حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن ليلة من أهم الليالي عند المسلمين, إن لم تكن أهم ليلة عندهم على الإطلاق, وهي تلك الليلة المسماة ب: ليلة القدر!
تلك الليلة التي يرى المسلمون أنها تقع في العشر الأواخر من شهر رمضان, وتحديدا في الليالي الوترية منها, وإن لم يجزم أحدهم في أي ليلة هي! وإن كان أكثر العوام يرى أنها هي ليلة السابع والعشرين من الشهر الكريم! والتي يطمع كل مسلم أن يقومها, يصلي لله ويدعوه!
لأنه إذا وُفق وقامها ودعا الله في هذه الليلة يستجيب الله له ويحقق له مطالبه! كما أنه يُكتب له ثواب عبادة أكثر من ألف شهر! أي كأنه عبد الله لما يزيد عن الثلاث وثمانين عاما!
فهي فرصة ذهبية على الإنسان اغتنامها ليزيد كثيرا جدا من رصيد أعماله! فكل ليلة تساوي ما يزيد عن عبادة عمر كامل!
وهذا الفضل العظيم لليلة القدر لم يأت في القرآن ولم يعرض له, ولم يأت كذلك في الروايات المنسوبة إلى الرسول الكريم, وإنما هو من قول الرجال! فالروايات الواردة عن الرسول الكريم بشأن الليلة لم تقل أن ثوابها يعدل ثواب عبادة ألف شهر, وإنما حثت على طلبها وقيامها ودعاء الله تعالى فيها –وهو نوع من الاحتفاء بها لما لها من الذكرى الحسنة!!
إذا فلا القرآن ولا النبي قال أن ثواب عبادة الليلة هو ثواب عبادة ألف شهر وإنما هو اجتهاد!! لذا نتوقف مع الآيات التي تحدثت عن ليلة القدر, لننظر ماذا قال الرب العليم فيها, وعما تدور:
إذا نظرنا في السورة التي تدور حول هذه الليلة وجدنا الرب العليم يقول:
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥)
أول ما يلحظه الناظر في هذه السورة أن “ليلة القدر” تكررت ثلاث مرات, فلم يقل الله مثلا: وما أدراك ما هي؟ أو: هي خير من ألف شهر, وإنما بدأ العود بالضمير عليها في الآية الرابعة بعد أن ذكرها ثلاث مرات, وذلك ليبين أهمية تلك الليلة وعظم قدرها!!
وتظهر عظمة هذه الليلة في حكم الرب عليها بأنها خير من ألف شهر, وهذا الحكم هو مربط الفرس ومحور الحديث حول هذه الليلة, فلماذا هي خير من ألف شهر؟!!
الناظر في الإجابات المطروحة على هذا السؤال يجد أنها تكاد تنحصر في إجابة واحدة, وهي أن عبادة هذه الليلة أفضل من عبادة ألف شهر!
فإذا نظرنا مثلا في توجيه الإمام الرازي لخيرية هذه الليلة عن الألف شهر, وجدناه يقول:
“في تفسير الآية وجوه أحدها : أن العبادة فيها خير من ألف شهر ليس فيها هذه الليلة ، لأنه كالمستحيل أن يقال إنها: { خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } فيها هذه الليلة ،
وإنما كان كذلك لما يزيد الله فيها من المنافع والأرزاق وأنواع الخير.
وثانيها: قال مجاهد : كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد حتى يمسي فعل ذلك ألف شهر ، فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من ذلك، فأنزل الله هذه الآية، أي ليلة القدر لأمتك خير من ألف شهر لذلك الإسرائيلي الذي حمل السلاح ألف شهر.
وثالثها: قال مالك بن أنس : أُري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أعمار الناس ، فاستقصر أعمار أمته ، وخاف أن لا يبلغوا من الأعمال مثل ما بلغه سائر الأمم ، فأعطاه الله ليلة القدر وهي خير من ألف شهر لسائر الأمم.
ورابعها : روى القاسم بن فضل عن عيسى بن مازن ، قال : قلت للحسن بن علي عليه السلام يا مسود وجوه المؤمنين عمدت إلى هذا الرجل فبايعت له يعني معاوية ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأى في منامه بني أمية يطؤن منبره واحداً بعد واحد ، وفي رواية ينزون على منبره نزو القردة ، فشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى : {إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر} إلى قوله : {خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} يعني ملك بني أمية قال القاسم فحسبنا ملك بني أمية ، فإذا هو ألف شهر . طعن القاضي في هذه الوجوه فقال : ما ذكر من ألف شهر في أيام بني أمية بعيد ، لأنه تعالى لا يذكر فضلها بذكر ألف شهر مذمومة ، وأيام بني أمية كانت مذمومة .
واعلم أن هذا الطعن ضعيف ، وذلك لأن أيام بني أمية كانت أياماً عظيمة بحسب السعادات الدنيوية ، فلا يمتنع أن يقول الله تعالى إني : أعطيتك ليلة هي في السعادات الدينية أفضل من تلك السعادات الدنيوية .” ا.هـ
وكما رأينا فإن الأقوال الثلاثة الأولى تدور في نفس النطاق, أنها فرصة للمسلم لزيادة أعماله باغتنام الليلة وقيامها والدعاء فيها! أما القول الرابع فهو قول مستبعد من علماء المسلمين وعوامهم, ولم يعد أحد يتكلم عنه! لأنه يلغي كل مظاهر التفخيم التي أحيطت بالليلة, فلو قُبل لما أصبح لهذه الليلة تلك المكانة عند المسلمين على اختلاف طوائفهم, ولأصبحت لا تزيد عن ذكرى طيبة حسنة, وهي ذكرى نزول القرآن, وليست موسما للتسابق في الطاعات!
فإذا كان لهذه الليلة العظيمة هذا الثواب الكبير, فمتى تكون هذه الليلة؟!
ورد بشأن تحديد ليلة القدر حوالي أربعين قولا –كما قال الحافظ بن حجر-, ومن الأقوال الواردة فيها أنها في أول رمضان, وجاء عن ابن مسعود أنها تتنقل في ليالي العام, فتأتي كل عام في ليلة, وقيل أنها تتنقل في العشر الأواخر, وقيل أنها ليلة السابع عشر وقيل آخر ليلة في رمضان, وقيل أنها في الليالي الزوجية, …. الخ الأقوال, التي تستند كلها إلى روايات عن النبي أو عن الصحابة!
بل إننا وجدنا أن هناك من قال أنها رُفعت فلم تعد هناك ليلة قدر!!! مستنداً إلى رواية كذلك تقول بهذا القول!
وهذا القول ومثله من الأقوال نابع لأن من قال به أعرض عن كتاب الله فلم ينظر ماذا قال بشأن ليلة القدر!
إن الرب العليم قال أنه أنزل –ما أمر محمداً بقراءته في السورة الماضية “اقرأ باسم ربك” وهو القرآن- في ليلة القدر!
أي أن ليلة القدر موجودة أصلا قبل نزول القرآن, وشاء الله أن ينزل قرءانه في تلك الليلة! ومن ثم فهي موجودة قبله, وباقية بعده!
وليلة القدر كما يبدو من اسمها –وكما فصل فيها القرآن- هي الليلة التي تقدر فيها الأقدار, ويفرق فيها كل أمر حكيم: “إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان : 4]”
فهي ليلة مباركة أصلا, ولو كان غير ذلك لقيل مثلا: إنا باركناها بالقرآن!
وهذا القول هو القول الذي اعتمده الإمام الطبري في كتابه: جامع البيان في تأويل القرآن, فقال:
وهي ليلة الحُكْم التي يقضي الله فيها قضاء السنة؛ وهو مصدر من قولهم: قَدَرَ الله عليّ هذا الأمر، فهو يَقْدُر قَدْرا.
ونلاحظ أن الله تعالى عندما تحدث عن الليلة في السورة التي التي سميت باسمها, لم يذكر فيها فضلا مخصوصا لعبادتها, ولم يأمرنا بالتقرب إليه فيها, وإنما قال أن الملائكة والروح تنزل فيها بإذن ربهم من كل أمر –كما قال في الدخان أنه يفرق فيها كل أمر حكيم-, كما قال أنها سلام حتى مطلع الفجر!
إذا فالليلة ليلة قدر, وهي مباركة وسلام! فأين ثواب عبادتها الهائل؟!
قد يقول قائل: لم تقدم لنا وجه خيرية هذه الليلة عن ألف شهر!
نقول: لا يمكننا الجزم بوجه الخيرية فيها, ولكن يمكننا الاجتهاد في ذلك –استنادا إلى كتاب الله- فنقول:
بما أن ليلة القدر هي الليلة التي يُفرق فيها ويقدر وتنزل الملائكة بذلك, فوجه الخيرية هو حدوث هذه الأمور, فكأن تقدير الله الأمور –كما يشاء- في تلك الليلة, هو خير من ألف شهر, بدون هذا التقدير!
أي أن الله يدفع الإنسانية إلى الأمام دفعات كبيرة, بتقديره في تلك الليلة, ولو ترك الأمور تسير بدون توجيه منه, لقابل الناس المصاعب الكبيرة والعنت الكثير, ولاحتاجت البشرية لما يزيد عن الألف شهر لتصل إلى ما يقدره الله تعالى لها في تلك الليلة!
وهذا القول على اعتبار أن ليلة القدر تتكرر كل عام, في ليلة منه!!
ومن الممكن القول كذلك أن ليلة القدر لا تتكرر كل عام وإنما كل –ما يزيد عن -ثلاث وثمانين عاما, فتلك الليلة التي يقدر الله فيها المقادير لتلك المرحلة القادمة خير من المرحلة نفسها!
وقد يكون غير ذلك والله أعلى وأعلم!
الشاهد في نهاية المطاف أن ليلة القدر هي ليلة التقدير, وهي إما كل عام أو كل فترة طويلة, وهي موجودة قبل النبي والقرآن ومستمرة بعده, والنبي الكريم احتفى بها وحث أصحابه على الاحتفاء بها!
ولم يحددها لأنها لا تأتي في يوم ثابت بعينه, وإنما تتغير من عام لآخر, وهي ليلة ذات مكانة عند المسلم لأنها ليلة القدر, ولأنها نزل فيها القرآن
ولكن لا دليل من القرآن أو من قول الرسول على أن العبادة فيها تفضل الألف شهر! بل إن القرآن يرد ذلك, فهي ليلة السلام والبركة على البشرية كلها, سواء احتفت بها أم لم تحتف!!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.