الذات الفلسفية العلية

لا جدال!! أن الفلاسفة كانوا –ولا يزالون- علامة فارقة في تاريخ النتاج الفكري للإنسانية, وإن كانوا ضعيفي التأثير في الواقع الحياتي المعاش! ولن نعرض في هذا المقال لأسباب ضعف تأثير الفلاسفة, ولا لنماذج من نتاجهم الفكري, وإنما سنتفلسف حول “عقل” الفلاسفة
وإن شئنا الدقة: منطلقات الفلاسفة, في نتاجهم! لأن معرفة المنطلقات من المعينات على الحكم على المنتج, باعتبار المنتج لن يخرج عن كونه “أثر” للمنطلق

ولن نقر لأولئك الذين يدعون إلى عزل “فكر” الفلاسفة عن واقعهم, وذلك لأنهم لا يريدون أن “تُقرأ” الفلسفة قراءة تاريخية! وإلا ستؤدي هذه القراءة التاريخية لإسقاط الكثير من المقدم فيه لعدم صلاحيته! ولا يعني هذا أننا سنقرأ نتاج الفلاسفة نتاجا تاريخيا, وإنما سنقرأه “إنسانيا”, باعتبار الفلاسفة “بشراً” عاشوا في مجتمعات ما, وليسوا كائنات سماوية عليا!

أول منطلق لكل الفلاسفة هو “إيمانهم” ب صلاحية وعلو العقل! فالفلاسفة أفراد نشأوا في مجتمعات ما, وكانت “المنظومة الفكرية” لهذا المجتمع تقدم إجابات دينية و”علمية” وخيالية! تقريبا لكل الأسئلة الأساسية المطروحة

إلا أن هذه الإجابات المقدمة لم تُقنع أولئك الأفراد, ورأوا أن منهج “السلف السابق” ممن يُعرفون ب “الفلاسفة” هو المنهج الأقوم, ومن ثم طلبوا هذا المنهج ودرسوه وتعمقوا فيه, حتى استطاعوا لاحقا أن يضيفوا إليه أو ينقدوا بعضه.

وهكذا فإذا كان الفلاسفة –وأتباعهم- ينقدون أتباع الأديان لانطلاقهم من “إيديولوجيات” معينة, من تصورات مسبقة يؤمنون بصحتها, فإن الحال لا يختلف مع الفلاسفة, فهم ينطلقون من إيديولوجيات مسبقة, مثل ما ذكرنا, ومثل “المذهب الفلسفي” الذي يؤمنون به والذين هم أتباع مخلصون له, ويفهمون العالم من خلاله, ويقدمونه للبشرية بواسطته!!

بينما باقي المذاهب الفلسفية التي رفضوها في مرحلة مبكرة من حياتهم, ولم يكونوا قد اطلعوا على كل نتاجها –ولا: جله-, هي بالتأكيد غير صحيحة أو غير دقيقة!!

ولهذا فإن “الأصول المذهبية” حاضرة عند إطلاق الأحكام, وهي عندهم شاملة كلية, فنجد أن بعضهم يستند إلى “عدم” ظهور علة منطقية مقنعة له في مسألة ما, حتى يحكم عليها بأنها عبثية!! رغما عن أنها قد تظهر, أو تكون ظهرت بالفعل لغيره من الفلاسفة أو غير الفلاسفة!

المنطلق الثاني “إطلاقية” العقل! وإن شئنا الدقة: العمليات العقلية التي يستخدمونها لفهم الواقع أو المعنى! لذلك لا نجد فيلسوفا يقول أن “عقلهم” غير مؤهل بهذه “التركيبة” في هذه المرحلة لفهم –للحكم على- هذا المعنى! وإنما ينطلقون من قواعد “مذهبهم” الفلسفي لفهم وتصور المسألة!

فالفلاسفة أخطأوا في قديم الزمان عندما تكلموا بعقولهم في كل الفنون والعلوم, ومع الوقت بدأت هذه العلوم تنفصل عن الفلسفة! وكان هذا “خطأ منهجي” تم تبريره بأن الفلسفة كانت في نشأتها, وأن الوضع اختلف الآن!!

الشاهد أن “مبادئهم العقلية” لم تكن صالحة, وهم قاموا بتعديلها الآن, وأنا أقول أنها لا تزال غير صالحة –بدرجة-, وبعد قرون ستنسحب العديد من “المسائل” من الفلسفة, فهل سيعتذر ساعتها الفلاسفة؟!!! بالتأكيد لا, فلا يوجد فيلسوف يقول: “أخطأنا” أو: “لا أعلم”! (إلا في الغيبيات, ما بعد الموت مثلا, فلا يصدر فيها أحكاماً قاطعا, ويتركها هكذا عائمة, رغماً عن أن الاحتمالات فيها قليلة, ولكن هو لا يريد أن يتقاطع مع الدين!!)

وحتى لا يظن القارئ أنني أتجنى على الفلاسفة بقولي أنهم يؤمنون ب “إطلاقية” العقل, بالمعنى الحرفي للإطلاق! أذكر بعض النماذج من أقوال الفلاسفة, الذين يعيبون فيها “الذات الإلهية” فمثلاً عندما سُئل برتراند راسل –الفيلسوف الانجليزي- عما سيفعل إذا اكتشف بعد موته أن الله موجود؟! فرد بأنه سيلوم الله لأنه لم يقدم أدلة كافية على وجوده! فبما أن راسل لم يقتنع بأدلة وجود الله فبالتأكيد أن المشكلة والعيب والنقص من الله, وليس من عقله!!

ووجدنا من الفلاسفة من دافع عن موقف إبليس وأن الحق كان معه, وأن الإله “مستبد” غير “ديمقراطي”! (ووجدنا مثل هذا الموقف في التراث الصوفي الإسلامي عند: الحلاج, مثلاً, وإن أول فعل إبليس بأنه فعل هذا حباً, ودفاعاً عن جناب التوحيد, فلم يقم الحلاج بتخطيء الله), ومن ثم فلا إشكال لديهم في إصدار أحكام “إدانة” للإله, فيضع الواحد منهم نفسه فوق الإله .. إن كان يؤمن بوجوده أصلا!!

المنطلق الثالث: اعتماد قواعد “عقلية” مجردة, والتغافل –بدرجة أو درجات- عن الواقع, وذلك لأن الفيلسوف ترفع وتعالى عن “الإجابات العقلية البسيطة”,

ورأى أن عليه أن يقدم إجابات أعلى و “أرقى”, والمهم أن تكون في ذاتها “سليمة”! لذلك فإن جل الفلاسفة يعتمدون وبكل ثقة دليل “بما أن .. إذن”!!! كأن انسجام العلاقة بين الدليل والنتيجة في عقله كفيل بصحتها في الواقع! وكم من أفكار –فلسفية أو غيرها- مستقيمة مع ذاتها ولا وجود لها ولا إسقاط لها في الواقع!

والأمثلة على ذلك واضحة: بما أن خالداً عصبي وكثير السباب فإن خالد إنسان سيئ! وهذا دليل جزئي لا يعني تحققه أو نفيه تحقق الكل أو نفي الكل! والمشكلة أن هناك العديد والعديد من المكونات والأدوار لكل “جوهر” يتكلمون عنه, منها ما هو غائب عنهم أصلا, ومنهم ما لا يلقون له بالاً, ويظنون أن الزاوية التي ينظرون منها إلى الأمور كافية للوصول إلى التصور الكلي الدقيق للمسألة! لقد أصبحنا نسمع مؤخرا مثلاً عن “تراكم الهُويات”

فالإنسان له العديد من الهويات, ويفعل الشيء الواحد لأهداف عديدة, ولكن عامة الفلاسفة –وللأسف العلماء كذلك- لا يزالون يصرون على تسطيح الإنسان وأعماله! فيفسرون العمل بدافع واحد, ويبطلون ما عداه من الدوافع –التي لا تنطبق مع نظريتهم الكبيرة!!-,
بل إن الشيء الواحد يكون له العديد من الأدوار, فالصدر مثلا للرضاعة وهو كذلك من أكبر المثيرات الجنسية عند المرأة! ولك أن تتصور مثلاً كم هو ساذج ذلك الإنسان من يقول أن اليد دورها الوحيد هو الأكل فقط!!

واختلافات الفلاسفة أكبر دليل على هذا, فعند النظر في نقاشاتهم المختلفة حول مسألة ما, تجد في كثير من الأحيان أن كلا الرأيين مقبول ومعقول ومحتمل بالنسبة للجوهر, ولكن كل فيلسوف مصمم على استبعاده تبعاً لمنظوره الفلسفي الخاص الضيق!!

ونكتفي بهذا القدر من الغوص في “ما وراء الفلاسفة”, حيث بينا أنهم كغيرهم من “أرباب” وأتباع “العلوم” والفنون, يسيرون على نفس المسارات التي وضعها لهم سلفهم!! وأن استنتاجاتهم و”أحكامهم” هي أحكام “جزئية” تاريخية, وليدة التفاعل بين قواعد الفلسفة وظروف المجتمع, وليست كلية مطلقة!
ومن ثم فإني اعترض على منهج “تأويل” أقوال وآراء السابقين من الفلاسفة

وأدعو إلى اعتماد منهج “الغربلة”, فما لم يعد صالحا يُسقط, وما كان من الأساس “ساقطاً” متطرفاً يُرفض, ويستصفى من هذا النتاج ما هو “أصلح”! ولكن المشكلة أن من سيفعل هذا هم “الفلاسفة” المعاصرون!!! فهل سيجرؤ “خلف” الفلاسفة على فعل هذا؟ أم سيواصلون مسيرة “التقديس”, والإعراض عن المخالفين والاستعلاء عليهم ورميهم بالتخلف, وبأنهم لم يُحسنوا قراءة وفهم النتاج العبقري للفلاسفة من الأساس؟!!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.