فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا!

حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن آية النفير في سورة التوبة:
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة : 122]والتي اضطرب المفسرون في تصورها ومن ثم في تحديد الضمائر العائدة على المجموعات المذكورة فيها, فهل ينفر من كل فرقة طائفة (للقتال ويبقى آخرون) ليتفقهوا في الدين ومن ثم ينذرونهم إذا رجعوا, أم ليتفقه النافرون (للقتال) ثم يعودون لإنذار قومهم (وكيف يتفقهون وهم خارجون للقتال أصلاً)؟!

فنجد الإمام الطبري يقول:
” وقال آخرون منهم : بل معنى ذلك :
لتفقه الطائفةُ النافرة دون المتخلفة وتحذر النافرةُ المتخلفة .
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب 

لأن الله تعالى ذكره حظر التخلف خلاف رسول الله على المؤمنين به من أهل المدينة , مدينة الرسول , ومن الأعراب لغير عذر يعذرون به إذا خرج رسول الله لغزو وجهاد عدو قبل هذه الأمة بقوله : ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله , 9 120

ثم عقب ذلك جل ثناؤه بقوله : وما كان المؤمنون لينفروا كافة فكان معلوما بذلك إذ كان قد عرفهم في الآية التي قبلها اللازم لهم من فرض النفر والمباح لهم من تركه في حال غزو رسول الله وشخوصه عن مدينته لجهاد عدو , وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خلافه إلا لعذر بعد استنهاضه بعضهم وتخليفه بعضهم أن يكون عقيب تعريفهم ذلك تعريفهم الواجب عليهم عند مقام رسول الله بمدينته وإشخاص غيره عنها , كما كان الابتداء بتعريفهم الواجب عند شخوصه وتخليفه بعضهم .

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب ,
وهو قول الحسن البصري الذي رويناه عنه ; لأن النفر(النفير) قد بينا فيما مضى أنه إذا كان مطلقا بغير صلة بشيء أن الأغلب من استعمال العرب إياه في الجهاد والغزو فإذا كان ذلك هو الأغلب من المعاني فيه , وكان جل ثناؤه قال : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين علم أن قوله : ” ليتفقهوا ” إنما هو شرط للنفر لا لغيره , إذ كان يليه دون غيره من الكلام .” اهـ

وبغض النظر عن أن الإمام الطبري رحمه الله جعل المؤمنين هم أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب -وهم في زمان نزول السورة منتشرين في أنحاء الجزيرة- فإن النقطة التي يجب التوقف معها لتحديد عود الضمائر ولإعطاء تصور سليم للآية هو معنى “النفير”, فهل النفير لا يكون إلا خروجا للقتال؟!

نقول: هذا هو المستعمل الشائع, -والذي بسبب أوجد الإشكال في الآية- إلا أن أصله –كما قال ابن فارس في المقاييس- يدل على تجاف وتباعد, …. ويوم النَّفْر: يومَ يَنفِر النّاسُ عن مِنىً.

ومن ثم يستعمل للقتال ولغيره, كما أنه يدل على التجمع للقيام إلى الشيء أو التفرق في الانفضاض أو الابتعاد عنه, وفي القرآن:
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ [المدّثر :50- 51]
كما أنه يدل على البغض والرفض للشيء, وضادت اللغة بين التبشير والتنفير, والنفر هو العدد من الرجال ما بين الثلاثة ودون العشرة.

ولقد استعمله الله تعالى بمعنى مجرد الخروج, فالله تعالى قال:
” انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ “
فأمر بالنفير وبالجهاد, ومن ثم فالجهاد غير النفير, وفي آية آخر سورة التوبة أمر الله تعالى بالنفير للتفقه في الدين, ومن ثم فالنفير للتفقه في الدين (وليس للقتال)!!!

ومن ثم فالآية ذات ترتيب طبيعي, فالله يقول أنه وما كان المؤمنون لينفروا كافة إلى رسول الله فيأتونه المدينة ليتعلموا الدين ويعرفون أحكامه, وأنه من الأفضل أن ينفر من كل فرقة من المؤمنين طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون!

وهذا ما حدث فعلاً مع نفر قدّر الله أن يأتوا للنبي:
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ [الأحقاف : 29]

ونزيد الأمر توضيحا فنقول:
الآية أصلاً عن إعداد الدعاة “المنذرين” وليس عن الفقهاء بالمعنى اللاحق, فهي تتحدث عن فِرق من المؤمنين –بين أقوامهم الكافرين- في مناطق مختلفة من جزيرة العرب, ومن المفترض في هؤلاء إيصال الدين إلى أقوامه ودعوتهم إليه, إلا أن هؤلاء لم يعلموا من الدين أصلاً إلا أعمدته الرئيسة, والتي عليها آمنوا
ومن ثم نُدب إليهم أن ينفر بعضهم, فينفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين, أي ليصبح لديهم فهم بغايات الدين وبأصوله وميزاته والعواقب التي تترتب على عدم الإيمان! ومن ثم يعودون إلى أقوامهم –غير المؤمنين- فينذرونهم. (وليس: يعلمونهم!)

ونعود مرة أخرى إلى الضمائر في الآية حتى نبين صورتها فنقول: ثمة فرق من المؤمنين (موجودة في أقوام ما) فنُدب إليهم أن تنفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا (أي مجموع النافرين من كل فرقة, لذا عبر بجمع المذكر السالم ولم يعبر بالمؤنث العائد على طائفة: لتتفقه!) في الدين ولينذروا قومهم غير المؤمنين (وليس: فرقتهم!) إذا رجعوا إليهم فيدخلوا في الدين!

إذا فالمفسرون فهموا الآية على أنها نفير مع رسول الله إلى غيره, ومن ثم اضطربوا في إسقاط الضمائر وفي تصور الصورة, أما نحن فنفهمها على أنها نفير إلى رسول الله, ومن ثم لا إشكال في الآية ولا في ضمائرها.
والسلام عليكم ورحمة الله!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

حول إنكار العقل الغربي ل “النظام الكبير”!!!

في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.