نهاية التاريخ … الإسلامي!

قبل ما يزيد عن عقدين من الزمان وتأثراً بانتهاء الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا وبعد انهيار جدار برلين كتب المفكر الأمريكي –ذو الأصول اليابانية- فرانسيس فوكوياما كتابه الشهير “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”, والذي انتصر فيه لليبرالية الديمقراطية, حيث قال أن ما تشهده البشرية ليس مجرد نهاية للحرب الباردة, وإنما هي نهاية للتاريخ الإنساني! فليس في الإمكان أبدع مما كان في النظام السياسي! فلقد مرت البشرية بأشكال عديدة من الحكم, حتى وصلت إلى “الديمقراطية”, وهي أفضل شكل للحكم, استطاع القضاء على الصراع بين “السادة والعبيد”, وكذلك استطاع توفير “مناخ اقتصادي” سليم, ومن ثم فليس هناك فرصة للاشتراكية أو الشيوعية في مواصلة المنافسة, ومن ثم فالمستقبل ل … الديمقراطية!
وبعيدا عن الألقاب الرنانة والمنزلة التي يُنزلها بعض “العلماء” أو المفكرين, فإن مجرد إطلاق دعوى “ليس في الإمكان أبدع مما كان” أو “ما ترك الأولون للآخرين من شيء” فإن هذا يدل على ضيق أفق ورغبة في التضييق على الآخرين, فإذا كان فوكوياما أعلن أنه لا يمكنه أن يتخيل عالما بديلا عن عالمه يقدم مستقبلاً أفضل, ومن ثم فإن التاريخ قد انتهى!! فمن أدراه أن الآخرون لن يستطيعوا أن يتخيلوا أو لن يستطيعوا أن يطوروا من أنظمة الحكم “غير الديمقراطية” الموجودة لديهم, أو أن يقوموا بمزجها مع الديمقراطية للخروج بنظام أفضل!! إن هذه الدعوى هي بالضبط مثل الزعم بأنه لا يمكن ابتكار “مواد كيمائية” جديدة!! وبديهي أي خلط لمادتين سيُنتج مادة جديدة لا محالة! ناهيك عن إمكانية بعض الإضافات إلى المادة ذاتها لإكسابها بعض السمات الجديدة!! ومن ثم فهي دعوى خرقاء يسخر منها أي طالب إعدادي!! إلا أنها وبكل عجب في مجال السياسة وجدت صدى وانتشاراً كبيرة ويُنظر إلى مُطلقها على أنه من كبار “مُنظري” وأساتذة السياسة!!

وبغض النظر عن أن هذه الفكرة ليست جديدة وإنما هي امتداد لأطروحات فلسفية سابقة, مثل أطروحة “الاعتراف” عند الفيلسوف الألماني هيجل, وأطروحة “الإنسان الأعلى/ السوبرمان” عند لاحقه نيتشه, بغض النظر عن هذا كله فإن فريقا من المسلمين سبق فوكوياما في إطلاق هذه الدعوى بقرون طويلة مع اختلاف الأسماء, فهو لم يعط لدعواه ذلك الاسم الرنان وإن كان المحتوى واحد!! وهذا الفريق هو التيار السلفي!
فتبعاً لأدبيات التيار السلفي فإن “نهاية التاريخ الإسلامي” -وعلى النقيض من الديمقراطية والتي جاءت بعد تجارب سابقة- كانت مبكرة جداً, فكانت التطبيق الأول للإسلام, ومن ثم شكلت تجربة وجيل السلف نهاية التاريخ الإسلامي, فهي وهم الأشكل الأفضل والأمثل للإسلام الذي لا يمكن أن يأتي ما هو أفضل منه, وعلى الأجيال التالية الاقتداء بهم وتقليدهم, ويظهر هذا جليا في شعارهم الشهير: “قرآن وسنة بفهم سلف أهل الأمة”, ومن ثم فلم يعد دور الأمة هو التفاعل مع الكتاب وإنزاله على واقعها تبعاً لما تحتاج, كما قال منزل الكتاب: “كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [صـ : 29]”, وإنما أصبح الحال أن الله أنزل الكتاب ليتدبره السلف ويطبقونه وعلى الأجيال اللاحقة تقليدهم!
ولا يزال حتى يومنا هذا من يقاتل ويضيع عمره في جدالات نظرية وتنظيرية لرد الأمة إلى تلك “المرحلة المباركة”! غافلاً عن أنه بفعله هذا يقدم دليلاً عملياً على أن الإسلام غير صالح لكل زمان ومكان, وإنما صالح للمرحلة “الأولى” فقط, وبدلاً من أن يكون في الدين قابلية للتكيف مع مختلف الأمصار والأعصار, فإنهم يبذلون الجهد لإعادة وإعاشة الناس في تلك المرحلة! وهو أمر تُستنزف فيه الجهود والأموال والأعمار بل والدماء, من أجل “إعادة عجلة التاريخ للوراء”, وهو أمرٌ محال, إن قُبل من طوائف قليلة محدودة الفكر فإن الأكثرية الساحقة من المسلمين لا يتقبلون هذا لا عقلاً ولا قلباً!

إن دعوى “نهاية التاريخ” في المجال الديني أشد خطرا وضرراً منها في الجانب السياسي, فهي في الجانب السياسي مجرد نظرية ما ستستمر كل الحكومات في تطبيق سياساتها بالرغم منها, بينما هي تعني في الجانب الديني أن يُدخل التاريخ في الدين, بحيث تُكسب مرحلة زمنية معينة بظروفها وإشكالياتها وأشخاصها قداسة دينية! فلا يجوز ولا ينبغي أن يُنقد أفرادها, وإنما يُعطون مكانة أعلى مما لغيرهم! وهو مما يُعطي غير المسلمين إمكانية يسيرة لنقد الدين, عبر اقرار المسلمين باعتبار أفعال هؤلاء السلف التطبيق الأمثل للدين, ومن ثم يُوضع الدين في موقف المدافع عنه!!
وليست المشكلة بالمقام الأول في الطعن في الدين, وإنما في دور المسلم اللاحق/ المعاصر في الدين, فإذا كان المسلمون الأول قد حققوا نهاية التاريخ, فما دوره إذن؟ هل هو مجرد التقليد وإجهاد نفسه في تطبيق الدين؟! إن هذا ضارب للدين في مقتل عند المسلمين, فلم يعد الدين ذلك “المحي المحرك” الذي يحيي القلب ويؤثر فيه, وإنما يحوله إلى مجموعة من الطقوس والشكليات التي عليهم القيام بها, وهم بالفعل يقومون بها ولكنها لا تؤثر فيهم!!
نعم هناك ثوابت في الدين لا تتغير عبر العصور, ولكن هناك الكثير والكثير من الشكليات التي يجب يجب أن تُقدم بشكل جديد, حتى يبقى الدين حياً وهاجاً ولاعباً رئيساً في المجتمع حتى لا يتم تهميشه كما حدث في المجتمعات الأوروبية.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

عن المشهد التربوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.