عكوف أم مجاورة؟!

حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن سبيل من سبل التقرب إلى الله الحبيب, وهي: “العكوف في بيوته”! تلك العبادة التي أصبحت معروفة بين المسلمين بشكل واحد وباسم واحد, وهو: الاعتكاف!
تلك العبادة التي فُرغت من مضمونها أو كادت! فإذا نظرنا في كيفية تطبيق المسلمين لها في زماننا هذا أصبحنا أنها أصبحت “مجاورة” أو “اعتزال” بدون تحقيق العكوف, أو حتى الاعتكاف بحال!!

وحتى يتبين للقارئ ما نقصد بأن الفعل لم يعد عكوفا, نبين له ما هو مدلول العكوف في اللسان!
فإذا نظرنا في معجم لسان العرب, ألفينا ابن منظور يقول:
“عَكَف على الشيء يَعْكُفُ ويَعْكِفُ عَكْفاً وعُكوفاً: أَقبل عليه مُواظِباً لا يَصْرِفُ عنه وجهه، وقيل: أقام؛ ومنه قوله تعالى: يَعكفون على أَصنام لهم، أَي يُقيمون؛ ومنه قوله تعالى: ظَلْتَ عليه عاكفاً، …….. وعَكفَتِ الخيلُ بقائدها إذا أَقبَلَت عليه، وعَكَفَتِ الطيرُ بالقَتِيل، فهي عُكُوف؛ كذلك أَنشد ثعلب: تَذُبُّ عنه كَفٌّ بها رَمَقٌ طيراً عُكوفاً، كَزُوّرِ العُرُسِ يعني بالطير هنا الذِّبّان فجعلهنَّ طيراً، وشبَّه اجتماعهن للأَكل باجتماع الناس للعُرْس.
وعَكَفَ يَعْكُف ويَعْكِفُ عَكْفاً وعُكوفاً: لزم المكان.

والعُكُوفُ: الإقامةُ في المسجد: قال اللّه تعالى: وأَنتم عاكِفونَ في المَساجد؛ قال المفسرون وغيرهم من أَهل اللغة: عاكِفون مُقيمون في المساجد لا يُخْرُجون منها إلا لحاجة الإنسان يُصلّي فيه ويقرأُ القرآن. ويقال لمن لازَمَ المسجد وأَقام على العِبادة فيه: عاكف ومُعْتَكِفٌ. ……… والاعتِكافُ: الاحْتِباس وعَكَفُوا حولَ الشيء: استداروا. …………. ويقال: إنك لتَعْكِفُني عن حاجتي أَي تَصْرفُني عنها. قال الأَزهري: يقال عَكَفْته عَكْفاً فعكَفَ يعكف عُكوفاً، وهو لازمٌ وواقعٌ كما يقال رَجَعْتُه فرَجَعَ، إلاّ أَن مصدر اللازم العُكوف، ومصدر الواقع العَكْف.

وأَما قوله تعالى: “والهَدْيَ مَعْكوفاً”، فإنَّ مجاهداً وعطاء قالا مَحْبوساً. قال الفراء: يقال عكفته أَعكفه عَكْفاً إذا حبسته.
وقد عَكَّفْت القومَ عن كذا أَي حبستهم.
ويقال: ما عَكَفَكَ عن كذا؟ وعُكِّفَ النظمُ: نُضِّدَ فيه الجوهرُ؛ قال الأَعشى: وكأَنَّ السُّموطَ عَكَّفَها السِّلْـ ـكُ بعِطْفَيْ جَيْداء أُمِّ غَزالِ أَي حَبَسها ولم يَدَعْها تتفرق.
والمُعَكَّف المُعَوَّجُ المُعَطَّفُ.” ا.هـ

ويقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة:
“العين والكاف والفاء أصلٌ صحيح يدلُّ على مقابلةٍ وحبس، يقال: عَكَفَ يَعْكُفُ ويَعْكِفُ عُكوفاً، وذلك إقبالك على الشَّيء لا تنصرف عنه. ….” ا.هـ

فكما رأينا فالعكوف هو الإقبال على الشيء وحبس النفس عليه! والكلمة من المستعمل في لغتنا الحديثة, فنقول: فلان عاكف على القراءة وطلب العلم!
فإذا سألنا أي مسلم: ما هو العكوف؟!
فسيستغرب أولا الاسم ثم قد ينتبه إلى أننا نقصد الاعتكاف!! فيقول أنه المكث في المسجد بنية ذكر الله والتقرب إليه! وأنه يكون غالبا في العشر الأواخر من شهر رمضان! ويجوز في غيره!

فإذا نظرنا في كتاب الله العظيم وجدنا أنه قد استعمل اسم الفاعل “عاكف” سبع مرات! واستعمل اسم المفعول “معكوف” مرة واحدة! ومن ثم فيكون فعله ثلاثيا, ومصدره “عكوف” ولست أدري لماذا اشتهر مؤدي هذه الطاعة بهذا الشكل “معتكف” والطاعة باسم “الاعتكاف” وليس بالشكل الأصلي له؟!!

فإذا نظرنا في المواطن التي ورد فيها العكوف في القرآن, وجدنا أن أول ذكر للعكوف كان مع الخليل إبراهيم, فنجد الرب العليم يقول:
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة : 125]
فيؤمر الخليل بتطهير البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود! وهم كما قال الإمام الفخر الرازي في تفسيره:
“فالمراد بالطائفين: من يقصد البيت حاجاً أو معتمراً فيطوف به، والمراد بالعاكفين : من يقيم هناك ويجاور، والمراد بالركع السجود: من يصلي هناك. والقول الثاني : وهو قول عطاء : أنه إذا كان طائفاً فهو من الطائفين ، وإذا كان جالساً فهو من العاكفين ، وإذا كان مصلياً فهو من الرجع السجود.” ا.هـ

وكما رأينا فالله تعالى يتحدث –هنا وفي الكتاب كله- عن العكوف, بصفته عبادة معروفة, يقوم بها الناس, ولم يأمر بها في الكتاب كله! وإن كان يُفهم من الحديث عنها أنها عبادة مقبولة حسنة وليست بالبدعة أو المستنكرة!

حتى أن الآية التي يستدلون بها على مشروعية الاعتكاف! وهي قوله تعالى:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة : 187]
نجد فيها أن الله تعالى لم يُشرع للمسلمين الاعتكاف في المساجد! ولا الرسول نفسه –حتى لا يقول قائل أنها مما جاءت به السنة!- وإنما هي مسلك قديم! من –قبل- أيام الخليل إبراهيم عليه السلام! حافظ الناس عليه ولم ينقطع أبدا!

كما نجد أن العكوف قد ورد بصيغة اسمية “عاكف” “معكوف”, ووردت الصيغة “عاكف” مرتبطة بحرفي الجر: على/ ل.
قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طه : 91]
لن نترك العكوف عليه حتى …
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً [طه : 97]

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء : 52]

قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ [الشعراء : 71]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج : 25]

فنخرج من هذا أن الإنسان يعكف على الشيء, ويعكف له! فالعكوف على الشيء يفيد الإقبال والانكباب عليه وفعله! بينما العكوف للشيء يعني الانقطاع عن غيره من أجله, بينما قد لا يكون الإنسان يفعله في هذه اللحظات!!
فعندما أقول: أنا عاكف للبحث العلمي! يعني أني متفرغ له! بينما قد لا أكون أقوم به في عين الوقت!!

مع ملاحظة أن مواطن ذكر العكوف في القرآن لم تأت إلا مع المقدسات! فلقد وردت مع البيت الحرام والمساجد! والآلهة الباطلة عند غير المسلمين, فلم تستعمل مرة واحدة مع الأمور الدنيوية, فهل يكون في هذا إشارة إلى ارتباط العكوف بالذكر والعبادة؟!!

إلا في موطن واحد فقط, جاءت بصيغة فعلية وهي قوله تعالى:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف : 138]
ويبدو والله أعلم أن استعمال الصيغة الفعلية هنا للإشارة إلى أن حالهم وديدنهم أنهم كانوا يعبدون الأصنام! ولو استعملت صيغة اسم الفاعل “عاكفين” لكان المعنى أنهم وجدوهم على هذا الوضع عند العبور, وذلك مثل قولي:
أتيت قوماً نائمين بالنهار! وأتيت قوما ينامون بالنهار! … والله أعلم!!

فكما رأينا فالعكوف هو حبس النفس على فعل شيء والإقبال عليه! ومن ثم فإن مجرد البقاء في المسجد لا يُسمى عكوفا! وإنما يكون العكوف هو الإقبال على الذكر وعلى الصلاة وقراءة القرآن!!

فإذا تساءل القارئ: وماذا يُسمى البقاء في المسجد إذن, إذا لم يكن يُسمى “اعتكافا”؟!
قدمنا له الإجابة, والتي تبين كذلك من أين أتت كلمة “اعتكاف” والتي من أجلها تراجع استعمال المفردة القرآنية “عكوف”!

إذا نحن نظرنا في سنن النسائي وجدنا يورد رواية يقول فيها:
“عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الذي في وسط الشهر,فإذا كان من حين يمضي عشرونليلة ويستقبل إحدى وعشرين يرجع إلى مسكنه ويرجع من كان يجاور معه, ثم أنه أقام فيشهر جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجع فيها فخطب الناس فأمرهم بما شاء الله ثم قال:إني كنت أجاور هذه العشر ثم بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر فمن كان اعتكف معيفليثبت في معتكفه وقد رأيت هذه الليلة فأنسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر في كلوتر ……….”

فكما رأينا فالصحابي أبو سعيد الخدري يتحدث عن مجاورة الرسول الكريم, وأن هناك من كان يجاور معه! وفي الرواية يقول الرسول أن من كان قد اعتكف معه فليثبت!

فإذا نظرنا في نفس الرواية عند البخاري نجد أن ألفاظها قد تغيرت, فنجد أنه قد استبدل “الاعتكاف” بالمجاورة, فنجده يقول:
“عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ قَالَ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا …..” ا.هـ

ولا يقتصر الأمر على هذه الرواية, وإنما يمتد إلى كثيرٍ غيرها من أقوال الصحابة والتابعين, فنجد أنهم كانوا يغايرون بين الجوار والاعتكاف, فيستعملون هذا مكان ذاك! وذاك محل هذا! وإن كان هناك من لفت انتباهه اختلاف الأسماء! ومن ثم فالراجح أن يختلف المسمى!

فإذا نظرنا في مصنف الصنعاني, وجدنا فيه كثيرا من الروايات التي يُستخدم فيها “الجوار” مكان “الاعتكاف” والعكس, حتى في عنونه الأبواب وما يُدرج تحتها:

“عن بن جريج قال قلت لعطاء: أرأيت الجوار والاعتكاف أمختلفان هما أم شيء واحد؟ قال: بل هما مختلفان, كانت بيوت النبي في المسجد فلما اعتكف في شهر رمضان خرج من بيوته إلى بطن المسجد فاعتكف فيه. قلت له: فإن قال إنسان علي اعتكاف أيام ففي جوفه لا بد؟ قال: نعم وإن قال علي جوار أيام فببابه أو في جوفه إن شاء.

(فكما رأينا فإن محاولة عطاء التفرقة بين الجوار والاعتكاف اقتصرت على الجوف والباب, أي على المكان ليس أكثر! وليس الأمر كذلك كما سنرى!)

8004 عبد الرزاق عن بن جريج قال وقال عمرو بن دينار: الجوار والاعتكاف واحد.
8005 عبد الرزاق عن فضيل عن ليث عن مجاهد قال: الحرم كله مسجد يعتكف في أيه شاء وإن شاء في منزله إلا أنه لا يصلي إلا في جماعة. (………..)
باب لا جوار إلا في مسجد جماعة
عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء قال لا جوار الا في مسجد جامع ثم قال لا جوار الا في مسجد مكة ومسجد المدينة قال بن جريج وقال عمرو بن دينار ما أراه أن يجاور في مسجد الكوفة والبصرة (……..)
8020 عبد الرزاق عن بن جريج قال قلت لعطاء فمسجد إلياء قال لا يجاور الا في مسجد مكة ومسجد المدينة.
8021 عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن بن أبي مليكة قال: اعتكفت عائشة بين حراء وثبير فكنا نأتيها هناك وعبد لها يؤمها. (……..)

باب لا اعتكاف إلا بصيام

8033 عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء عن بن عمر وبن عباس قالا: لا جوار الا بصيام.
8034 عبد الرزاق عن بن جريج عن عمرو بن دينار أن أبا فاختة مولى جعدة بن هبيرة أخبره عن بن عباس أنه قال: يصوم المجاور يعني المعتكف. (……….)

باب وقوعه على امرأته

8079 عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في الذي يقع على امرأته وهو معتكف قال: لم يبلغنا في ذلك شيء ولكنا نرى أن يعتق رقبة مثل كفارة الذي يقع على أهله في رمضان. (………)
8083 عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء قال: لا يقطع جواره إلا الإيقاع نفسه كهيئة الصيام والحج. (…….)
باب هل يخاصم المجاور

8085 عبد الرزاق عن بن جريج قال قلت لعطاء: خصم أتاه في مجاوره قال ليدرأ عن نفسه ويجادله.
8086 عبد الرزاق عن بن جريج قال قلت لعطاء أرأيت إن أتي هذا المجاور في فسطاطه بهو بسلعة يبيعها أو يبتاعها أيفعل؟ قال نعم يبيع في مجاوره. (…..)
باب يفرقون بين جوار القروي والبدوي

8092 عبد الرزاق عن بن جريج قال فرق لي عطاء بين جوار القروي والبدوي قال: أما القروي إذا نذر الجوار يهجر بيته ويهجر الزوج وصام [ و ] البدوي ليس من أهل مكة فإذا نذر الجوار كانت مكة حينئذ كلها فيجاور في أي نواحي مكة شاء وفي [ أي ] بيوتها شاء ولم يصم وأصاب النساء إن شاء, ويبيع ويبتاع وينتاب المجالس ويدخل البيوت ويعود المريض ويتبع الجنازة الا أن ينوي في نفسه أن يكون جواره بباب المسجد ويعتزل ما ينهى عنه [ في ] المجاورة. (……..)
8094 عبد الرزاق عن بن جريج عن بن طاووس قال: يجاور من ليس من أهلها حيث شاء منها ويجاور أهلها بباب المسجد إن كان نوى الاعتكاف ببابه ويكره الرقاد في المسجد. (……)
باب جوار المرأة:

8097 عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال إذا حاضت المرأة وهي معتكفة خرجت إلى بيتها فإذا طهرت قضت ذلك.
8098 عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء قال إذا حاضت وهي معتكفة رجعت إلى بيتها فإذا طهرت فلترجع إلى جوارها قال ابن جريج (……)
باب نكاح المجاور وطيب الرجل والمرأة

8104 عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء قال: لا بأس بأن تنكح المجاوِرة في جوارها. قال بن جريج وسئل عطاء أتتطيب المعتكفة وتتزين؟ فقال لا أتريد أن يقع عليها زوجها لا تطيب. قلت: ففعلت, أيقطع ذلك جوارها؟ قال: لا ولم تفعل ذلك وهي في عبادة وتخشع إنما طيب المرأة وزينتها لزوجها.” ا.هـ

فكما رأينا من هذه الروايات الكثيرة, فلم يكن هناك تحرج من استعمال الجوار أو الاعتكاف! فكلاهما –عندهم- واحد! لذا وجدنا من يقول:

“ويسمى الاعتكاف جِوَاراً؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصغي إلي رأسه، وهو مجاور في المسجد، فأرجله، وأنا حائض!”
أما نحن فنفرق بينهما ونقول:
الاحتباس في المسجد أو في أي مكان –كغار حراء مثلا[1]- بغرض الذكر والعبادة هو المجاورة! أما العكوف فهو الانكباب على العبادة والذكر والصلاة! فالإنسان يكون عاكفا في جواره! بينما قد يكون مجاوراً وغير عاكف!

ولما كان العكوف على العبادة قرينا للجوار, فهو الغاية منه, فالإنسان يجاور ليعكف على العبادة, غلب إطلاق إحداهما على الآخر! فالمجاور عاكف, والعاكف عاكف في مجاورته!

ونحن نفرق بينهما لأن ما نراه في مساجدنا في أيامنا هذه هو من باب الجوار وليس العكوف! ناهيك عن الاعتكاف, والذي يفترض فيه أن يكون أقوى وأشد من العكوف!! فالناس يحبسون أنفسهم في المساجد ويتكلمون ويمزحون ويخرجون للعمل … الخ, فالعكوف على العبادة والذكر ليس متحققا بدرجة كبيرة! ومن ثم فهم مجاورون وليسوا عاكفين!!

وبعد أن فرقنا بين الكلمتين, وعرفنا مدلول كل واحدة منها, ننظر في تصور الأقدمين للعكوف, لنر ماذا قالوا فيه!
إذا نظرنا في المدونة الكبرى لسحنون والذي يروي فيها عن الإمام مالك, فنجده يقول:
“قَالَ مَالِكٌ : وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ وَلَا عُثْمَانَ وَلَا أَحَدًا مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا ابْنَ الْمُسَيِّبِ ، وَلَا أَحَدًا مِنْ التَّابِعِينَ وَلَا أَحَدًا مِمَّنْ أَدْرَكْتُ مِمَّنْ أَقْتَدِي بِهِ اعْتَكَفَ ، وَلَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَقَامَ زَمَانًا طَوِيلًا فَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّهُ اعْتَكَفَ ، إلَّا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، وَلَسْتُ أَرَى الِاعْتِكَافَ حَرَامًا فَقِيلَ لِمَ تُرَاهُمْ تَرَكُوهُ ؟ فَقَالَ : أُرَاهُ لِشِدَّةِ الِاعْتِكَافِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ سَوَاءٌ .

وَقَالَ مَالِكٌ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي الِاعْتِكَافِ (وهو الحديث الذي ذكرناه مسبقا, وقارنا بين رواية النسائي له ورواية البخاري!): إنَّ ذَلِكَ يُعْجِبُنِي وَعَلَى ذَلِكَ رَأَيْتُ أَمْرَ النَّاسِ، أَنْ يَدْخُلَ الَّذِي يُرِيدُ الِاعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ مِنْ لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَيُصَلِّي الْمَغْرِبَ فِيهِ ، ثُمَّ يُقِيمُ فَيَخْرُجُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْعِيدِ إلَى أَهْلِهِ وَذَلِكَ أَحَبُّ الْأَمْرِ إلَيَّ فِيهِ.” ا.هـ

فكما رأينا فالإمام مالك يقول أنه ما بلغه أن أحداً من الصحابة أو السلف فعله, إلا واحد, وذلك لشدته! وحتى يعلم القارئ كيف أن الاعتكاف شديد, نذكر ما رُوي عن الإمام مالك بشأنه في المدونة:
“قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَقُصُّ الْمُعْتَكِفُ أَظْفَارَهُ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَا يَدْخُلُ إلَيْهِ حَجَّامٌ يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ ، قَالَ فَقُلْنَا لَهُ : إنَّهُ يَجْمَعُ ذَلِكَ فَيُحَرِّزُهُ حَتَّى يُلْقِيَهُ ؟ قَالَ : فَقَالَ : لَا يُعْجِبُنِي وَإِنْ جَمَعَهُ ، قَالَ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَطَيَّبَ الْمُعْتَكِفُ وَأَنْ يَنْكِحَ وَيُنْكَحَ ، فَقِيلَ لِابْنِ الْقَاسِمِ : أَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ حَلْقَ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمَ الْأَظْفَارِ ؟ فَقَالَ : لَا إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ .

فِي عِيَادَةِ الْمُعْتَكِفِ الْمَرْضَى وَصَلَاتِهِ عَلَى الْجَنَائِزِ قَالَ : وَسَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ الْمُعْتَكِفِ ، أَيُصَلِّي عَلَى الْجَنَائِزِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ ؟ فَقَالَ : لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجَنَائِزِ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ .

قَالَ ابْنُ نَافِعٍ قَالَ مَالِكٌ : وَإِنْ انْتَهَى إلَيْهِ زِحَامُ النَّاسِ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى الْجِنَازَةِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَإِنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا وَلَا يَعُودُ مَرِيضًا مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا أَنْ يُصَلِّيَ إلَى جَنْبِهِ فَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ .
قَالَ : وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَعُودُ الْمُعْتَكِفُ مَرِيضًا مِمَّنْ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَهُ ، وَلَا يَقُومُ إلَى رَجُلٍ يُعَزِّيهِ بِمُصِيبَةٍ وَلَا يَشْهَدُ نِكَاحًا يُعْقَدُ فِي الْمَسْجِدِ يَقُومُ إلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَكِنْ لَوْ غَشِيَهُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ لَمْ أَرَ بَأْسًا .
قَالَ : وَلَا يَقُومُ إلَى النَّاكِحِ فَيُهَنِّئُهُ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْكِحَ الْمُعْتَكِفُ وَلَا يُشْغَلُ فِي مَجَالِسِ الْعِلْمِ .
قَالَ : فَقِيلَ لَهُ أَفَيَكْتُبُ الْعِلْمَ فِي الْمَسْجِدِ ؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ .
قَالَ سَحْنُونٌ وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ فِي الْكِتَابِ : إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءَ الْخَفِيفَ وَالتَّرْكُ أَحَبُّ إلَيْهِ . قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ ، وَسُئِلَ عَنْ الْمُعْتَكِفِ يَجْلِسُ فِي مَجْلِسِ الْعُلَمَاءِ وَيَكْتُبُ الْعِلْمَ؟ فَقَالَ: لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءَ الْخَفِيفَ وَالتَّرْكُ أَحَبُّ إلَيَّ.” ا.هـ

فكما رأينا فالعكوف على العبادة يعني تفرغ تام وليس مجرد الاحتباس في المسجد, كما يفعل أكثر المسلمين الآن, فهم يجاورون ولا يعكفون! لذلك نجد أن الإمام مالك قد قال أنه من الأفضل لمن لا يقدر على القيام بالعكوف كما ينبغي مستوفيا أركانه ألا يعكف! فهل يعي المسارعين إلى الجلوس في المساجد هذا؟!!

فإذا نظرنا في أقوال الصحابة والتابعين في مسألة الجوار, وجدنا أن بعضهم قال أنها مسألة مخصوصة بالمساجد الكبرى التي تُشد إليها الرحال! فمنهم من قال أنها مخصوصة بالمسجد الحرام ومنهم من قال أنه يضاف إليها المسجد النبوي, وذلك كما قال الإمام الفخر الرازي في تفسيره: مفاتيح الغيب:

“ثم اختلفوا فيه فنقل عن علي رضي الله عنه أنه لا يجوز إلا في المسجد الحرام والحجة فيه قوله تعالى : { أَن طَهّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين } [ البقرة : 125 ] فعين ذلك البيت لجميع العاكفين ،

ولو جاز الإعتكاف في غيره لما صح ذلك العموم وقال عطاء : لا يجوز إلا في المسجد الحرام ومسجد المدينة ، لما روى عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي » ا.هـ

اختلفوا في صفة المسجد على خمسة أقوال :—يصح في كل مسجد، حتى لو لمتقم فيه جمعة ولا جماعة .
وبه قال ابن حزم، ولكن يخرج لكل جمعة وجماعة—يصح في كل مسجد تقام فيه الجمعة، ولو لم تقم فيهالجماعة .
وبه قال الزهري، والحكم بن عتيبة، وحماد بن سلمة، والمالكية والشافعية.

—لا يصح إلافي مسجد، تقام فيه الجماعة .
وبه قال ابن عباس،وعائشة، والحسن البصري، وعروة بنالزبير، وسعيد بن جبير،وإبراهيم النخعي، وأبو الأحوص، والأحناف، والحنابلة.

—لا يصح إلا في المساجد الثلاثة -المسجد الحرام،والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى- .وبه قال حذيفة،وسعيد بن المسيب.

—لا يصح إلا في المسجدالحرام، والمسجد النبوي .
وبه قال عطاء بن أبي رباح.” ا.هـ

وهذا الاختلاف أراه غير ذي معنى! فالله تعالى قال: “ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد” فيُفهم من دليل الخطاب أنه يمكن العكوف في غير المساجد! ولو كان العكوف لا يكون إلا في المسجد لما كان هناك حاجة لتخصيصه!

وخلافهم هذا دائر حول الجوار وليس حول العكوف! وقد بيّنا الفرق بينهما! وقلنا أن الجوار يكون في المسجد وغيره! ومن ثم فلا إشكال في أن يجاور الإنسان في أي مسجد!!

وفي نهاية المطاف نقول:
العكوف على ذكر الله والتفرغ له ليس بالأمر اليسير! فإن رأى الإنسان في نفسه شوقاً إليه ورغبة فيه فليقدم عليه! وليفرغ نفسه له! وإن لم ير فلا يفعل! فلا تكن ممن يفعلونها تقليدا! لمجرد أنها شعار الملتزمين!

هذه الهيئة من العبادة لم يقدم عليها الصحابة, وكان النبي الكريم يفعلها في أحوال خاصة! فقم بها أنت أيضا عندما تشعر أنك في حاجة إليها!!

عندما تشعر أن عبادتك وذكرك لله أصبحا جافين … ولم تعد تستشعر بهما وفيهما ما كنت تجد من قبل فافعل …. إن أردت أن تشعر بحلاوة الذكر فافعل …. أما إن فعلتها ابتغاء ثواب وأجر …. فلا أعتقد أنك ستصل إلى شيء!
فهذه الهيئة مناجاة بين العباد وربهم …. يبتغون بها وجهه فقط!
جعلنا الله وإياكم ممن يبغون وجه ربهم …. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!_________________________________
[1] كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري: ” قال: سألت جابر بن عبد الله الأنصاري: أي القرآن أنـزل قبل؟ قال: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قال قلت: أوِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ قال جابر: أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إني جاورت بحراء شهرًا فلما قضيت جواري نـزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي ثم نظرت إلى السماء فإذا هو على العرش في الهواء – يعني جبريل ….” ا.هـ

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

اجتهاد جديد غير مسبوق حول صدقة الفطر

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد وسلام على عباده الذين اصطفى، ثم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.