حول الزمان المركب

هل يمكن السفر إلى المستقبل أو العودة إلى الماضي؟!
اختلفت الإجابات لهذا السؤال بين مثبت ونافٍ، وأنا من الجازمين بالنفي، وذلك لأني أومن أنه لا وجود فيزيائي للزمن!! وأن ما نسميه الزمان هو نوع من التجريد الذهني التوافقي* ، وهو تقسيمٌ اعتباري من البشر للتقسيم وللتحديد، متى حدث أو سيحدث الفعل الفلاني، هل قبل أو بعد أو عند كذا، وبدون وجود البشر فلن يوجد “زمان”!!

وبغض النظر عن أن العدم الفيزيائي للزمان، سيثير الكثير من التساؤلات حول دقة النظرية النسبية وحول مصطلح “الزمكان”، فإننا سنتوقف حول تصور البشر ل “الوجود الزماني”، فنقول:
هناك من رأى أن الزمان لا يوجد إلا ك “حاضر” فقط، فهناك دوما لحظة دائمة مستمرة نشعر بها ونعيشها، وما نسميه الماضي كان في وقت ما هو الحاضر، وما ننعته بالمستقبل هو تلك اللحظة/ اللحظات التي سنعيشها في يوم ما، فتكون هي حاضرنا.
(وهذا الرأي ربط الزمان بمشاهدة وإدراك ومعايشة الإنسان، ومن ثم فبدون إنسان فلا زمان، فالإنسان الذي سقط في غيبوبة ليومين أو لأسبوع ثم استيقظ كان “حاضره” قد انقطع ثم عاد ذلك الحاضر للاستئناف مرة أخرى، ومن ثم فهناك حاضر مستمر وهناك حواضر مستأنفه)

وهناك هناك من يرى أنه لا وجود للحاضر في الزمان، وإنما هناك ماض ومستقبل، فعندما تقول “الآن” مثلاً يكون الوقت الذي قيلت فيه قد انقضى!!
وهذا التصور نظر إلى الزمان باعتباره –كباقي الكائنات- مكون من جزيئات بالغة الصغر، ولأن الإنسان بقدراته الطبيعية عاجز عن إدراك هذه الجزئيات والإحساس بها، قيل بهذا التصور! ونلاحظ أن هذا التصور ربط الزمان كذلك بالإنسان، وبشكل أدق بمحدودية الإحساس الإنسان، ومن ثم جعل الإنسان بين ماض ومستقبل!!
وهذا التصور من عجيب الفكر، فإن قلنا إن هناك اتجاهين للزمان، فهذا يعني حتما أن هناك “شيء” ما في المنتصف يتحرك إلى هذا الاتجاه أو ذاك أو إليهما، إنما إذا لم يكن هناك شيء/ جزيء، فما هو الذي “مضى” وانقضى وما هو الذي سنستقبله؟!!
إن هذا التصور قد صغر “الآنية” حتى ألغاها، بينما هي عند كل الناس أكبر من هذا بكثير، فالآنية/ الحاضرية عند كل الناس قد تكون ثوان أو دقائق أو ساعة أو أكثر! بينما لم تعن أبداً لديهم جزيء من جزيء من جزيء من الثانية.

فإذا تركنا الوجود الزماني وانتقلنا إلى تصور “سريان” الزمان، فنقول:
لا أعتقد أن أحداً من البشر تصور الزمان ساكناً، نظرا لارتباط الزمان عند الناس بحركة الأجرام السماوية، وتحديداً الشمس –وربما: القمر-، فهناك فجر وصباح وضحى وظهر وعصر ومساء وليل! وإنما تصوره كل الناس متحركا أو سائرا وأنه “يأتي” أو “يحل”، والاختلاف كيف تصورت البشرية حركة الزمان، ففي العقل العربي تم الربط بين “الزمان” والماء، فتصور العرب حركة الزمان كنوع من الانسياب أو الجريان، لاحظ: “يوم .. يم، فجر .. فجرنا الأرض عيونا، نهار .. نهَر، ساعة .. سوع”.
وهناك من تصور حركة الزمان ككائن سائر إلى الأمام، بغض النظر عن تشبيهه بالسهم المنطلق أو خلافه، وذلك لأنه لا يأتي إلا بالمستقبل “الجديد” –هل هو جديد فعلا؟!- بينما لا يعود الماضي أو لا يعود الناس إلى الماضي قط! ومن ثم فهناك “بداية” لهذا الزمان، لحظة معينة ابتدأ معها الزمان، ولم يكن قبل هذه اللحظة قبل.
(وهو مثل ما قال به عبقري “زمانه” الإمام الغزّالي، عندما قال إنه لم يكن هناك زمان قبل خلق السماوات والأرض، وأن الزمان ابتدأ مع خلق السماوات وحركة الأجرام).

وهناك من تجاوز النظرة القصيرة للزمان، وحاول أن يقدم نظرة أوسع وأكبر، -وهي نظرة مستقاة كذلك من دورة زمنية صغرى!! كما تعاقب الليل والنهار، وكما أن القمر يأخذ العديد من المنازل والتي تشكل بمجموعها “شهرا”، والتي ما أن ينهيها حتى يعود ويأخذها مرة أخرى بادئا شهرا جديدا-، فهناك من تحدث عن العود الأبدي، حيث زعم أن هناك دورات زمنية كبيرة، تنتهي واحدة منها، ثم تبدأ دورة زمنية كبيرة أخرى، والتي تنتهي كذلك وهكذا، إلى ما لانهاية، وهناك من رأى أن صورة الزمان هي صورة لولبية ممتدة إلى الأبد.

بهذا التطواف مع تصور الزمان، والذي رأينا فيه “نسبية” الزمان، وتحديداً ارتباط الزمان بالإنسان، وأنه هو وحدة قياسه، يمكنني أن أقدم تصورا إضافيا نسبياً إنسانيا للزمان، فأقول:
إن اللحظة الزمنية الواحدة يتنازعها الماضية والحاضرية والاستقبال، فماضي أحدهم هو حاضر غيره ومستقبل ثالث ونهاية الزمان لرابع تبعا لدورة الحياة العمرية للأفراد، وأوضح فأقول:
إن الإنسان يمكنه أن يرى الحاضر والماضي والمستقبل، ولكن بالنسبة له ولغيره من البشر، فبالنسبة للرائي فإنه يرى دوما حاضره فقط –وحاضر جيله وأقرانه-، بينما تبعا لمرحلته العمرية يمكنه أن يرى ماضي ومستقبل غيره، فالشاب الثلاثيني مثلا يرى ماضي الطفل ذي العشر سنوات، (والذي يرى ويعش حاضره!!)، وبعد عشرين عاما، سيرى ذلك الكهلُ ذلك الطفل وقد صار رجلاً ثلاثينياً، وقد يظل ذاكرا لطفولة/ ماضي هذا الرجل وماذا كان يفعل في طفولته، وإذا عكسنا المنظور فإن هذا الطفل قد رأى مستقبل هذا الرجل (حيث رآه في المرحلة المتأخرة من حياته، وإذا رأى شخصا يموت، فإنه يرى نهاية/ توقف الزمان بالنسبة لذلك الشخص.

إذا ففي اللحظة الواحدة يتجسد/ يتحقق مستقبل بعضنا وحاضر غيرنا ومبتدأ/ ماضي ثالثنا، والتي يختلف فيها مع كل شخص إحساسه بالزمان وبمروره، فالزمان عند الأطفال بطيء المرور، بينما مع كبر الشخص وكهولته، يشعر الإنسان أن الزمان ينقضي بسرعة، وتختلف كذلك أهمية الزمان وإتاحته بالنسبة للشخص، فالطفل لا يرى أهمية تذكر له، ويشعر أنه لا يزال أمامه الكثير والكثير من الزمان، بينما يعلم الكبير أن ما بقى هو في الأعم الغالب أقل مما مضى، ومن ثم تزداد قيمة الزمان لديه والحرص عليه.
وهكذا هو الزمان، سريع بطيء ثمين رخيص، طويل قصير، حاضر ماضٍ مستقبل، تبعاً للراقب له أو للمعرض عنه.


  • هو مثل تجريد الأعداد، والتي لا وجود لها في الواقع، فلا وجود للعدد واحد في الطبيعة ولا 2 ولا 10، وإنما هناك رجل واحدة وطفل واحد وامرأة واحدة وشجرتان اثنتان وهكذا، وهو كذلك مثل تجريد “المسافة” أو “المساحة”، فلا وجود للمسافات في الواقع، وإنما هناك تقسيم اعتباري لتحديد الفارق بين نقطة وأخرى .. وهكذا.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

الإسقاط الإمبريالي: وأثره على الأقليات المسلمة في أوروبا في ظل تنامي اليمين السياسي

يعرف الإسقاط  النفسي على أنه حيلة دفاعية-هجومية يسقط من خلالها الشخص رغباته المنحرفة وعيوبه على …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.