عرضنا سابقاً لآيات الصيام في أكثر من موضوع تبعاً للجانب الذي كنا نتناوله منه أو فيه, إلا أن بعض المواطن في هذه الآيات لم أكن قد وصلت فيها إلى تصور شامل, ومن ثم مررت عليها مرور الكرام, إلى أن توقفت مرة أخرى مع الآيات ففتح الله لي فيها,
فنعرض هنا ما فتحه الله علينا في هذه المواطن المختلف عليها, والتي قُدم لها تصورات عديدة لم يُجزم بأحدها, وذلك لأن السادة المفسرين لم يأخذوا الآيات كما هي وإنما أصروا على القول بالزيادة, ونبدأ فنقول:
عرضنا سابقاً لآيتي كتابة الصيام:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤)
وبيّنا كيف أن القول بزيادة وافتراض كلمات فيها هو الذي أدى إلى الاختلاف حولها, ونبدأ هنا بقوله تعالى:
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥)
فنلاحظ أن الله تعالى جعل شهادة الشهر الذي أنزل فيه القرآن مبرراً لصيامه (وبيّنا في موضوع سابق خطأ التعريف المألوف للصيام), ونغض الطرف هنا عن تطوع بعض المفسرين وقولهم بزيادة الفاء في “فليصمه”.
ونصل إلى الجملة الرئيسة في الآية مثار الإشكال عند المفسرين, وهي قوله تعالى:
“…….. وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة : 185]”, فعلاما عُطفت هذه الكلمات وما معناها؟
اختلف المفسرون في المعطوف عليه لأنه لا يمكن أن تكون معطوفة على “اليسر أو العسر” لأنه لا يمكن أن تكن معمولات ل “يريد”, ومن ثم أتوا فيها بأقوال كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان, فنجد الإمام الألوسي مثل يقول في تفسيره “روح المعاني”:
” وهذا نوع من اللف لطيف المسلك قلما يهتدى إليه لأن مقتضى الظاهر ترك الواو لكونها عللاً لما سبق ، ولذا قال من لم يبلغ درجة الكمال : إنها زائدة أو عاطفة على علة مقدرة ووجه اختياره أما على الأول : فظاهر ، وأما على الثاني : فلما فيه من مزيد الاعتناء بالأحكام السابقة مع عدم التكلف لأن الفعل المقدر لكونه مشتملاً على ما سبق إجمالاً يكون ما سبق قرينة عليه مع بقاء التعليل/ بحاله ولكونه مغايراً له بالإجمال ،
والتفصيل يصح عطفه عليه ، وفي ذكر الأحكام تفصيلاً أولاً ، وإجمالاً ثانياً وتعليلها من غير تعيين ثقة على فهم السامع بأن يلاحظها مرة بعد أخرى ويرد كل علة إلى ما يليق به ما لا يخفى من الاعتناء ، وجوز أن تكون عللاً لأفعال مقدرة كل فعل مع علة والتقدير ولتكملوا العدة أوجب عليكم عدة أيام أخر ولتكبروا الله على ما هداكم علمكم كيفية القضاء { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } رخصكم في الإفطار وإن شئت جعلتها معطوفة على علة مقدرة أي ليسهل عليكم أو لتعلموا ما تعملون ولتكملوا الخ
وجعلت المجموع علة للأحكام السابقة إما باعتبار أنفسها أو باعتبار الأعلام بها فقوله : ليسهل أو لتعلموا علة لما سبق باعتبار الأعلام وما بعده علة للأحكام المذكورة كما مر ، ولك أن لا تقدر شيئاً أصلاً وتجعل العطف على اليسر أي ويريد بكم لتكملوا الخ واللام زائدة مقدرة بعدها أن وزيدت كما قيل : بعد فعل الإرادة تأكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك جئتك لإكرامك ، وقيل : إنها بمعنى أن كما في الرضي إلا أنه يلزم على هذا الوجه أن يكون { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } عطفاً على { يُرِيدُ } إذ لا معنى لقولنا يريد لعلكم تشكرون ،
وحينئذٍ يحصل التفكيك بين المتعاطفات وهو بعيد ، ولاستلزام هذا الوجه ذلك وكثرة الحذف في بعض الوجوه السابقة وخفاء بعضها عدل بعضهم عن الجميع ، وجعل الكلام من الميل مع المعنى لأن ما قبله علة للترخيص فكأنه قيل : رخص لكم في ذلك لإرادته بكم اليسر دون ولتكملوا الخ، … ” ا.هـ
وكما رأينا فلقد ذكر الإمام الألوسي احتمالات عديدة لا يخرج منها القارئ سوى بمزيد حيرة, وبيقين أن الإمام الألوسي نفسه لا يجد مبرراً للعطف ومن ثم يذكر أي احتمال ممكن فربما يقنع أحدها القارئ!
ولقولهم بعطف الجملة على سابقتها فُهمت العدة على أنها عدة أيام الصيام, وفُهم التكبير على أنه التكبير للعيد, فنجد الإمام الطبري مثلاً يقول:
“ولتكلموا العدة ” فيه تأويلان: أحدهما – إكمال عدة الاداء لمن أفطر في سفره أو مرضه. الثاني – عدة الهلال سواء كانت تسعا وعشرين أو ثلاثين. (…..)
ولتكبروا الله ” عطف عليه، ومعناه الحض على التكبير في آخر رمضان في قول جمهور أهل التأويل. واختلف الناس في حده، فقال الشافعي: روي عن سعيد بن المسيب وعروة وأبي سلمة أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر ويحمدون، قال: وتشبه ليلة النحر بها. وقال ابن عباس: حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا.” ا.ه
وذكر الإمام فخر الدين الرازي في “التكبير” ما ذكره الإمام الطبري من أنه التكبير للعيد وزاد عليه قولاً آخر, فقال:
“القول الثاني : في تفسير قوله : { وَلِتُكَبّرُواْ الله } أن المراد منه التعظيم لله شكراً على ما وفق على هذه الطاعة ، واعلم أن تمام هذا التكبير إنما يكون بالقول والاعتقاد والعمل أما القول : فالإقرار بصفاته العلي ، وأسمائه الحسنى ، وتنزيهه عما لا يليق به من ند وصاحبة وولد وشبه بالخلق ، وكل ذلك لا يصح إلا بعد صحة الاعتقاد بالقلب وأما العمل : فالتعبد بالطاعات من الصلاة والصيام ، والحج واعلم أن القول الأول أقرب ، وذلك لأن تكبير الله تعالى بهذا التفسير واجب في جميع الأوقات ، ومع كل الطاعات فتخصيص هذه الطاعة بهذا التكبير يوجب أن يكون هذا التكبير له خصوصية زائدة على التكبير الواجب في كل الأوقات.” اهـ
أما نحن فلا نعطف كلمات لا تُعطف على بعضها ونبحث لها عن تخريجات تعتمد على القول بمحذوف, لذا نقول أن قوله تعالى: ” وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ “ معطوف على قوله: “هدى”, فالله تعالى يقول أن القرآن أُنزل هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ولتكملوا –أيها المؤمنون- العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون.
فنكمل عدة المؤمنين, فبالقرآن خُتمت الكتب والأديان وليس ثمة أمة بعد أمة المؤمنين بالقرآن, ونكبر الله على ما هدانا بالقرآن, فنكبره بألسنتنتا وأعمالنا وإيماننا, طيلة العام, فالله أنزل القرآن لنكبره ولعلنا نشكره على ما أنعم علينا بالقرآن وما فيه من الهدى.
وبهذا الفهم يستقيم كون الآية التالية لها “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ”
فالله تعالى أنزل القرآن هدى ولنكبره, لذا يعرفنا الله هنا بواحدة مما نكبره بها, فيأمر نبيه أن يخبر عباده أنه قريب (ليس بحاجة إلى واسطة) يجيب دعوة الداع (وبينا في موضوع سابق معنى إجابة الدعاء)إذا دعاه, فعليهم أن يستيجيبوا له ويؤمنوا به واستجابتهم لمصلحتهم, لكي يرشدوا.
ثم يبين الله لعباده أحكام الصيام فيقول: “أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)”
والكلمة الرئيسة محل الخلاف في هذه الآية قوله “حدود الله”, فما هي حدود الله التي ينهانا الرب العليم عن قربها؟
قدّم المفسرون إمكانيات عديدة ل “حدود الله”, فأعيدت إلى المذكور في الآية أو إلى الشروط والمقادير عامة, فنجد الإمام الطبري يقول:
” قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: هذه الأشياء التي بيّنتها: من الأكل والشرب والجماع في شهر رمضان نهارا في غير عذر، وجماع النساء في الاعتكاف في المساجد، يقول: هذه الأشياءَ حدّدتها لكم، وأمرْتكم أن تجتنبوها في الأوقات التي أمرتكم أن تجتنبوها، وحرَّمتها فيها عليكم، فلا تقرَبوها، وابعُدوا منها أن تركبوها، فتستحقُّوا بها من العقوبة ما يستحقه من تعدّى حُدودي، وخالف أمري وركب معاصيَّ.”
وزاد الإمام الفخر الرازي فقال:
“المسألة الثانية : قال الليث: حد الشيء مقطعه ومنتهاه قال الأزهري : ومنه يقال للمحروم محدود لأنه ممنوع عن الرزق ويقال للبواب : حداد لأنه يمنع الناس من الدخول وحد الدار ما يمنع غيرها من الدخول فيها ، وحدود الله ما يمنع من مخالفتها والمتكلمون يسمون الكلام الجامع المانع : حداً ، وسمي الحديد : حديداً لما فيه من المنع ، وكذلك إحداد المرأة لأنها تمنع من الزينة إذا عرفت الإشتقاق فنقول : المراد من حدود الله محدوداته أي مقدوراته التي قدرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة .” اهـ
إلا أن الناظر في كتاب الله يجد أن المواطن السبعة التي ذُكر فيها حدود الله ارتبطت بالنساء, فأول موطن هو هذه الآية, والثاني هو قوله:
” الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة : 229]”
والثالث قوله: ” فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [البقرة : 230]”
والرابع: “ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء : 13]”
والآية واردة بعد الحديث عن المواريث والتي ذُكر فيها توريث النساء.
والخامس: ” التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة : 112]”
وهنا لم ترتبط الآية بالنساء, إلا أنها واردة في سياق عام فتُحمل على غيرها.
والسادس: ” فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المجادلة : 4]”
والآية واردة في الحديث عن كفارة الظهار.
والسابع: ” يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً [الطلاق : 1]”
فيمكننا القول من خلال استقراء الآيات المذكور فيها “حدود الله” أن المراد من هذا المصطلح هو الحدود التي جعلها الله لتنظيم علاقة الرجل بالمرأة ولضمان حقوق المرأة, حتى لا يُجار عليها.
ومن ثم فارتباط “الحدود” بالعقوبات أمر ينبغي أن يعاد التفكير فيه, فلم تُذكر كلمة “الحدود” في معرض الحديث عن العقوبات وإنما سُميت العقوبات بال “جزاءً” (جزاءً بما كسبا), أو: “العذاب” (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) أو بالقصاص أو الإيذاء (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما), لذا فينبغي الحديث عن إعادة تطبيق (بعض) العقوبات, وليس عن تطبيق الحدود, لأنه تُطبق ولله الحمد بين الرجال والنساء في بيوتنا.
وبعد النهي عن قرب حدود الله ينهى الله العليم كذلك عن أكل أموالنا بالباطل فيقول:
“وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)”
قال بعض المفسرين في ” وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ” المراد به الرشوة, فالرِشوة مأخوذة من الرشاء وهو الحبل الذي يُعلق فيه الدلو, أي لا تأكلوا أموالكم بالباطل وتدفعوا رشوة إلى الحكام ليحكموا لكم لتأكلوا فريقاً (آخر) من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون, وقال ابن عباس (كما ذكر ابن جرير الطبري في جامع البيان):
“عن ابن عباس:“ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتُدلوا بها إلى الحكام” فهذا في الرجل يكون عليه مالٌ، وليس عليه فيه بيِّنة، فيجحد المال، فيخاصمهم فيه إلى الحكام وهو يعرف أنّ الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم: آكلٌ حراما.”
ومناسبة ذكر الآية بعد آيات الصيام أن الله تعالى أمر المؤمنين في موطن سابق في السورة بأكل الطيبات: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)”
ثم بعد ذلك أمر بالوصية لمن يحضره الموت, وأوعد من يبدل في الوصية, ثم أمر بالصيام, وفي آخر آية من آيات الصيام أمر بالأكل والشرب, ثم نهى هنا عن أكل المال الحرام, حتى يكون مأكل الإنسان من حلال.
وأميل إلى أن المراد في الآية هو أكل المال بين الرجل وزوجه, والإدلاء به إلى الحاكم ليحكم به إلى أحد الطرفين, فلم يقتصر الأمر على الحفاظ على العلاقة والحقوق “العلائقية” بين الطرفين, وإنما كذلك إلى الحفاظ على المال, ومن الممكن أن يكون المراد المال بين الأقارب والمعارف الذين يمكنهم أن يحضروا الوصية ومن ثم يتلاعبوا بها لمصلحتهم.
والله أعلى وأعلم.