حول “حمولات” الأسماء!

عندما يسمع الواحد منا “فعلا” فإنه ذهنه ينصرف إلى “حدث” ما, هو “مطابق/ مدلول” هذا الفعل على أرض الواقع, فعندما نقول: “يأكل” ينصرف الذهن إلى وضع الطعام في الفم ومضغه وبلعه .. الخ,
وكذلك الحال مع الصفات, فعندما يقال فلان “طويل” أو “قصير”, فإن هناك تصور “مشترك/ متوسط” ينصرف الذهن إليه, كمدلول لهذه الصفة!
ورغما عن أن الأفعال والصفات والأسماء حُملت دلالات تاريخية, إلا أن هذه “الحمولات” هي في الأسماء أوضح منها بكثير في الأفعال أو الصفات,
حتى أن الإنسان غير المتخصص يستطيع أن يلاحظ هذه الحمولات “التاريخية”, وكيف ولماذا ظهر هذا الاسم! إلا أنه غالباً ما لا يُنتبه إلى هذا, لقيام السامع بإسقاط الاسم على مدلوله “المعاصر” الذي وجده مربوطاً به!

وبالإضافة لاستكشاف الجذور التاريخية فإن ملاحظة هذه الحمولات جد مهم في عملية الترجمة, وفي المقارنة بين اللغات, كيف رأى كل “مجتمع بشري” شيئا ما, وكيف عبروا عنه, وفي أي مرحلة تاريخية ظهر, وما هي “الحمولات المجازية” التي يمكن تحميلها للفظ في لغة ما,

وهل يمكن لمقابل هذا اللفظ في لغة أخرى أن يتحملها, أم لا يمكنه, وما هو البديل الذي يمكن أن يحل محله!

وفي هذا المقال سنحاول أن نلفت “عين وأذن” القارئ إلى هذه الدلالات المبطنة في الأسماء, وأن ندفعه للتساؤل حول الأسماء, لم سُمي كذا بهذا الاسم (ولا نقصد هنا بداية التسمية في أول تاريخ الإنسان, فقد تناولناها في مقالات سابقة) آملين أن نضع لبنة أولى في إنشاء “حس لغوي” قوي عنده, يمكنه أن يرتقي في مرحلة لاحقة إلى مرحلة “فقه اللغة”,

ولنبدأ ببعض أسماء مدن ومحافظات مصر:
“مديرية” الغربية سميت بذلك لأنها تقع غرب فرع النيل “دمياط”, بينما سميت الشرقية بذلك لأنها شرقه, سميت كفر الشيخ بهذا الاسم تيمنا ب “ولي” من أولياء الله: الشيخ طلحة التلمساني, وكان اسم قرية, ثم عُمم على المحافظة بأكملها بعد أن فُصلت عن: الغربية, (وتسمية مدن/ محافظات/ دول بأسماء مناطق صغيرة أمر مألوف عبر التاريخ)
القاهرة سُميت بهذا لكونها مدينة بنيت كعاصمة لغزاة يقهرون أعداءهم!
المنصورة تيمنا بالنصر على الفرنسيس! الجيزة (من: جاز, التجاوز) جانب الوادي! والمنيا كانت في الأصل: مُنية (أمنية) وكانت تُكتب هكذا حتى بدايات القرن العشرين!
وبني سويف هم بنو (قبيلة) سويف! بور فؤاد, بورسعيد والإسماعيلية: مدن حديثة, سميت بأسماء منشئيها. ومثلهم: الأسكندرية (وإن كان من المفترض أن تسمى ب: الكساندرية, فالقائد اليوناني الكبير كان اسمه: اليكساندر!! ولكنها عادة العرب المقيتة تكسير الأسماء الأجنبية!!).
والظريف أن “اليكساندرية” هذه كانت مدينة صوفية, ويظهر هذا في أسماء مناطقها: سيدي بشر (الحافي), سيدي جابر, الشاطبي, المرسي أبو العباس. وورود كلمة: “سيدي” كاسم لمنطقة, يعني أنها كانت مقر ل “صوفي”. وكذلك: القسطنطينية سُميت على اسم منشئها: قسطنطين! وأمريكا نسبة لاسم مكتشفها!!!!: أمريجو فيسوبتشي!

وباختصار تأمل الاسم وحاول ربطه بدلالاته في اللغة, وكذلك حاول أن تنطقه بشكل مختلف, فمثلا: قرية: الراهَبين, لو كسرنا الهاء يصبح معناها مفهوما, فهناك كان يعيش: راهبان!! وإن لم تفلح التحويلات والتقليبات في إيجاد مشابه في لغتنا المستخدمة فهو في الغالب غير عربي, مثل: دمياط (فرعوني: سكان الميناء), طلخا: اسم أميرة فرعونية (كان: طرخا, ثم حرف ل: طلخا).

ولنترك أسماء المدن وننتقل إلى أسماء الأشخاص, والتي نسمعها ولا نلتفت إلى “مدلولاتها”, فنسمع: فلان اسمه كذا. وما المشكلة, هو اسمه كذا, وغالباً لا يلتفت إلى أسماء الأشخاص إلا الأجانب, (ونحن كذلك ننتبه لمعاني أسماء الأشخاص الأجنبية ونضحك منها): خالد (من الخلود), ذكي, عباس (كثير العبوس) جميلة, ناهد!! قمر! أمينة! مُنى/ أماني (جمع: أمنية) .. الخ, وكذلك: هدى, دعاء, إيمان, إسلام, محمد: (المحمود كثيراً) عبد ال …, وانتشار هذه الأسماء في عصرٍ ما يشير إلى سيادة جو من التدين, يرغب في التبرك بمثل هذه الأسماء, كنوع من إعلان العلاقة بالرب, والرغبة في الحصول على “حفظ” مخصوص من الرب, بينما تراجعت هذه الأسماء في عصرنا الحالي

وأصبح الهدف الأكبر من الأسماء حاليا هو تقديم اسم “مميز” مختلف عن الآخرين, حتى وإن لم يكن عربيا, بل ربما يُحبذ ألا يكون عربيا!! ولهذا ظهرت كمية كبيرة من الأسماء, وخاصة للبنات, لا نعرف لها معنى!! وهذا يشير إلى أن الدين لم يعد المكون الثقافي والوجداني الأكبر عند الشعب, وأن هناك مكونات أخرى أصبحت أكثر حضورا لديهم.


وإذا تركنا الأسماء الأولى وانتقلنا إلى أسماء العائلات, والتي غالبا ما تشير إلى مهن: الشاعر, الحداد, النجار, أو تشير إلى أصل الجد الأكبر للعائلة والذي انتقل منها إلى بلد أخرى, فكان أصله علامة مميزة له, وإلا فلن يُلقب فلان ب “الصعيدي”, وهو يعيش في صعيد مصر!!
لذلك عندما تسمع اسم عائلة منتهٍ بالياء, فاخلع هذه الياء وانظر في الاسم بدونها تعرف أصله, ففلان: الشربيني, جده كان من مدينة شربين, الشرقاوي: من الشرقية, وكان لي صديق من كفر الشيخ من عائلة: الطنطاوي (جده أصله من: طنطا), وكذلك: الدياسطي (نسبة لقرية), والسمنودي نسبة: لسمنود, مدينة صغيرة في دلتا مصر, كانت عاصمة لمصر الفرعونية في نهاية العصر الفرعوني, وكذلك فلان العجمي, يعني أن جده لم يكن مصريا, وغالبا كان فارسيا, وكذلك فلان: الرومي أو التركي. والظريف أني لي صديق من قريتي من عائلة: العساسي! وهذا جده انتقل إلى قرية ما فنُسب لقريتنا, ثم عاد أحفاده إلى القرية!

فإذا تركنا الأسماء الحقيقة وانتقلنا إلى الأسماء التي يوصم بها الإنسان سواء سباباً أو مدحا, فنجد أن السائد في كل الثقافات أن الإنسان يُسب بأسماء الحيوانات, فيُرمى بأنه –ابن- كلب, أو حمار … الخ, وذلك للمعاني السلبية الظاهرة في هذه الحيوانات, فنعت الإنسان بالحمار مثلاً إشارة إلى غباءه! (المفترض: عناده),
بينما يُرمى الغبي مثلاً في ألمانيا ب: البقرة, والكلب إشارة إلى الذلة (والسبة الانجليزية الشهيرة: بيتش: العاهرة, هي في الأساس: أنثى الكلب, واعتقد أن التشبيه مفهوم!!),
بينما توصف المرأة مثلا بالعصفور لعذوبة الصوت, أو الهرة للدلال والنعومة (وهو كذلك في غير ثقافتنا العربية), وهذا الوصف قديم قدم الجاهلية: ودع هريرة إن الركب مرتحل.),
وتوصف المرأة في ثقافتنا المصرية بالبطة, تشبيها لها بمشية الدلال المتراقصة الشهيرة للبط! وتوصف كذلك بالغزال للرشاقة والتناسق, بل إن أجزاء الجسم نفسها تُعطى أسماء معينة قد تظل ثابتة, فنجد مثلا أن مؤخرة المرأة تُسمى حاليا ب “الشُنط”, وقديما كانت تسمى ب: “الحقائب”!!!, وخدود كالتفاح .. بجامع الاحمرار والنضارة فيهما!

فإذا تركنا أسماء الأشخاص وانتقلنا إلى أسماء المؤسسات, نجد أنها غالبا ما تكون زاعقة, فالمرء يسمي متجره/ مصنعه باسم شديد الوضوح, يلفت الانتباه إلى جودة و “أصالة” منتجه, فبائعو البن يتفننون في وصفه ب “اليمني”, ومن يكون المصدر الرئيس لمنتجاته هو ألمانيا مثلا, يسمي محله ب: الألمانية لكذا, أو: الشركة المصرية الألمانية! والعرب في البلاد الغربية يسمون متاجرهم –غالبا- بأسماء عربية وربما بأسماء بلادهم تحديدا,

وقد تكون الأسماء غير زاعقة ولكنها: رمزية, فنجد محلات الحلويات تحمل أسماء نباتات مسكرة, مثل: كريز أو كمثرى (لابوار), أو: شهد! وبقدر “الجدة” والقصر يُعتبر الاسم راقيا أو مبتذلا! فلا يُستحب التسمية بأسماء طويلة.
فإذا انتقلنا إلى المنتجات نفسها,
نجد مثلاً أن منتج فك تعقيدات الملابس بعد غسلها, لكي يعطيها نعومة سُمي ب: “داوني” والذي ترجمته: ناعم, زَغبي (صغير الريش ولينه), وأحيانا ما يظل الاسم مع تغير مسماه, فالمقشة كانت تُصنع قديما من القش, ولهذا سُميت بهذا الاسم, والآن أصبحت تصنع من مواد أخرى ولكنها لا تزال تحمل نفس الاسم,

وكذلك “القماش” المشمع, الذي كان يُطلى بالشمع, حتى يحمي ما تحته من ماء المطر, ظهرت الآن مواد أخرى شبيه له في القوام وفي الغرض فسُميت بنفس الاسم رغماً عن أنها ليست مشمعة!! (وبشكل عام انظر في الأسماء التي تبدأ بالميم: منزل, مثلاً, وقم بفك الميم منها, وانظر فيها تعرف أصلها ومن أين أتت),

وإلى الآن لا نزال نقول “شاشة” التلفاز, وذلك لأن المادة التي كانت تُعرض عليها الأفلام السينمائية قديما كانت هي الشاش, بينما الآن هذا الجزء في التلفاز زجاجي, إلا أننا لا نزال نقول: شاشة!! والآلة إن كانت فاعلة سُميت بوظيفتها, مثل: مفتاح, وكسارة وغسالة .. الخ

ونكتفي بهذا القدر من الأسماء, فالتطواف معها طويل وواسع وأساليب العرب في التسمية كثيرة, فقد كانوا يسمون مثلاً تيمنا (تفاؤلا) فالقافلة سميت بذلك لأنها تقفل .. تذهب ثم تعود, وسموا الصحراء بالمفازة, والملدوغ بالسليم .. الخ, وغير ذلك من الأشكال, ونرجو من خلالها أن نكون قد أخذنا خطوة في لفت عين وأذن القارئ إلى حمولات الأسماء, وألا تمر على أذنه مرور الكرام أو مرور النيام .. والسلام ختام.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

توحيد الروايات

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله ربنا وخالقنا ومالك أمرنا، بيده الخلق والتدبير والتصريف، يهدي من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.