الإسفاف
عمرو الشاعر
15 مايو، 2021
الأخلاق وتهذيب النفوس
قديما كنا نشكو من تأثير التلفاز والأضرار التي ينزلها بمشاهديه وأن نفعه لا يكاد يقارن بضره! على الرغم من أنها كانت قنوات معدودة –قناتان ثم كثرت-
والحق أنه بمقارنتها بالقنوات المعروضة على الساحة حاليا يمكننا القول أنها قنوات مفيدة جادة نافعة …. وقل فيها من قصائد المدح ما شئت!!
والآن مع الانفتاح الاقتصادي –الغير- ميمون, عاصرنا انفجاراً إعلاميا غير مسبوق! فأصبح ممكنا لكل ناعق أن يؤجر قناة على قمرنا –الغير- مبارك! النايل سات! ليبث فيها من التفاهات والانحطاط والإسفاف ما يشاء! فهو مرحب به, طالما أنه يدفع أجر القناة!
ونحن لا نتحدث هنا عن قنوات الأغاني –فلقد تحدثنا عنها سابقا- ولا عن قنوات العري وما شابه, فكثير من المشاهدين ولله الحمد لا يقربونها, ويبعدون أبناءهم عنها, لما يرون فيها من فساد وانحلال ينأون بأبناءهم وبناتهم عنها!
وإنما نتحدث عن تلك القنوات التي فتحنا لها الأبواب بحسن نية, وبطيبة تصل إلى درجة السذاجة, فأغرقتنا بموجة …. بل بموجات من الإسفاف الشديد, أدت إلى حدوث انحطاط شديد في الذوق والعرف العام في الوطن العربي!!
حديثنا عن القنوات المسماة بالكوميدية!! والتي تدعي أن رسالتها هي إسعاد الناس وإيصال البهجة والسرور إلى قلوبهم!!
والتي كالعادة بدأت بقناة واحدة وجدت في هذا التوجه تفرداً على الساحة الإعلامية!! فتخصصت في الإضحاك … بسبب وبغير سبب!!
وكعادتنا في تقليد كل ناجح من أجل الحصول على قطعة من الكعكة, فلا ينفرد بها بمفرده, وجدنا قنوات كوميدية أخرى تطفو على الساحة لتحصل على نصيبها من الكعكة … كعكة الإعلانات!!
وعلى العكس من القنوات المتخصصة الأخرى والتي تجد مادتها فيما ينتجه ويقدمه الآخرون, فقنوات الدراما تعرض المسلسلات وما شابه, وقنوات الأفلام تقدم الأفلام والقنوات الرياضية تعرض المباريات والمسابقات الرياضية, ثم تقتلها تعليقا وتحليلاً وتفصيلا, فيما لا طائل من وراءه!
على العكس من هذه القنوات وجدت هذه القنوات نفسها في مأزق كبير وهو أنه يجب عليها أن تنتج النصيب الأكبر من أعمالها بنفسها!!
فلا يكفيها أن تعرض الأفلام أو المسلسلات “الكوميدية” القديمة, لأنها لو فعلت فلن تخرج عن نطاق قنوات “الدراما”!
ومن ثم بدأت هذه القنوات “الهايفة” في إغراقنا بإنتاجها المسموم, من البرامج التي لا تقدم أي محتوى هادف, وإنما يقتصر الأمر على التقليد الأبله لكل ما ومن هو معروف ومشهور … والسخرية منه بطريقة مثيرة للاشمئزاز!
فنجدهم يسخرون من المفكرين والمشائخ والعلماء ويظهرونهم بمظهر لا يليق بأي حال من الأحوال …. كما يقدمون الفلاحين والقرويين بمظهر السذج الحمقى … الأجلاف … كما وصل الأمر إلى السخرية من الشخصيات التاريخية! وكل هذا بحجة حرية الرأي! على الرغم من أنهم لا يقدرون على الاقتراب من أشخاص بأعينهم! لما لهم من الحصانة والمكانة!!!
ولم يقتصر الأمر على هذه التفاهة والتقليد السمج, وإنما تعداه إلى الإشارات “القبيحة” التي أصبح هؤلاء يعرضونها عيانا بيانا … جهاراً نهارا … وليلاً … على مرأى ومسمع من المشاهدين, الذين يضحكون بملء أفواههم, لأن هذه التلميحات “الجنسية” القذرة, والتي يتداولونها بينهم أصبحت تذاع في التلفاز!! ومن ثم فإن هذه التلميحات لم تعد أمراً مستهجناً مستقبحاً وإنما أمر عادي لم تتدخل الرقابة فتمنعه!! وهكذا أصبحت هذه التفاهات هي الأكثر مشاهدة …. والأسوء تأثيراً, لوصولها إلى أكبر شريحة من المشاهدين …. المستغفلين!!
ونحن لا ندعو إلى تقديس الأشخاص ولا إلى عدم نقدهم, وإنما ندعو أن يكون لكل شيء حدود وأصول … وغاية …. غير مزيد من المال والإعلانات!!
نحن لا نحجر على الناس ولا ندعو إلى القضاء على المتنفس الذي يجدون فيه الكثير من البهجة والسرور ….. وإنما ندعوهم إلى الانتباه إلى الكم الكبير من السم المدسوس في العسل!!
فنحن وإن جنبنا أنفسنا وأولادنا مشاهد العري والانحلال, فقد نسينا أنهم في مرحلة التكوين, وأنهم يخزنون كل ما يقال لهم, وأنه يساهم في تكوين شخصياتهم!!
وبدلا من أن نملأ عقولهم بالمبادئ والغايات السامية, حشونا أذهانهم بالتفهات, وأسقطنا كل عزيز وغال من بصرهم, وهكذا لم يعد لهذا الجيل قدوة يحتذى بها, فلقد أسقط هؤلاء وبجدارة مكانة كل صاحب مكانة في عيون الجيل!!
فماذا نتنظر من جيل مثل هؤلاء؟! لن ننتظر إلا مجموعة من الشباب القادرين على “هز أوساطهم” بطريقة لولبية, والحديث مثل المجرمين والمدمنين!! والذين لا يرون أي حرج في الحديث ببذاءة تفوح جنسا! صريحا وتلميحا!!
جيل لن يحترم الكبير وإنما سيسخر منه لأنه قديم … غير مواكب للعصر! يفكر بطريقة بدائية متخلفة … بينما هم يفكرون بطريقة ….!!!
إننا نرى أن القدر الذي تقدمه القنوات الأخرى غير المتخصصة أكثر من كاف للإنسان! أفلم يكفنا الوهم حتى أصبحنا نطلب معه التفاهة والإسفاف؟!! وأعجب كثيراً ممن لا يتقيأ من هذا الإسفاف الذي تقدمه في كثير من برامجها … الضارة … التافهة!!!
إن أمتنا محملة بحمل ثقيل وعليها أن تقوم به, ولا أعتقد أنها ستستطيع أن تقوم به وله بحال إذا كان فهما مفتوحا من كثرة الضحك!! عليها وعلينا أن نغلق أفواهنا أولا, وننظر في حالنا بنظر الجاد, فنحاول قدر جهدنا أن نغيره!
إنني قلق وبشدة على الجيل الجديد الذي يمتح من “منقوع” هؤلاء! وأدعو الآباء وبكل حزم إلى إبعاد أبناءهم عن هذه القنوات كما أبعدوهم عن قنوات الأغاني والعري ….. فالقنوات الأخرى يعلم مشاهدها أنه يرتكب ذنوبا ومعاصى بمشاهدتها, كما أنه يقيم حائط صد بينه وبين الأفكار التي تقدمها, فيكتفي منها بما يروي شهواته, ويرفض وبشدة أفكارها!
أما هذه فلا يتحرج منها ولا مما تقدم ….. ويرى أنها لا تؤثر فيها ولا في أولاده …. ثم يكتشف في نهاية المطاف أنها قد أصابت ذوقه بالانحطاط …. وأفسدت أخلاق وعقول أبناءه!!
إننا نقر أن الذوق العام للبشرية كلها إلى انحطاط –وخاصة مجتمعنا العربي الغارق في الشهوات!!- فلم يعد هناك من يهتم بالشعر ولا بالفنون الراقية النافعة … التي ترتقي بالإنسان …. وإنما أصبح الكل منساق إلى الفنون الصاخبة …. التي تعمل على إثارة الهمجي بداخلنا …. وهكذا أصبحت الأغاني الهابطة والتي محورها المخدرات وما شابه من المعاني التافهة هي طرب العامة والخاصة!!!! وكذلك التفاهات أصبحت متنفس الملتزم والمنحل!!!
ولكن لا يعني هذا أن نسلم لهم وأن نرفع الراية البيضاء …. وإنما علينا أن نمسك بالحجارة ونبدأ بإلقامهم إياها … فربما نستطيع …. أو يستطيع غيرنا أن يسكت هذه الكلاب العاوية!!