ضلال العقيدة

“فلان عقيدته غير سليمة”
“لا تسمع ولا تقرأ للشيخ فلان فهو ضال العقيدة”
“هذا الكتاب فيه ضلالات عقيدية”
“هذه فرقة ضالة ليست من فرق أهل السنة والجماعة”
جُمل نسمعها كثيراً في الدروس والخطب الدينية -من أتباع المذهب السلفي تحديدا- وكذلك عند النقاشات بشأن عالم ما أو كتاب ما, وتُلقى هذه الجمل للتحذير من أفكار يقدمها ذلك الكتاب أو ذاك الكاتب.
ولا يختلف الحال درجة مع “ضال العقيدة” عن “المبتدع”, فربما يُتسامح مع “ضال العقيدة” إذا كان من فرق المذهب العام “أهل السنة” مثلاً, فكان أشعرياً أو “إخوانيا” فهم أشعرية وصوفية في عين الوقت وهذا ضلال كبير, أو من فرقة شيعية أخرى عند الشيعة, بينما يُنظر إلى أتباع الفرق الأخرى مثل السنة/ الشيعة, أو الإباضية على أنهم ضالون ضلالاً كبيرا, يكاد يكون ضلالاً كفريا يخرجهم من الملة, فهم حتماً ليسوا من أتباع “الفرقة الناجية”.
والمشاهد أن أغلب المتصدرين للعمل الإسلامي يتقبلون الخلاف في الجانب العملي من الدين “الأحكام/ الفقه”, بينما لا يتقبلون الخلاف في جانب الإيمانيات/ العقيدة, ويرون أي اختلاف عن الرأي الذي يقولون به هو ضلال, وهكذا أصبحت “الإيمانيات” أداة تفريق بين المسلمين بدلاً من أن تكون رباطا جامعا, ومن ثم وجدنا من يقول بكفر من يقول ب “خلق القرآن”, ومن يقول بأنه لا يجوز الصلاة خلف من يقول بأننا لن نرى الله في اليوم الآخر.

وكما بيّنا في مقال البدعة أنه من غير الممكن حدوث اتفاق في الأفهام للنصوص وأنه يظهر دوماً تفسيرات عديدة للنصوص تتفاوت بين أقصى اليمين واليسار, ويكون هناك دوماً “وسط” متفق عليه بين الأكثرية العظمى, لأسباب لغوية وتاريخية عدة. وهو ما كان بين المسلمين, فحدث الاتفاق بينهم على الأصول واختلفوا في الفروع, فأركان الدين وأصول الإيمان متفق عليها بين المسلمين جميعاً تقريباً, فكل المسلمين يؤمنون بالله وباليوم الآخر وبالملائكة وبالكتب وبالرسل, وهي ما أكد عليه القرآن في أكثر من آية وطلب إلى المسلمين الإيمان به وبيّن أن الكفر به هو ضلال بعيد: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً [النساء : 136]”
فبنص الكتاب هذا هو ما يجب على المؤمنين الإيمان به, وما سواه هي قضايا ستختلف الأفهام فيها لا محالة, لأنها ليست القضايا الرئيسة للدين, فهي ليست من غايات الدين! وإنما جزئيات! ولكن المشكلة أن العقيدة بعد أن كنت بسيطة واضحة لكل مسلم, وبعد أن كانت دافعاً, كبرت وتشعبت وتعقدت, وأصبحت الجزئيات كالكليات, وأصبح ما جاء في روايات مختلف في تصحيحها وتضعيفها من الإيمانيات, بل وبكل عجب أضيفت “حوادث تاريخية” إلى العقيدة, فأصبح من الواجب على المسلم أن يؤمن أن خير الصحابة بعد الرسول أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي, وكذلك الحكم على الصراعات التاريخية بين الصحابة بعد الرسول أصبح من العقيدة, وكذلك أصبحت الإمامة عند الشيعة من العقيدة!!
ومن ثم أصبح على المسلم وبكل عجب أن يحدد له العلماء ما عليه أن يؤمن به, بل وأصبح أمرا طبيعيا مقبولاً أن تُتعلم العقيدة!! والمفترض في العقيدة أن تُغرس في قلوب المتلقين, لا أن تُحشر في عقول دارسين! وبدلاً من أن يكون هذا هو مسعى “المشائخ”, أي ترسيخ أصول الدين عند المتلقين, أصبح كل همهم الكتابة والتأليف في مسائل فرعية لا تهم “العوام” بأي حال من الأحوال ولا تشغل بالهم, ومن ثم لم يقرب هذه الكتب إلا الدارسين للدين! ظناً منهم أن أصول الدين راسخة عند كل المسلمين! ثم كانت الصدمة الكبرى في سنواتنا الأخيرة هذه عندما وجدنا أن عدد الملحدين في مجتمعاتنا العربية أصبح بالملايين.

وبكل عجب لا يزال “المشائخ” مستمرين في جدالاتهم العقيدية بشأن مسائل لا تهم أحد إلاهم!! يظنون أنها من الدين, وينسون أو يتغافلون عن أنها وبكل وضوح ليست أكثر من “تفسيرات” وأفهام للدين, وليست هي النص نفسه! ولكن الحاجز بين النص والتفسير عند المشائخ هو “حاجز وهمي” لا يكاد يوجد, ففهم مشائخ الفرقة هو النص لا محالة, وليس ثمة إمكانية أخرى لفهمه.
وينسى هؤلاء أن الرسول الكريم لم يكن يسأل من يسلم عن “عقيدته”, ولا كان أحد من الصحابة يفعل, لأنه من المفترض أن من دخل في الدين آمن بالله الواحد وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر, ولكن لما ظهرت نقاشات “فلسفية” في مرحلة مبكرة من انتشار الدين بشأن مسائل معينة كانت هي الشاغل لأفراده, مثل علم الله والقضاء والقدر والأجل وخلق أعمال العباد والوعد والعيد, وكان لعلماء مثل علماء المعتزلة والفلاسفة آراء فيها غير ما قال به علماء مدرسة الحديث, واستُدل على أقوال كل فريق منها بالقرآن, أصبحت هذه التفسيرات لآيات مقتطعة من سياقها من الدين هي الدين.

ولا يزالون مستمرين في إطلاق أحكامهم على الآخرين بالتضليل والتفسيق والتكفير, غاضين الطرف عن أنهم –بتوجهاتهم هذه- أصبحوا مستنكرين عند العامة –المثقفين-, وأصبحوا يرونهم بمثابة ثقل وعبأ على المجتمع, لا يقدم له أي نفع, ولا يلعب أي دور سوى إثارة المزيد من القلاقل والشقاق بين أفراده وبين المجتمعات الأخرى, فهذه القضايا لا تشغل بالهم بأي حال من الأحوال.
ناهيك عن أن “تقبل المخالف” أصبح من الأمور الراسخة عند أكثر البشرية الآن, ومن ثم لم يعد مقبولاً إثارة هذه المعارك والأوصاف مع المخالف لاختلاف في الفهم! ولم يعد مقبولاً التضليل لمفردة مستخدمة في غير موضعة!! ولو اتبعنا مثل هذا المسلك لرأينا أن مصطلح “العقيدة” نفسه مبتدع! فهو لم يُذكر في القرآن ولا في السنة ولا أقوال الصحابة!!
في الختام أقول: بشكل عام كان منهج التعامل مع العقيدة منهجاً غير قويم, ولو تم تناولها وتقديمها بشكل مغاير لأثمرت ثماراً مفيدة نافعة! ولكن هذا ما سنبينه في مقالنا القادم.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

مناقشة كتاب عقائد الإسلاميين جزء ٢

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.