شهد نصف القرن المنصرم تغيرات كبيرة وجذرية لمقادير مكونات المجتمعات البشرية,
وتُعد “الألعاب” من أبرز الأنشطة التي نالها هذا التغير, حيث خطت خطوات كبيرة إلى الأمام من حيث المرتبة والكم والكيف! فلم تعد الألعاب ذلك النشاط الترفيهي المهمش, وإنما أصبحت مكونا بارزا مقدما في حياة المجتمعات وفي يوم الفرد. ولم تعد الألعاب تلك الأنشطة التي ينشئها بعض الأفراد للتسرية عن نفوسهم, وإنما أصبحت “صناعة” منظمة, تسعى لترويج بضائعها بجذب وكسب أكبر عدد ممكن من “الزبائن”, بإقناعهم بحاجتهم لهذه “المنتجات” وبأنها ستحقق لهم “السعادة” وترسم على وجوههم البسمات!
وتغيرت كذلك “طبيعة” الألعاب, فقديما كانت الألعاب كلها واقعية حقيقية الغاية منها الترفيه, يشارك فيها الإنسان بنفسه, وكان أكثرها يتطلب قدراً من الجهد البدني, وأقلها قسطا من الجهد الذهني, مثل الشطرنج و “الأحاجي”! والتي كانت هي التجسيد الأبرز لألعاب المتعلمين.
أما في عصرنا الحديث فأصبحت هناك ألعاب تعليمية, تجعل التعليم أكثر متعة! وهناك الألعاب الجنسية, والتي تشبع الاحتياجات الجسدية لمن لا يجدون –أو لا يريدون- زوجا/ شريكا يرتبطون به! أو لمن يريدون تجريب شكل جديد من أشكال المتعة!
وقبل أن ننتقل إلى الاختلاف الحقيق الرئيس الذي طرأ على طبيعة الألعاب, سنقدم نظرة عامة على طبيعة الألعاب, فنقول: تنقسم ألعاب الأطفال –والكبار كذلك- إلى قسمين رئيسين, هما:
ألعاب الفوز: والتي تحتوي درجة من التنافس والسباق, حيث يهزم أحد الطرفين الآخر, بأن يحقق الهدف قبل الآخر أو يحققه ولا يحققه الآخر, ومن أشهر أشكالها عند الذكور ألعاب القتال, سواء بالسيوف الخشبية –كما كان سابقاً- أو بالمسدسات حالياً, أو العدو أو رمي شيء لمسافة أبعد, أو مصارعة الذراعين.
وألعاب المحاكاة: وهي ألعاب لا فوز فيها, وإنما يكتفي المشاركون ب “تمثيل” بعض الأدوار الحياتية, وتنتهي اللعبة بعد فترة من البدء فيها, عند شعور المشاركين أنهم قد تقمصوا الدور بما يرضي نفوسهم! وغالباً ما تقوم بهذه الألعاب الفتيات, حيث تتقمص إحداهن دور الأم مع “دميتها” أو تقوم بإعداد مسرح كامل للعبة, حيث تقوم بدعوة والدها إلى “بيتها”, أو تقوم بتمثيل دور “النادلة” في المطعم, أو يقمن بتمثيل أدوار قصة شهيرة مثل سندريلا, وربما يشارك بعض الأولاد في مثل هذه الألعاب مثل لعبة الطبيب والمريضة .. وهكذا (وهذه الألعاب هي التي أدت قبل قرون طويلة إلى ظهور فن التمثيل/ المسرح).
والألعاب بنوعيها قائمة بالدرجة الأولى على “الخيال”, حيث يتفق جميع الأطراف على تجاوز الواقع الموجود, وخلق “واقع افتراضي” متوافق عليه, حيث يتكون فريق كذا وفريق كذا,
والذين يعملون على الوصول إلى كذا أو الحصول على كذا! وساعتها يصبح ما لا قيمة له ذا قيمة كبرى تبعاً لذلك “الواقع الافتراضي”, لأنه يحقق الغاية المنشودة وهي فرحة ونشوة “الانتصار/ الفوز” وتحقيق غاية!! وتقريبا كل الألعاب الرياضية الجماعية في عصرنا الحديث ينطبق عليها هذا!
(واعتقد أن الألعاب بشكل عام ظهرت مع ظهور الحضارة واستقرار الإنسان في المدن, حيث لم يعد هناك صيد ولا قتال, وكان لا بد من وجود “حيلة” للتغلب على هذه الرتابة وتنفيس الطاقة المكبوتة داخل الإنسان).
وبعد هذه الإطلالة السريعة على طبيعة الألعاب, ننتقل إلى الاختلاف الرئيس الذي أصاب طبيعة الألعاب في العصر الحديث, والذي كان مع ظهور أجهزة الحاسوب الشخصي, ثم ظهور “ألعاب الكمبيوتر/ الفيديو”, حيث أصبح من الممكن “إيجاد” نوعي الألعاب في نوع واحد, فالغاية من اللعبة هو الفوز وهناك تنافس مع الغير,
وهناك كذلك التقمص المثير “الآمن” لشخصية المقاتل بشكل آمن, حيث لا خشية من وقوع الضرر –بخلاف ألعاب التنافس في الواقع-! وكان الاختلاف في ألعاب التقمص والمحاكاة بالنسبة للفتيات مثل ألعاب “التلبيس والماكياج .. الخ”, أنها زادت من الإمكانيات المتاحة لها,
فهي قديما كانت تتقمص شخصية المرأة/ الأنثى البالغة المسئولة, وهي الآن كذلك تتقمص نفس الدور, ولكن بإمكانيات أعلى –افتراضيا-, لم تتوفر لأي فتاة في عصور سابقة في ألعابها.
وقديما كانت الألعاب للأقوياء الشجعان, والذين مهما عظمت قوتهم, لن يستطيعوا ممارسة لعبة أكثر من ساعة! يحتاجون بعدها إلى الراحة, أما مع الألعاب الافتراضية أصبح ممكنا أن تمارس الألعاب طيلة اليوم! وهو ما كان فظهر “إدمان الألعاب” والذي ترتب عليه أضرار جسدية وصحية ونفسية عديدة!
هذا إذا افترضنا أن المحتوى المقدم في الألعاب محتوى “نظيف”, بينما إذا كان المحتوى غير ذلك كانت هناك أضرارا أكبر مثل العدوانية والشهوانية وغيرهما من العديد من الأمراض النفسية, لتعرض الطفل/ الشاب لجرعة كبيرة من “الواقع الافتراضي”, الذي يشكل شخصيته بشكل ما!!
ومع ظهور هذه الإشكاليات بدء الجدال حول “أخلاقيات الألعاب”, فالألعاب وإن كانت ألعابا إلا أنه يجب أن تخضع –ككل شيء في الحياة- لإطار أخلاقي, وإلا ستتحول إلى أمر مدمر! ومن ثم بدء الحديث عن أضرار الألعاب القتالية والألعاب الجنسية! إلا أن انتاجها ظل مستمرا –كالتدخين- ولم يتوقف! ولأن كثيرين يرون الألعاب مجرد ألعاب, وطالما أن “استهلاكها” في حدود المعقول ولم تصل إلى درجة الإدمان, فهي من المقبول, ولا إشكال في أن يخرج الإنسان من واقعه قليلا ليرفه عن نفسه وليتذوق بعضا من الاستثارة!
وبغض النظر عن أن جرعة “الخيال” قد زادت كثيرا في عصرنا الحالي ووصلت إلى حد الزيادة المضرة, حيث تعددت روافده وتنوعت, بغض النظر عن هذا, أتوقف لأبين لأصحاب هذه الرأي “الإطار الأخلاقي” الموجود في الأعم الغالب من الألعاب حتى في ألعاب “القتل”! وكيف تكسره بعض الألعاب بعينها, ولماذا يجب التحذير من مثل هذه الألعاب بعينها:
رغما عن وجود العديد من الألعاب الافتراضية القائمة على قتل “آخرين”, إلا أن هذه الألعاب –غالبا- ما تقدم الآخرين باعتبارهم “أعداء”, وهم أعداء أشرار! ومن ثم فالإنسان في “مهمة” قتالية أو في حرب! والطبيعي أن يُقتل الأعداء الأشرار في الحرب! (ولهذا يمكن أن يُقتلوا, وفي ألعاب الأطفال: العسكر هم من يطاردون “الحرامية”).
إذا حتى في ألعاب القتال -وفي الخيال دوما- هناك “حدود” أخلاقية, فهناك مبرر مبطن وهو كون الآخرين: أعداء أشرار! لهذا لا نجد لعبة افتراضية –حتى الآن- يُطلب منك فيها أن تقتل والديك من أجل تجاوز مرحلة ما! فإذا حدث ووُجدت مثل هذه اللعبة فكيف سيكون شعور اللاعب وهو يقوم بهذا الأمر! وكيف سيكون شعوره بعد أن يلعبها مرات عديدة ويقتل والديه فيها خمسين أو مئة مرة؟ اعلم أنه مع العبثية الحالية, أصبح يقدم الأشرار أحيانا باعتبارهم الأبطال ويُتعاطف معهم!! ولكن هذا مما يُنتقد وبشدة من الأكثرية, ولا يتقبله ولا يستمتع به إلا من قضوا شوطا كبيرا مع ألعاب القتال, وأصبحوا يبحثون عن متعة جديدة! ومن ثم لم يعد لديه مشكلة –أخلاقيا- أن يتقمص شخصية المجرم!
إذا فالإطار الأخلاقي يكون حاضرا –لا شعوريا- عند الإنسان “الطبيعي” وهو يمارس أي لعبة افتراضية, فالمرأة غير العاهرة لا تقبل أن تمارس الجنس في لعبة افتراضية ما لتتجاوز مرحلة معينة أو لتحصل على عدد من النقاط! لأنها سترى أنها بهذا قد “باعت” نفسها ولو بشكل افتراضي! وإذا حدث وتقبلت امرأة مثل هذه اللعبة, هل تعتقد أن الحاجز بينها وبين ممارسة الجنس بمقابل في الواقع سيظل صلبا كما كان سابقا؟! وهل تعتقد أن من تمارس الاستمناء متخيلة نفسها في أحضان رجل ما, ستكون قوية في مواجهته في عالم الواقع!
ولست أدري صراحة تبعا لمنطقهم ما المانع إذا من لعب الألعاب الجنسية الافتراضية “باعتدال”, طالما أن الشاب سيمارسها لنصف ساعة يوميا مثلا؟! وبنفس المنطق ما الإشكال في ممارسة الجنس الكلامي مع طرف آخر على الهاتف باعتباره نوعاً من اللعب؟!! ومن ثم فما لا مبرر لك لفعله في عالمك الواقعي لا ينبغي أن يكون له مبرر/ تأول لممارسته كلعبة!
واعلم يقينا أن ممارسة أي لعبة لمرة أو لمرات لن يغير قناعات الإنسان ولن يغير من شخصيته, ولكن ممارستها لعشرات ومئات المرات كفيل بهذا يقينا!
ونذكر هنا بأن الإطار الأخلاقي كان ولا يزال طيلة التاريخ المدرك للبشرية حاضرا مع الإنسان في “تخيله” حتى الآثم منه,
, فالإنسان قد يتخيل عند القيام بالاستمناء أنه يمارس الجنس مع “فتاة/ امرأة” ما, ولكنها لن تكون ابنته مثلا! ولن تكون زوجة أخيه! بل يحاول قدر الإمكان البحث عن امرأة مثيرة –بأفعالها قبل جسدها-!
يتصور أنه يمارس الجنس معها! إذ يصعب على الشخص أن يتصور نفسه يمارس الجنس مع امرأة محترمة خلوقة مهما كانت درجة إثارة جسدها!
ولنتذكر أنه في بداية مرحلة انتاج أفلام “البورنو” كانت تلك الأفلام تقدم محتوى “خياناتي”!! حيث المشاهد تجسد علاقات خيانة أو علاقات عابرة مع أي أحد, ولم يكن متصورا تقديم أفلام جنسية داخل الأسرة, لرفض “المخيال العام” مثل هذه العلاقات.
أما الآن ومع الانفتاح الكبير وكون مثل هذه الأفلام لم تعد تُقدم جديداً بدء البحث عن الجديد, ومن ثم تم تجاوز هذه الحاجز الأخلاقي وأصبحت الأفلام تُقدم علاقات جنسية مع زوجة الأب والأخت من الأب أو الأم –وبعد فترة ستُقدم مع الأم نفسها ومع الأخت الشقيقة-!!
وكان من يشاهدها في بداية نزولها يجد الأمر مقززا وغالبا لا يكمل مشاهدتها ويتحول إلى غيرها! وبعد فترة أصبحت مقبولة بل ويبحث عن مثل هذا الصنف من الأفلام!
إذا فالدورة “المختلقة” لصناعة الخيال, أنه يبدأ مؤطرا بإطار أخلاقي, ثم بعد ذلك يتم تجاوز هذه الإطار الأخلاقي بكثير من التأويلات والتبريرات والزعم بأنها “مجرد لعبة! وعند هذه المرحلة يتشابه المنتج “الافتراضي” في تأثيره مع المخدرات بدرجة كبيرة, بل يفوقها أثراً,
إذ أن المخدرات لا تؤثر على “تفكير” وقناعات الإنسان في حالة اليقظة, بينما يظل تأثير هذا “الواقع الافتراضي” حاضرا مشكلا دافعا محركا! وإذا كان قد قيل: قل لي ماذا تأكل أقل لك من أنت! فيقينا: قل لي ماذا تلعب –باستمرار- أقل لك من أنت!
لهذا من حقنا أن ندق أجراس الخطر بشأن هذه الألعاب الافتراضية بشكل عام, إذا يجب أن يُراقب المحتوى المقدم فيها, ويُحدد بصرامة الوقت المضيع في لعبها, ويُختار بعناية أيها يُسمح للأطفال أن يلعبون! وأن يُحذر وينبه بعلو الصوت من تلك الألعاب التي تهدم “أطرنا الأخلاقية”
, ويُدعى –تشريعيا- إلى تجريمها وتحريمها! للمحافظة على الأجيال القادمة, وحتى لا نجدهم قد ضاعوا في بحار .. الوهم والوهن!!
ومن واجبنا كذلك أن ننبه إلى ضرورة إعادة “تقييم” هذه الألعاب وأضرارها! وكيف أنها كظاهرة جديدة مثل السجائر, وكيف أن من كانوا يدخنونها قبل أقل قرن من الآن كانوا لا يرون فيها ضررا ويسخرون ممن يحذرون منها! وكيف أنكم ستكتشفون بعد عقود من الآن كيف أن أضرار هذه الألعاب كارثية, وربما نجد في يوم من الأيام مكتوبا على “اسطوانات/ رقائق” هذه الألعاب:
“هذه الألعاب ضارة جدا بالصحة وقد تؤدي إلى .. العته”!
شاهد أيضاً
نقد رفض التعقل
من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …