وما الدنيا إلا مسرح .. تقليدٍ كبير!”
عبر قرون طويلة أخذ التقليد في المنظومة الفقهية الدينية منزلة كبيرة, حتى أنه لا يمكن الآن تصور وجود مسلم متدين غير مقلد! ولكن ما هو التقليد؟!
يقول ابن أمير الحاج: “التقليد: العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج الأربع الشرعية بلا حجة منها, فليس الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع منه أي من التقليد على هذا, لأن كلا منهما حجة شرعية من الحجج الأربع, وكذا ليس منه على هذا عمل العامي بقول المفتي ” اهـ
ولم يقتصر التقليد في المنظومة المنشأة على العمل, وإنما تعداه كذلك إلى الاعتقاد, فاعتقد المسلمون أحكاماً وإيمانيات –بدون عمل- استناداً إلى قول بشري –غير النبي- بدون استناده إلى دليل شرعي من كتاب وسنة (وإجماع وقياس), واعتبروا قول (فتوى) إنسان بشرٍ مثلهم حجة شرعية يُعتمد عليها! ولم يكن هذا المسلك معروفاً في القرون الأولى من الإسلام,وإنما هو مما ظهر لاحقاً,
ولقد انتقد الإمام ابن حزم هذا المسلك, فقال:
“وليعلم مَن قرأ كتابنا، أن هذه البدعة العظيمة –نعني التقليد– إنما حدثت في الناس وابتُدئ بها بعد الأربعين ومئة من تاريخ الهجرة، وبعد أزيد من مئة عام وثلاثين عاماً بعد وفاة رسول الله. وأنه لم يكن قط في الإسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحدٌ فصاعداً على هذه البدعة، ولا وجد فيهم رجل يقلد عالماً بعينه، فيتبع أقواله في الفتيا، فيأخذ بها ولا يخالف شيئاً منها.
ثم ابتدأت هذه البدعة من حين ذكرنا في العصر الرابع في القرن المذموم، ثم لم تزل تزيد حتى عمَّت بعد المئتين من الهجرة عموماً طبق الأرض، إلا من عصم الله –عز وجل– وتمسك بالأمر الأول الذي كان عليه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين بلا خلاف من أحد منهم. نسأل الله تعالى أن يثبِّتنا عليه، وأن لا يعدل بنا عنه، وأن يتوب على من تورَّط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين ” اهـ
وإنكار التقليد ليس ببدع من القول, فهذا هو المشهور من قول كبار الأئمة, فلقد نهوا جميعاً عن تقليدهم, لأنهم كانوا يعلمون أن أقوالهم ما هي إلا اجتهادات وإرشادات ولا ينبغي الثبات عليها, وإنما النظر دوماً في الأدلة والخروج منها بما يتفق مع مستجدات كل عصر, إلا أن أتباعهم خالفوهم وقلدوهم وجعلوا أقوالهم دينا ثابتاً! وفي هذا يقول الإمام الشوكاني: “إن التقليد لم يحدث إلاّ بعد انقراض خير القرون ثم الّذين يلونهم، ثم الّذين يلونهم، وإن حدوث التمذهب بمذاهب الأئمة الأربعة،
إنّما كان بعد انقراض عصر الأئمة الأربعة، وإنهم كانوا على نمط من تقدمهم من السلف في هجر التقليد، وعدم الاعتداد به، وإن هذه المذاهب إنّما أحدثها عوام المقلدة لأنفسهم من دون أن يأذن بها إمام من الأئمة المجتهدين. ” اهـ
وللمرة الثانية يُحاد عن إرشادات المسار, ثم يُبرر للسير في الطريق المنحرف وجعله ديناً, فأولاً نهى الرسول عن كتابة أحاديثه وخولف وبُررت الكتابة, ثم نهى الفقهاء عن تقليدهم, وقُلدوا وبُرر التقليد! وأصبح دينا!!!
ولقد اختلف العلماء بشأن حكم هذا المسلك في دين الله, “وبالإمكان حصر تلك الأقوال وإرجاعها إلى ثلاثة: الأول: القول بالتحريم مطلقاً, وعلى رأس هذا الاتجاه ابن حزم الظاهري، والإمام الشافعي، والشوكاني، ومعتزلة بغداد، وعلماء حلب من الإمامية، وابن القيم والإخباريون من الإمامية. فابن حزم يقول: لا يحل لأحد أن يقلد أحداً، لا حياً ولا ميتاً، ومن أدعى وجوب تقليد العامي للمفتي فقد أدعى الباطل، وقال قولاً لم يأت به قط نص قرآني ولا سنة ولا إجماع ولا قياس. وقال الشافعي في منع التقليد :
“مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيها أفعى تلدغه، وهو لا يدري”.
الثاني: جواز التقليد سواءا على باب الوجوب أو الإباحة, واستدل هؤلاء المجوزون ببعض أدلة على قولهم, منها:
” … فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ” [الأنبياء : 7],
“فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ” [التوبة : 122],
والدليل الثالث دليلٌ عقلي حيث أن الاشتغال بالتقليد يؤدي إلى هلاك الحرث والنسل والله تعالى يقول :” … َمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ..[الحج : 78] ” اهـ
وسيميل القارئ إلى الرأي القائل بجواز التقليد لأن هذا هو المعتمد بين عامة المسلمين, ولبديهية راسخة لديه تقول: قد يستطيع العلماء المجتهدون استخراج الأحكام من الأدلة تبعاً للقواعد الفقهية, أما العامي فلن يستطيع استخراجها إذا نزلت به نازلة, ومن ثم فيجوز التقليد!
ولقد حاول الإمام ابن حزم تجاوز هذه الإشكالية فقال: “إنا قد بينا تحريم الله تعالى للتقليد جملة ولم يخص الله تعالى بذلك عامياً من عالم ولا عالماً من عامي, وخطاب الله تعالى متوجه إلى كل أحد فالتقليد حرام على العبد المجلوب من بلده والعامي والعذراء المخدرة والراعي في شعف الجبال كما هو حرام على العالم المتبحر ولا فرق.
والاجتهاد في طلب حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما خص المرء من دينه لازم لكل من ذكرنا كلزومه للعالم المتبحر ولا فرق, فمن قلد من كل من ذكرنا فقد عصى الله عز وجل وأثم ولكن يختلفون في كيفية الاجتهاد فلا يلزم المرء منه إلا مقدار ما يستطيع عليه (….)
فاجتهاد العامي إذا سأل العالم على أمور دينه فأفتاه أن يقول له هكذا أمر الله ورسوله فإن قال له نعم أخذ بقوله ولم يلزمه أكثر من هذا البحث, وإن قال له: لا أو قال له: هذا قولي. أو قال له: هذا قول مالك أو ابن القاسم أو أبي حنيفة أو أبي يوسف أو الشافعي أو أحمد أو داود أو سمى له أحد من صاحب أو تابع فمن دونهما غير النبي صلى الله عليه وسلم أو انتهزه أو سكت عنه فحرام على السائل أن يأخذ بفتياه, وفرض عليه أن يسأل غيره من العلماء وأن يطلبه حيث كان إذ إنما يسأل المسلم من سأل من العلماء عن نازلة تنزل به ليخبره بحكم الله تعالى وحكم محمد (…)
وفرض على الفقيه إذا علم أن الذي أفتاه به هو في نص القرآن والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الإجماع أن يقول له نعم هكذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم, وحرام عليه أن ينسب إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم شيئا قاله بقياس أو استحسان أو تقليد لأحد دون النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إن فعل ذلك كان بذلك كاذباً على رسوله عليه السلام ومقوّلا له ما لم يقل ” اهـ
ورد ابن حزم على إشكالية تقليد العامي مقبولٌ, وإن كان شكلياً, فهو وإن أزال مصادر “قيود” كثيرة تُعتبر من الدين مكتفياً بالكتاب والسنة –تبعاً لتأصيله-, إلا أنه يتقبل أن لا يكون العامي عارفاً بأمور من دينه ويكتفي فيها بسؤال العالم, فإن قال له أن هذا قول الله أو رسوله اكتفي بهذا!
وهذا راجع إلى قبول ابن حزم لتقسيم الفقهاءِ المسلمينَ إلى مجتهد وعامي! –بدون مستندٍ نصي لهذا التقسيم- والذي أصّل الفقهاء له, كأنه أمر مقبول, لم يأت الدين لتغييره! بتصورهم الدين كماً هائلٍ من المراجع, لا يستطيع العامي الإحاطة بها إلا بتفرغٍ تام لها, ولو حدث هذا لانقطع الحرث والنسل, وتعطلت الحرف والصنائع ولخربت الدنيا! –كما قال أبو حامد الغزالي-! وكأن الله أنزل ديناً ليعطل الناس ويخرب الدنيا, ولم ينزله ليربيهم وليهذبهم وليجعلهم أقوى وأقدر وأعدل وأقسط, وبهذا تفتح عليهم البركات: “وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ … [الأعراف : 96]”
إن قول الفقهاء بالتقليد كان الفاقرة التي قصمت الدين والتدين! والتي جعلت المسلمين متدينين بالاسم والوراثة, وهم ليسوا كذلك! فالله أنزل الكتاب رسالة لكل الناس, وكان المطلوب منهم كلهم بلا استثناء مطلباً صريحا أن يتدبروا آياته: “كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ … [ص : 29]“
, وبهذا يحققوا الإيمان في قلوبهم والوعى في عقولهم, إلا أن الفقهاء لمّا كبّروا الدين وضخّموه وعقّدوه وجدوا أنه لا يمكن للمسلم فعلاً أن يحيط بالدين علماً وإلا لترك دنياه! ومن ثم قالوا بجواز التقليد!
أي تلقي التعليمات والتوجيهات المباشرة منهم على هيئة قوانين, مصاغة بصياغة بشرية! مغلفة بغلافٍ من المواعظ التزهيدية الترهيبية المغرقة في الخرافات والمبالغات! ولم تفلح كل مجهودات الفقهاء مع المسلمين اسماً, الذين لا عرَفوا كتاب ربهم ولا تدبروه!!
والذين حُذروا أصلاً من محاولة فهمه لأنه لا يمكن فهمه كما هو, بدون الرجوع إلى الأصول التفسيرية العظيمة! ومن ثم عمّت الأمية الدينية والجاهلية القلْبية!
وظهرت أجيال (المفترض أنها) مؤمنة, بلا يقين ولا شعور ولا علم! وأصبح الدين أمراً يمكن للمسلم أن يعيش بدونه, بل عليه أن يعيش بدونه! إذ ليس في وسعه معرفة هذا الدين! ومن ثم وقع ضحية تقليد فقهاء المسلمين لطبقة رجال دين/ كهان الأديان الأخرى, الذين يستفتيهم العوام ويتخذونهم مرجعية (والواقع: أرباباً), فما كان من فقهاءنا إلا أن شكلوا أخرى مماثلة في الدين الإسلامي!
ونحن إذ ننقد التقليد فإننا لا نكتفي بنقد تقليد الفقهاء, وإنما نرفض فكرة التقليد من الألف إلى الياء لتعارضها مع مضمون الدين وغايته ولتهميشه, ولأنه ليس المنهج النبوي الذي طبقه الرسول المصطفى, ولأنه ليس جبرية فكرية تزكوية لا يمكن تجاوزها, يجب القبول بها والرضوخ لها!
فبحلٍ جد بسيط لا نكون بحاجة إلى التقليد ونسقطه من حياة المسلم, وهو: تلقين أحكام كتاب الله للمسلمين وحصراً ما يندرج تحته من السنة أثناء سنواتهم الدراسية! (وليس كل الأقوال والآراء الفقهية المتعددة!) وأعتقد أن إيصال هذا العدد المحدود من الأوامر والنواهي مفرقة على السنوات الدراسية الطويلة, في قالب أخلاقي عقلاني يبين الفوائد والآثار الإيجابية لها ومضار تركها, أعتقد أنه أمر جد يسير, بينما يقدم لهم في السنوات الدراسية الأولى الآداب الأخلاقية والهدي النبوي, يربون عليها .
وبهذا يكون لدى المسلم المعرفة بأحكام كتاب ربه! وما استجد من الأمور وحدث وتعرض له الإنسان فعليه أن يُعمل فكره تبعاً لما لُقنه من كتاب الله! فإن لم يستطع الوصول إلى قرار فليسأل أكثر من عالم من تيارات مختلفة, حتى يرى الأمر من أكثر من منظور, يمكنه من خلالها أن يقتنع برأي أحدهم, فإن اطمئن قلبه إليه وتيقن به, تديّنَ به وعمل به. وليس هذا من التقليد,
فليس لزامٌ على كل مسلم أن يكون قانونيا أصولياً, وإنما واجب عليه معرفة هذا الكتاب والتهذب به وتكوين عقليته تبعاً له! فما زاد عنه يُستشار فيه!
تقليدٌ أم اتباع؟!
“وتوالت أجيال الأمة الإسلامية بدون أن تنجح في غرس كتاب في صدور أبناءها”
ليس من الكافي بحالٍ الحديث عن إبطال تقليد الفقهاء, بدون العودة إلى أصل المسألة, وأصلها هو حث بعض صغار الصحابة والتابعين على تقليد كل أفعال النبي, والالتزام بكل كلمةٍ قالها في موقفٍ ما! بغض النظر عن الموقف التي قيلت فيه, أو المقام الذي صدرت تبعاً له.
ولأن لكل مقامٍ مقال, ولكل ظرف ما يناسبه لم يكن هذا التوجه مقنعاً لبعض من يُفتَون به! لأنهم أيقنوا بعقولهم وفطرتهم أنهم غير مطالبين بهذه الأقوال ولا التطبيقات التي قام بها النبي, فما قام به تبعاً للقرآن فبها ونعمت, وما ليس فهي أقوال وأفعال في مناسبات خاصة (حادثة عين) ولا ينبغي أن يطالب بتقليدها كل مسلم, وإنما عليه أن يأتي بما يؤدي إلى نفس الهدف, فالفعل وسية وليس غاية في نفسه!
ولم يُعجب هذا الرفض التابعين الآمرين ورأوا فيه انحرافاً وميلاً عن هدي النبي, ومن ثم تمسك بعضهم بأفعال وأقوال النبي المروية عنها, واعتبروا هذه الأفعال والأقوال والحفاظ عليها مطلبا لذاته, -وليس أنها وسيلة تربوية تهذيبية- وأخذوا في الدفاع عنها!
وهكذا تماهت الحدود بين الوسيلة والغاية, بل وأصبحت الوسيلة هي نفسها غاية!! وفي تلك الحقبة كانت بداية مرحلة التقعيد والتأصيل للدين الإسلامي, والتي كُتب فيها لهذا التوجه الانتصار, ومن ثم أصبحت هذه الأفعال والأقوال هي سنة النبي (وليس الأدوار التي قام بها!) والتي عرفوها بأنها:
“كل ما صدر عن النبي من قولٍ أو فعلٍ أو عملٍ أو إقرار.”
ومن ثم أصبح لا يُعرف إسلام إلا بالأخذ بهذه الأقوال وتقليد هذه الأفعال ومن لا يفعل مثل ما فعل النبي في أقواله وأفعاله فهو مبتدعٍ أو ضال!!
وهنا وبعد هذا الحكم الخطير الذي أصدره الفقهاء في حق المخالف نتوقف لنتساءل: هل لهم مستندٌ في هذا الحكم الخطير من كتابٍ أو سنة؟!
سيأتي الرد بأن نعم, كثيرٌ مثل قول الرب الحكيم: “قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ .. [آل عمران : 31]”, ومثل أمر النبي بالتمسك بالسنة “عليكم بسنتي”. وبغض الطرف عن كون الآية في مخاطبة أهل الكتاب آمرة إياهم باتباع النبي, فإن الآية تأمر بالاتباع وليس التقليد! والحديث ليس صحيحا, وعلى فرض صحته, فهل قال الرسول أن سنته هي كل ما صدر عنه, أم أن هذا من أقوال الفقهاء؟!
إن الناظر في كلام النبي المجتبى يجد أنه يستخدم كلمة “السنة” كدلالة على المنهج الإسلامي القويم المخالف لمناهج الأمم السابقة –وليس كل أفعاله وحركاته وسكناته- ويظهر هذا جلياً في الحديث الذي رواه البخاري عن “حُمَيْدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا, أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ, فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ” اهـ,
وفي رواية أبي داود له: “عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ أَرَغِبْتَ عَنْ سُنَّتِي؟ قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ. قَالَ: فَإِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ, فَاتَّقِ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَصَلِّ وَنَمْ ” اهـ
فهنا ثمة أفراد يريدون الزيادة في العبادة بالإتيان بأفعال -مخالفة للفطرة- يظنون أنها قربة إلى الله, فاعتبر النبي أن هذه الأفعال مخالفة لسنته (لمنهجه/ لهدي الإسلام) وهو: موافقة الفطرة والإصغاء إلى احتياجات الإنسان وعدم تضييع الدنيا من أجل الشعائر, ونهاهم عن مسلكهم هذا, وأمرهم بالوسطية حسبما يستطيعون, ولم يقل لهم: سنتي في الصوم الاثنين والخميس أو في النكاح كذا أو في الصلاة كذا!!
إذا فاستعمال النبي للمفردة مخالف للمعنى اللاحق المُكسب لها , فبأي المعنيين نأخذ؟! الآن أمامنا قولان: رأي يرى تقليد أفعال النبي والالتزام بكل أقواله, والآخر يرى القيام بأدواره واتباع منهجه للوصول إلى الغايات التي جاء لتحقيقها, فأي التوجهين أراد النبي؟!
نقول: لو كان النبي مريداً للالتزام بكل أقواله وأفعاله, التابعة للقرآن والزائدة عنه, وتلك التي صدرت عنه بأي مقام, لأمر بكتابتها وتسجيلها, ولكن المشاهَد هو أن النبي نهى عن كتابة حديثه, ومن ثم فلا يمكن أن يكون المراد من السنة هو ذات الأفعال والأقوال, وأنها الإمكانية الوحيدة لتطبيق القرآن, وأنها مطلوبة لذاتها! وإنما هي غايات!
فالرسول الأعظم نهى عن كتابة حديثه لأنه كان يريد التعامل الحرفي مع كتاب الله بينما يبقى من فعله وأقواله الروح والمنهج وليست الطريقة ذاتها, لأنها مما يختلف باختلاف الزمان والمكان وعادات الناس وأعرافهم, أما كتاب الله فهو الخالد الباقي معهم والمطالبون به إلى قيام الساعة.
فلا يعني فعل النبي شيئاً بطريقةٍ ما أنه الإمكانية الوحيدة, ولأن العرب كانوا “حفاظا متشربون متشبعون بالآبائية”, حوّلوا “الجائز” إلى واجب, ومن ثم أصبح فعل النبي هو الإمكانية الوحيدة, بدون دليلٍ صريح على أنه ليس للمسلم أن يؤدي بطريقة أخرى!
وحتى لا نطيل الاستدلال نلقي السؤال المحوري الحاسم في هذه القضية:
هل أمر النبي الكريم أحداً بتقليده كسبيل للنجاة والفلاح؟!
سؤال صادم للقراء! ولكن لنسترجع بذاكرتنا هدي النبي الإرشادي التهذيبي مع كل من سألوه! هل قال لأحدهم: قلدني! انظر ماذا أفعل وقم به؟!
لم يقل النبي الكريم هذا لأي ممن جاءوا يسألونه عن الدين أو يتعلمون منه, وإنما كان يأمرهم بالفروض وأسس الدين!
فمن ذلك ما روي عن
” طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ, حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. فَقَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَصِيَامُ رَمَضَانَ. قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ, قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ ” اهـ
والرسول الكريم عندما كان يبعث الدعاة إلى البلاد الأخرى لم يأمر أحداً منهم أن يأمر الناس بتقليده, وإنما كان يأمره أن يدعوهم إلى أصول الدين, مثل ما روي “عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ, وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ” اهـ
وكما رأينا فلم يكن للتقليد أي ذكر في الوصية النبوية! وحتى لا يقال أن هذه الوصايا حالات استثنائية تخاطب أقواماً حديثي عهد بإيمان فلا يُثقل عليهم مرة واحدة بالفرائض والسنن فلا يطيقون, نقول: بغض النظر عن أن هذا الهدي النبوي مأخوذ من الهدي القرآني, والذي اكتفى في الحكم بإسلام أقوام بإقامتهم الصلاة وإيتاءهم الزكاة, بغض النظر عن هذا نسأل:
هل كان هدي النبي مع أصحابه المقيمين معه يختلف عن هديه مع هؤلاء السائلين؟!
وتأتي الإجابة بأن لا, فلم يأمر النبي الكريم أصحابه بزيادة عما أمر به غير الملازمين له, فلقد كانت للرسول عبادات مخصوصة يقوم بها سراً ولا يريد أن يقيد بها أمته أو يحملها ما لا تطيق, وذلك لتعلق قلبه الشديد بربه, والذي كان يدفعه إلى إتيان مثل هذه العبادات متلذذا بها, -وليس كل الناس كذلك-
وكان بعض الصحابة يريدون معرفتها ليقتدوا به, لظنهم أن هذا أفضل آداء! ثم بعد سنوات طوال من وفاة الرسول أخذ بعضهم في حث المسلمين الجدد عليها, بدلاً من أن يتركوهم على الهدي النبوي بترك التطوع الفردي لكل شخص, يحدده حسب احتياجاته.
ولأن هذا التصور الذي نقدمه غير مألوف ندلل عليه بما يُعرف ب: سنن الصلاة!
المتعارف عليه بين المسلمين أنه من السنة أن يصلي المرء في اليوم والليلة اثنتي عشرة ركعة غير المكتوبة, اقتداءً بالنبي الكريم. وهنا نتساءل: أين أمر النبي أصحابه بهذه الصلوات؟!
الناظر يجد أن الرسول الكريم كان يصلي المكتوبات بالناس ثم يدخل فيصلي لله تطوعاً في بيته! كما روي: “عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَطَوُّعِهِ, فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ وَيَدْخُلُ بَيْتِي فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَكَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ فِيهِنَّ الْوِتْرُ, وَكَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلًا قَائِمًا وَلَيْلًا طَوِيلًا قَاعِدًا, وَكَانَ إِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ وَإِذَا قَرَأَ قَاعِدًا رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ وَكَانَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ” اهـ
إذا فالنبي كان يصلي هذه الركعات تقرباً إلى الله ولم يأمر أصحابه بها, ثم جاء عبد الله بن شفيق هذا يسأل عنها فعرفها الناس والتزموها لاحقاً! ولا يخفي علينا وجود روايات عن النبي تحث على هذه الركعات,
مثل ما روي “عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَجْدَةً سِوَى الْمَكْتُوبَةِ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ ” اه
ـ
إلا أن الناظر يجد أن هذه الروايات جاءت موقوفة على راويها, فابن أبي شيبة يروي هذه الرواية موقوفة على أم حبيبة: “..عن عنسبة بن أبي سفيان عن أم حبيبة بنت أبي سفيان ولم يرفعه قالت: من صلى في يوم ثنتي عشرة سجدة سوى المكتوبة بني له بيت في الجنة. ” اهـ
فهذه المقولة من قول أم حبيبة كموعظة للمسلمين, لما رأته من فعل النبي, ثم رُفعت إلى النبي! ولا يقتصر الأمر على أم حبيبة وإنما يتعداه كذلك إلى كعب! فيروى: “.. عن ابن بريد عن كعب قال: ثنتا عشرة ركعة من صلاها في يوم سوى المكتوبة دخل الجنة أو بني له بيتا في الجنة …” اهـ
ومن ثم فالتوصية بالأداء كان من الصحابة والتابعين ثم رُفع إلى النبي! والهدي النبوي صريح بأن النبي لم يحث أحداً من أصحابه على الالتزام بفعله الشخصي, فالملاحظ أنه ترك مسألة التطوع هذه لهم! فعندما كان السائل يسأله: هل علي غيرها؟
كان يقول له: لا إلا أن تطوع! وترك مسألة التطوع هذه للسائل, فلم يقل له: تطوع مثلي! فتفعل كذا وكذا!
وإنما يتطوع المرء بحسب شعوره بحاجته للتقرب إلى الله, فالنبي الكريم لم يكن يصلي هذه الركعات لكي يشرع لنا كيف نصلي فوق المكتوبة, وإنما لرغبته ولشعوره بالحاجة إلى مزيدِ وقوف بين يدي ربه يناجيه ويتقرب إليه ويغمر قلبه بفيوض الرحمن! ولهذا كان يؤدي هذه الصلوات في بيته –
كما كان يفعل في القيام في رمضان, لما رأى أصحابه قلدوه فدخل وصلى في بيته-, لهذا لا ينبغي للمسلم أن يصلي تطوعاً إلا إذا شعر بتقصير في صلاته يدفعه إلى استدراك بتقديم ركعات إضافية لله يعوض فيها ما قصر, أو لم يقصر ولكنه يشعر برغبة في الوقوف بين يدي الله ليناجيه, وأن الصلاة المكتوبة لم تُشبعه, فيصلي لحاجته للصلاة وليس تقليداً للرسول لأنه كان يصلي لله!
فلا تلزم نفسك بما لا يجب عليك فتصلي صلوات تطوعاً تحتاج إلى الاستغفار منها, ركعات لا روح فيها عبارة عن حركات لا خضوع للقلب فيها ولا خشوع, وإنما جسد يتحرك وذهن شارد وقلب تائه! ورغماً عن ذلك تؤديها لأن الرسول فعل هذا! وفارق بين ركعات كتبها الله علينا نناجيه فيها, وأخرى نزعم أننا نتقرب إليها بها, ولا نؤدي إلا حركات جسدية!
وما قيل في الصلاة يقال كذلك في الصيام, فالنبي كان يصوم وكان أصحابه يصومون كذلك, تزكية لأنفسهم وتطهيراً لها, ولمّا سُئل عن صومه غضب! كما روي “عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ صَوْمِهِ فَغَضِبَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا … ” اهـ
فلماذا غضب النبي, أليس فعله سنة, ينبغي أن يعلمه الناس؟! لا, هذا زعم الفقهاء, أما هدي النبي فهو ترك التطوع للمسلمين يحددونه تبعاً لاحتياجاتهم بدون تطرف ولا مبالغة! فلما حدث أن بالغ بعض أصحاب النبي الكريم في العبادة,
مثل ما روي عن: “عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ لي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ لَتَصُومُ الدَّهْرَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟! فَقُلْتُ نَعَمْ. قَالَ: إِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ لَا صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ, صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ. قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى ” اهـ
فكما رأينا فالنبي لم يحث على الصوم ابتداءً في هذا الحديث وليس هذا بهدي لكل المسلمين, وإنما هو طلب تخفيف لمن يكاد يهلك نفسه عبادة! والملاحظ في هذا الحديث أن ابن عمرو –والصحابة- كانوا يتطوعون في الصيام كما يشاءون, فالنبي ترك مسألة التطوع للجميع ولم يحد لهم فيها سنة, ولكن لمّا علم النبي بتطرف ابن عمرو ومبالغته, لم يعنفه ويقل له: خالفت السنة, أو كيف تصوم هكذا بدون أن ترجع إلي؟! وإنما حدثه عن إجهاد صحته وتنفير نفسه بهذا الفعل الشديد, ثم حد له قدراً مخففا!
ومن ثم فهذا القدر المحدد ليس مطلوباً لذاته, يتطوع به المسلمون, وإنما نصيحة لفرد, تصلح فقط لمخاطبة من يكثرون من الصيام تقرباً إلى الله, فتوجههم إلى عدم إهلاك صحتهم وأجسادهم, وليس دعوة إلى الصيام بهذا الشكل تطوعا!!
والملاحظ أن الأحاديث الواردة في الصيام كانت على هذا المنوال, مثل ما روي “عن عمرو بن شرحبيل عن رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل: يا رسول الله! أرأيت رجلا صام الدهر كله؟ قال: وددت أنه لا يطعم الدهر شيئا، قال: فثلثيه؟ قال: أكثر، قال: فنصفه؟ قال: أكثر، قال: فثلثه؟ قال: لم ينزل، أفلا أخبركم بما يذهب وحر الصدر, صيام ثلاثة أيام من كل شهر ” اهـ
وكذلك ما روي “عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَال سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا صُمْتَ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصُمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ ” اهـ
فنلاحظ أن النبي يرجع الأمر إلى أبي ذر! “إذا صمت”, ولم يقل له: عليك بالصيام ثلاثة أيام في الشهر ولتكن كذا! كما لم يقل للمسلمين: عليكم بصيام كذا!
إذا فالوصايا النبوية بالصيام تطوعاً كانت توجيها لمن يبالغ في الصيام بأن قلل! وليس بأن أنشئوا الصيام ابتداءً في أيام كذا وكذا ! ومن ثم فلا ينبغي أن يصوم المسلم إلا إذا أراد التقرب إلى الله وتطهير نفسه, وليس لأن النبي كان يصوم!
فالصوم لتحقيق التقوى فإذا شعرت أن بنفسك دنس أو بعدٌ عن الله أو قسوة, فصم وليكن الصوم ثلاثة أيام متتالية –كما جاء عن النبي- حتى تؤثر في نفسك, فتأثير صيام يوم واحد على النفس يسير! وتصوم وتكثر من قراءة القرآن والذكر بهذا يؤثر فيك الصوم ويعطي ثمرة! وليس مجرد امتناع عن طعام وشراب وجنس, بدون أي نية أو شعور بالحاجة لتطهير النفس!
وما قيل هنا يقال في كثير من أوامر أخرى للرسول, فهي قيلت في مناسبات معينة, ثم عُممت وأصبحت سنة على الأمة الالتزام بها, مثل الأمر بالنكاح والإنجاب, والذي كان كرد فعل على من أرادوا الترهبن!! فبيّن الرسول أن هذا لا يتفق مع دور المسلم في الحياة كمعمر عليه أن يعمل ويتزوج وينجب .
ولمّا أسس الفقهاء الدين على التقليد, تقليد الرسول, كان من المنطقي الوصول إلى القول بتقليد الفقهاء أنفسهم! فكما قلّد المسلمون الرسول في تطبيقه ما بلغه عن ربه وكان هذا التقليد ديناً وعبادة, فكذلك على المسلمين تقليدهم فيما يستخرجونه من دين الله! فقولهم كذلك دين يُتعبد به!!
وختاماً أقول: لو أراد الله مقلدين لفصل لهم كل كبيرة وصغيرة, فهناك أمور محورية تستهلك الجزء الأكبر من الحياة لم يقل لنا الله ولا الرسول كيف نتعامل فيها! مثل معاملة الرجل لزوجه! ماذا يقول لها إذا قالت كذا وكيف يكون رد فعله إذا فعلت كذا! وكذلك المراحل والخطوات التفصيلية لتربية الأبناء! وكيف أعامل جيراني وزملائي في العمل …. الخ!
فما هي الاستفادة الروحية التزكوية التي ترسخت في الإنسان من تلك الإلزامات الكثيرة العديدة سوى إلغاء الشخصية وتحويل الإنسان إلى آلة مكرورة؟! وهو العظيم المتعال لم يخلقنا آلات مقلدة وإنما أسياداً مبدعة!