما لزاما أن يعيشها الإنسان ويحياها حتى يستطيع أن تصبح سلوكا دائما له, وهذا يحتاج من الإنسان الكثير من الجهد والتخبط!

ولقد أغنى القرآن الإنسان فقدم له صورة كاملة شاملة عن كل ما قد يخطر بباله, ولكنها لا تظهر إلا لمن يتدبر, أما من يقرأ فلن يرى إلا المخطوط, فإذا تدبر الإنسان القرآن, آمن أن على الإنسان أن يعد العدة لغده وألا يتعجل ويفرح بالأسهل,
وأن دور الإنسان هو الكدح لتحسين الأرض وإعمارها, فإذا أصبح هذا منطلقه في الحياة, فكيف يتكاسل أو يصبح فوضويا؟!

وإذا استخرج العبرة والعظة من القصص القرآني, فكيف يفعل ما فعله السابقون, وليموا بل وأُهلكوا من أجله! بداهة سيتجنب كل هذا!

وهذا هو الفارق الكبير بين من ينظم بالعقل ومن ينظم بالدين, فهناك الكثيرون الذين ينظمون أمورهم, لأنهم يرون عقلا أن هذا أريح وأربح وأكسب صحة وعقلا ومالا! إلا أن نفوسهم تظل تراودهم وتدفعهم دفعا إلى التكاسل, وقد يغير الإنسان منطلقه ووجهته في لحظة من اللحظات بسبب طارئ ما!!

أما المنظم بسبب الدين فنظامه نابع من إيمان قلبي واتباع عقلي, يلزمه إلزام الحب والاقتناع بالنظام, فأنى له أن يعود إلى ما يكره (بخلاف الآخر الذي قد يعود إلى ما تهواه نفسه ويجبرها على مخالفته!!)

وفي نهاية هذا المطاف نسألك عزيزي القارئ بعض الأسئلة, المتعلقة بهذا الموضوع, والتي نرجو منك أن تجيبها نفسك بأكبر قدر ممكن, وإذا أردت أن تضع إجاباتك هنا فلا بأس:
هل أنت فوضوي؟
وإذا أجبت ب: نعم, فإلى أي قدر؟
هل تعتقد أن التنظيم والتخطيط من الفروض أم من السنن أم من النوافل أم من المباحات؟! أو هل من الممكن أن يكون هناك متدين غير منظم؟
ما هي العلاقة بين التواكل والفوضى؟
هل تعجبك حياتك بهذا الوضع أم أنك تفكر في تغييرها؟!
إذا كنت تفكر في تغييرها, هل اتخذت الخطوات اللازمة لهذا أم أنك تتمنى فقط؟!
هل أنت سلبي؟ وإذا كانت الإجابة ب: نعم, فإلى أي قدر ترى سلبيتك؟
هل سبق لك أن نظمت أمورك ثم عدت إلى الفوضى؟
وإذا كانت الإجابة ب: نعم, فكم استغرقت فترة النظام في حياتك, والتي عدت بعدها إلى الفوضى؟!
لماذا عدت إلى الفوضى مرة أخرى؟!
كم مرة نظمت ثم عدت إلى الفوضى؟!
ماذا تفهم تحت مصطلح: النظام/ الفوضى؟
هل تكره النظام والتخطيط أم تستثقله؟
وإذا كنت ممن يستثقلون النظام, فهل ترى أن الحياة الفوضوية أثقل أم أخف من الحياة المنظمة؟!
هل ترى أن الإنسان الغير قارئ (للقرآن أو عامة) يمكن أن يكون منظما في حياته (وليس عمله)؟
كيف تتصور حياتك منظمة؟!
لماذا لا تتصور حياة منظمة وتسعى إليها؟
هل سبق لك أن خططت لحياتك؟ وفي كلتا الحالتين: لماذا؟
إذا كنت ممن يخططون لحياتهم, فإلى أي قدر تخطط؟ هل تضع خطة للعمر كلها, سأكون كذا! وينتهي الأمر, أم أنك ممن يضعون خططا مرحلية, وهل تضع خططا بديلة تحسبا لتعثر الخطط الرئيسة؟
كيف ترى من يخططون لحياتهم ولا يسيرون تبعا للظروف؟
هل تعد الالتزام بالمواعيد من النظام؟
هل تعد الالتزام بالمخططات الزمنية لإنجاز أمر ما من النظام؟
هل ترضى بالنظام الجزئي (يعني: في العمل فقط أو في العبادة فقط والفوضى فيما عدا ذلك)؟!!
هل تعتقد أن النظام قابل للتجزئة أم أنه وحدة واحدة؟!
كم نحتاج –في رأيك- كشعوب عربية مسلمة للقضاء على هذه الفوضى ولإحياء روح النظام والتخطيط في أبناءنا؟!
هل من الممكن أن تنهض أمتنا بلا نظام؟
هل ترى أنه من الممكن أن يكون هناك تنظيم أفرادي بدون تدخل من الدولة والحاكم, أم أنه من الحتمي أن يصبح التنظيم توجها قوميا؟!!
هل تربي أولادك على النظام, وهل ستفعل ذلك عندما يكون عندك أولاد؟
هل تدعو إلى النظام أم أنك من المحبطين المخلدين إلى الواقع المرير والراضين به؟
هل عندك القدر الكافي من العزيمة لتحمل نفسك وإخوانك على النظام (بالنصح وليس بالإجبار بداهة!)؟

نكتفي بهذا القدر من الأسئلة, والتي أرجو أن يتوقف القارئ معها بما يكفي, ويحاول الإجابة والتنفيذ, بدلا من الاكتفاء بالابتسام وهز الرأس وإغلاق الصفحة!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

حول إنكار العقل الغربي ل “النظام الكبير”!!!

في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.