من الصعب جدا الزعم أننا كمجتمعات عربية بشكلٍ عام “متسامحون”, فالواقع خير شاهد على أننا “متعصبون”, نتعصب لآرائنا ولقبائلنا ولبلادنا .. ولا نكتفي برفض الآخر بل نستعلي عليه, فنرى أنفسنا فوقه –وبلا شك- خيراً منه! لذا, فإذا حدث واختلفنا مع الآخر استبحناه .. بمستويات عدة, على مستوى الشخص, أو الفكر, أو الأصل .. أو الجسد .. تبعاً لقدرتنا .. ومكانته!
ويُرجع كثيرٌ من الباحثين هذا التعصب إلى الدين, ويرى أن الإسلام تحديدا هو الذي أدى إلى بروز وسيادة التعصب والتطرف, بسبب منظومته التشريعية “العتيقة” القاسية, والتي لا تتناسب مع مجتمعاتنا المعاصرة! والحق أنه يمكن القول أنه يوجد في “التشريع العقابي” الإسلامي حكمان شديدان, هما جلد الزاني وقطع يد السارق, وما عدا ذلك فليس مما انفرد به الإسلام!
إلا أن العقوبات أو “الشريعة”, ليست هي ما يُنشأ تعصبا بحال من الأحوال, فهذا مما يُطبق في قاعات المحاكم بشروط معينة!! وإنما منظومة القيم هي ما تُنشأ مثل هذا التعصب أو تعمل على إضعافه!! ومن خلال النظر في مجتمعاتنا العربية نجد أن منظومة القيم السائدة فيه هي منظومة القيم “العربية” أو “القبلية” وليست الإسلامية!
والتي جاء الإسلام لتحييدها واستبدالها, وبعد وفاة الرسول, بدأت في الظهور مرة أخرى على استحياء بعد أن غيرت من جلدها ولونها, ومع الوقت تمددت وانتشرت, مع الإبقاء على بعض المظاهر الإسلامية التي لا يمكن تجاوزها! فمن ذلك مثلاً أن الإسلام أعطى المرأة الحرية في اتخاذ القرارات واعتبرها كائنا مسئولاً كالرجل, وكانت تحضر الصلاة مع الرجال وتخرج للجهاد معهم وتتزين للخطاب وتتكلم مع الرجال في كل شيء,
وكان من المفترض من المسلمين مع الوقت أن يزيدوا في حيز “الحرية” أو المسئولية الذي أعطاه الإسلام للمرأة ليواصلوا المسير على الدرب, إلا أن العكس هو الذي حدث فارتدوا على أدبارهم, فأصبحت المرأة تُمنع من الميراث كلية, أو تُعطى أي شيء –كنوع من الترضية-, حُرمت المرأة من الخروج من المنزل وألزمت بتغطية وجهها, وحُرمت من حقها في الموافقة على شريك حياتها وأصبحت تُزوج هكذا ممن يرضاه أبوها أو أهلها لها, وأصبح واجباً عليها أن تطيع زوجها … الخ
قد يقول قائل: ولكن بعض هذه الأفعال يستند إلى “أحكام دينية” فعلا؟! فأقول: نعم, بعضها يستند إلى أدلة دينية, وأكثرها لا يستند, وحتى ذلك الذي يستند, كان هناك دوما الرأي الآخر المخالف, فلماذا ساد هذا الرأي المتشدد وانتشر؟! لأنه وافق هوى الرجال, وافق هوى القبيلة, ومن ثم تم اعتماده, وأصبح هو رأي الدين, وهكذا أصبح الرجال يتحكمون في النساء ب “حكم الشرع”!!!
ما يتغافل عنه كثيرون, هو أن أكثرنا لا يعلم من الدين إلا قشوره, كما أنه لا يطبق أوامر الدين في حياته, ويسير تبعاً للعرف, وإذا حدث وخالفت أوامر الدين العرف, فإنه يطبق العرف .. إذا فالأعراف هي السائدة والمسيطرة على الجزء الأكبر من العرب –غير المتدينين- وعندما يوافق الدين هوانا نتمسك به ونطبقه .. واسأل نفسك: ما هي الأحكام الدينية المطبقة في كل أنحاء البلاد العربية من الأكثرية الساحقة إلا تلك الأحكام المتعلقة بالنساء؟!!!
فإذا تركنا المرأة وانتقلنا إلى نموذج آخر لنبين به الفارق بين منظومة الإسلام القيمية وبين واقع وأفعال المحسوبين على الإسلام, فنتحدث عن أكبر جريمة وهي: القتل, فما هو حكم: “القاتل”؟ نجد أن في كتب الفقه الإسلامي تفصيلاً طويلا حول أنواع القتل والعقوبات التي يمكن أن تنزل بالقاتل, والتي أعلاها: إعدامه! وليس أن حكم القاتل في الإسلام –هكذا على الإطلاق- هو القتل!!
وفي أيامنا هذا حدثت مشاجرة بين شابين في مدينة مصرية صغيرة حول فتاة, فقام أحدهما بجمع أصدقائه وذهبوا للآخر وضربوه بالسكين فمات!
وبعدها ظهرت دعوات للمطالبة بإعدام القاتل “محمد”, وتحولت هذه الدعوات إلى “ترند” على مواقع التواصل الاجتماعي, وأذاعت قنوات تليفزيونية مثل هذه الدعوات!
وبعد مرور بضعة أيام دخلت كتبت بوست أني ضد إعدام القاتل, لأني أرى أن المسألة مشاجرة شباب تطورت إلى قتل, وجاءتني عشرات الردود من الأصدقاء التي تستنكر مثل هذه المطالبة, وترى أن “صلاح المجتمع” هو في تطبيق العقوبات القاسية على مثل هذا الشاب الفاسد, حتى يكون عبرة لمن يعتبر, وحتى يفكر أمثاله قبل الإقدام على مثل هذه الجرائم! وأن أمثال هؤلاء لا يستحقون الرحمة … وأنني أفكر تفكيرا “مثالياً”!
وبغض النظر عن ورود رواية في موقف مشابه للحادثة التي نتحدث عنها, حيث روى ابن أبي شيبة في مصنفه:
“عن أبي هريرة قال: قتل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه إلى ولي المقتول، فقال القاتل: يا رسول الله! والله ما أردت قتله ، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم للولي: (أما إنه إن كان صادقا ثم قتلته دخلت النار). قال : فخلى سبيله.”, فلوجود شبهة في جريمة القتل توقف الولي, خوفا من أن يكون سبباً في قتل نفس “بريئة”, وهو ما يخالف موقف مئات الآلاف المطالبين لإعدامه, بدلاً من تركه للقضاء!! بغض النظر عن هذا نتوقف هنا لنتساءل: هل موقف مئات الألوف أو الملايين- الذين طالبوا بإعدام هذا الشاب وتطبيق أقسى/ أقصى العقوبات عليه ينطلق من المنظومة القيمية للإسلام؟!
ما لا يجادل فيه أحد أن الإسلام وإن أقر “عقوبات”, إلا أنه وضع شروطا صلبة لتطبيقها, وحث على العفو عن الجاني (كما رأينا مثلا في قصة حاطب بن أبي بلتعة في فتح مكة وكيف أتى بما يمكن تصنيفه: خيانة عظمى, وعفى عنه النبي), فإن لم يكن عفو فدفعها قدر المستطاع, واستقر هذا عند عامة المسلمين فنجد مثلاً أن عبد الرزاق يروي في مصنفه “عن إبراهيم قال : كان يقال : ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ،
فإذا وجدتم للمسلم مخرجا فادرؤا عنه ، فإنه أن يخطأ حاكم من حكام المسلمين في العفو خير من أن يخطأ في العقوبة” اهـ, لاحظ: “كان يقال”, فهذا كان هو العرف السائد بين الصحابة والتابعين, أن نبحث عن مخرج ل “الجاني”, وليس أن نتفنن في إلصاق التهمة به (ونفس هذه المقولة رويت منسوبة إلى السيدة عائشة ومرفوعة إلى الرسول!), وهذا ما صدر عن الرسول في مواطن عديدة
مثل ما رواه البخاري: “عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ قَالَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ قَالَ وَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللَّهِ قَالَ أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ أَوْ قَالَ حَدَّكَ”, فهذا إنسان يشعر بالندم, والرسول يبين له أن ندمه كاف لإصلاح ما بينه وبين ربه وليس شرطا أن نُنزل به العقوبة.
إذا فالمنظور الإسلامي هو أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة! وإن حدث ونُفذت العقوبة على إنسان فإنه ليس مما يُسر به الإنسان, وذلك لأن العقوبة هي في الأساس –كما قال علماء الأصول المسلمون- سيئة ومفسدة, وإنما شُرعت هذه المفسدة لدفع مفسدة أكبر, وفي هذا يروي أحمد في مسنده: ” سَمِعْتُ أَبَا مَاجِدٍ يَعْنِي الْحَنَفِيَّ قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ إِنِّي لَأَذْكُرُ أَوَّلَ رَجُلٍ قَطَعَهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ وَكَأَنَّمَا أُسِفَّ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّكَ كَرِهْتَ قَطْعَهُ قَالَ وَمَا يَمْنَعُنِي …”,
فالرسول بعد أن أقام عليه الحد كره ذلك, لأنه في النهاية إنسان! بل إن الإسلام يعتبر “العقاب” كفارة للذنب, وفي هذا يروي البخاري “عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ فَقَالَ: بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ كُلَّهَا فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ”
بل إن الإسلام يراعي الكرامة الإنسانية للجاني, فمن ذلك ما رواه “البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ”,
فالنبي يرفض أن يُلعن شخص لذنوبه المتكررة, ويرجو أن نكون عونا له فنعينه على الطاعة وعلى العودة إلى الصراط المستقيم بدلاً من أن نكون مستعلين, فنصدر عليه أحكاما بالخلود في النار أو بالطرد من رحمة الله أو أنه فاسد .. الخ
ورغما عن أن جلنا يعرف القصة الشهيرة للسيد المسيح, والذي قال فيها لليهود الذين يريدون أن يرجموا المرأة الزانية –كما جاء في إنجيل متى-: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بأول حجر”, رغما عن هذا فإننا ساعة الجد تأخذنا الحمية ونسارع بتطبيق أقسى العقوبات الممكنة, بل وقد تزيد الحمية عن بعضنا فيقوم هو بتطبيق العقوبة, وإن شئنا الدقة بالانتقام لنفسه, فيقتل “المذنب/ة” بيديه, وبالتأكيد هذا ليس من الدين في شيء, وإنما هو من عصبية “القبيلة”!
في النهاية أنا أقر أن كثيراً من المتدينين متعصبون, ولكنهم ليسوا استثناءً, فكلنا تقريبا متعصبون
وهذا التعصب راجع في الأساس للتربية الخاطئة التي تعرضوا لها, وللقيم “القبلية” السائدة في المجتمع والتي تتناقل من جيل لجيل,
ومن ثم فإن مجتمعنا لن ينصلح بتهميش الدين وتجنيبه, وإنما بإعلاء ونشر منظومته القيمة والأخلاقية, واخضاع جميع تعاملاتنا الحياتية لها, بدءً من آداب الحوار والاختلاف, وانتهاء بالعقوبات, وأنا أزعم أنها كفيلة بأن تنشأ فرداً جديداً سيستفيد منها عند وضع أسس قويمة لمجتمعات صحيحة سليمة نتعايش فيها فيما بيننا بالتي هي .. أحسن.