سورة التغابن وإخماد التمرد

سورة التغابن اختلفت كتب أسباب النزول فيها, فقيل أنها مدنية وقيل مكية وقيل مكية مدنية, أما نحن فنقول أنها مدنية وأنها مما تأخر نزوله في المدينة (ونميل إلى أنها نزلت قبل الحديد!)

وفي تلك الفترة (كما بيّنا سابقا في تناولنا لسورة الحديد) كان المسلمون في عسر وضيق لمصيبة نزلت بهم, وكان بعض أهل الكتاب قد دخلوا حديثا في الإسلام ولما يتوطن الإيمان في قلوبهم, ولمّا أُمر المسلمون بالإنفاق, حرضت بعض الأزواج والأبناء أزواجهم وآباءهم على عدم الاستجابة والسمع وعلى عدم الإنفاق

فأنزل الله تعالى سورة التغابن محذرا من التولي عن الرسول (وهو المحور الذي تدور السورة في فلكه) ومن السماع للأزواج والأولاد, معلماً أنه عليم بالسرائر(ومن باب أولى ما يدور داخل بيوتهم) وأنه غني حميد وأن عليهم السمع والطاعة والإنفاق.


والاتصال بين السورة والسورة السابقة جلي, وهي بمثابة امتداد للمنافقون فلقد دارت سورة المنافقون في فلك التحذير من أعداء رئيسين (المنافقون) وعرضت عرضا لأعداء “فرعيين”: والأموال والأولاد, وهنا فصلت السورة بشأن هذا العدو الفرعي, فحذرت من الاستجابة للأزواج والأبناء والتولي عن الرسول وبينت أن الأموال والأولاد فتنة.

ونبدأ في تناول السورة لنبين كيف قالت بهذا التصور:
بدأت السورة بالإعلام بأن كل ما في السماوات والأرض يسبح لله وأن له الملك والحمد (ومن ثم فهو ليس بحاجة إليكم) وأنه هو الذي خلقكم وأحسن صوركم وأعطاكم الحرية (فقد يكون في داخل الأسرة الواحدة كافر ومؤمن) وهو بصير بما تعملون وما تسرون وما تعلنون وإليه المصير.
ثم تعجب السورة من كفر بعضهم فتقول ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبلكم ذاقوا وبال أمرهم (فلماذا تظنون أنكم استثناء وأن الله لن يستطيع أن يستغني عنكم ويهلككم؟ فإذا كان الأمر كذلك) فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا فالفوز هو لمن يكفر عنه سيئاته ويدخل الجنات وأصحاب النار هم الكافرون

ثم تبين السورة أن أي مصيبة تنزل تكون بإذن الله (فلا يحدث شيئ خارجا عن إرادته فلا تجزعوا بسببها فمن يؤمن بالله يهد قلبه ويصبر):


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)

ثم تأمر بالطاعة وتبين أنها في الواقع لله فالرسول مبلغ فقط, وعليه يتوكل المؤمنون, وعليهم أن يحذروا من أزواجهم الذين يحرضونهم على عدم الطاعة وعدم الإنفاق (فلا يضيعوا أنفسهم من أجل أفراد لن ينفعوهم في اليوم الآخر), وتأمرهم بالتقوى والسمع والطاعة والإنفاق وأن الله سيضاعف لهم القرض الذي سيقرضونه, عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم:


وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

ونسأل القارئ أن يعيد قراءة السورة مرة أخرى فسيفتح الله عليه فيها ما لم نذكر نحن, إنه هو الفتاح العليم والحمد لله رب العالمين.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.