موضوعونا اليوم بإذن الله تعالى عن الرجولة .
هذا الوصف الذي ظنه كثير من الظانين أنه مرادف ومساو للذكورة , فإذا كنت ذكرا فأنت حتما رجل ! ولكن هل فعلا كل من هو ذكر هو رجل ويستحق أن يوصف بأنه متحل بالرجولة ؟ مما يأسف له المرء أن كثيرا من ذكور المسلمين ما عادوا يستحقون هذا الوصف , فهم فقط ذكور لا رجال !
وشتان ما بين الرجل والذكر , فقد يكون المرء ذكرا معدوم الرجولة وقد يكون امرأة جامعة لصفات الذكورة . والحق يقال أن دافعي لكتابة هذا المقال هو امرأة من الصحابيات رضوان الله عليهم وعليهن
فلقد كنت أقرأ ذات مرة في كتاب عن مشاركة المرأة في مجالات الحياة في عهد الرسالة , فوجدت أن اسم هذه الصحابية الجليلة يتكرر أمامي في مواقف شتى مما أثار في نفسي الإعجاب بهذه المرأة الرجل !
وعلى الرغم من أن المواقف كلها كانت معروفة بالنسبة لي إلا أن الجديد كان كون بطل هذه الأحداث كلها امرأة من أرجل ما يكون
وهي الصحابية أم سليم بنت ملحان رضوان الله عليها وألحقنا الله بها في الجنة التي بشرها بها الرسول الكريم
كثير منا لا يعرف هذه الصحابية الجليلة التي اجتمع فيها صفات الرجولة حق التجمع , فكانت امرأة بألف ألف رجل
. ولنتتبع سيرة هذه الصحابية العظيمة لنعرف كيف أن الرجولة أفعال لا جنس :
كثير منا لا يعرف أم سليم بنت ملحان على الرغم من أننا نعرف ابنها فهى أم أنس بن مالك خادم الرسول وهى أنصارية خزرجية كانت من السابقات إلى الإسلام في المدينة هي وغالب أهلها وسنرى أنها كانت في كل مواقف حياتها الحاسمة رجلا بمعنى الكلمة , فلم تلن أو تتهاون وإنما كانت مع الحق حيث كان ,
لونحن نعرف المقولة التي تقول : اعرف الحق تعرف الرجال . وأنت ستعرف كم كانت هذه المرأة رجلا حقا ! في كل مواقفها فكأم وكطالبة علم وكمجاهدة وكزوجة وكأنثى كانت رجلا بحق !
وهيا لنر ماذا فعلت هذه المرأة العظيمة:
بدأت مواقف أم سليم البطولية منذ أول يوم لدخولها في الإسلام , فلقد أصر زوجها على كفره , بل وحاول أن يثنيها عن إسلامها، واتخذ في سبيل ذلك كل السبل التي من شأنها أن تهد من عزم المرأة مثل هجرها ومفارقتها بل وتخييرها بينه وبين الاسلام!، فأبت أم سليم أن تختار على الإسلام شيئاً آخر.
فقد كان من الممكن لهذه المرأة أن ترضخ لزوجها الذي يرعاها ويتولى الإنفاق عليها وتقول أنا امرأة , فإذا طلقني زوجي فماذا أفعل ؟ ولكنها رضيت أن تعمل بنفسها وتنفق على نفسها وأولادها لتبقى على الإسلام , فضحت بالزوج والأنيس من أجل الإسلام ومن أجل نشأة إسلامية لأولادها .
ويحكي لنا ابن سعد في الطبقات موقفها مع زوجها حين عاد مالك بن النضر من سفره ليفاجأ بإسلام أم سليم زوجته فقال لها: أصبوت؟ أي كفرت بدين الأوثان دين أبائك وأجدادك؟ قالت: ما صبوت ولكني آمنت بهذا الرجل (محمد صلى الله عليه وسلم).. ثم أخذت تلقن ولدها أنس الشهادتين وتشير إليه: قل: لا إله إلا الله، قل: أشهد أن محمداً رسول الله فيقول لها أبوه: لا تفسدي علّي ابني. فتجيب أم سليم: إنني لا أفسده. ” اهـ
فلما رأى إصرارها قرر أن يفارقها ورحل عنها وتمر الأيام ويأتيها أبو طلحة الانصاري خاطباً فتخبره أنها تركت زوجها السابق من أجل كفره وهو كذلك كافر, فكيف تقبله ؟ فليست المسألة إذا أنها كانت تكره زوجها الأول ومن أجل ذلك استسهلت فراقه ولكنها مسألة مبدأ , ويوضح هذا ما قالته لأبي طلحة :
حيث قالت له: أمَا إني فيك لراغبة وما مثلك من الرجال يرد! ولكنك امرؤ كافر وأنا امرأة مسلمة لا يحل لي أن أتزوجك فإن تسلم فهذا مهري ولا أسألك غيره…! قال: فمن لي بهذا؟ قالت: يا أنس قم فزوج أبا طلحة فقام أنس إجابة لطلب أمه وانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلن أبو طلحة إسلامه.
وهكذا انتصرت أم سليم وأخذت بيد زوجها إلى الحق..
وقالت نساء الأنصار: ما عرفنا مهراً أكرم من مهر أبا طلحة لأم سليم لأن صداقها كان الاسلام.
كان هذا أول موقف كزوجة ,
حيث نراها تضحي بزوج وترفض الآخر إلا بإسلامه , وبعد ذلك ننتقل إلى موقفها كأم , حيث نراها تخطط التخطيط السليم من أجل تربية ابنها ,
فبعد أن فقد الأب القدوة فكرت الأم من يكون قدوة لإبنها ولم تتحير أم سليم كثيراً فقد وقع اختيارها على خير البشر على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وما أفضله من اختيار وحسن تدبير فقد أهدت أنس لبيت النبوة حتى يتربى على يد خير معلم ويتشرب طبائع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم
ويحكي لنا ابنها أنس هذا الموقف لاحقا فيقول :
قدم رسول الله المدينة وأنا يومئذ ابن ثمان سنين فذهبت بي أمي إليه فقالت: يا رسول الله إن رجال الأنصار ونساءهم قد أتحفوك، غيري (أي باستثنائي) وإني لم أجد ما أتحفك به إلا ابني هذا فتقبله مني يخدمك ما بدا لك. فخدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين لم يضربني قط ولم يسبني ولم يعبس في وجهي وقد قالت أم سليم: لرسول الله.. يا رسول الله خويدمك أنس ادع الله له فقال: (اللهم أكثر ماله وولده وأطل عمره واغفر ذنبه).
فما أفقهها من أم حيث غرست الابن في بيت النبوة حتى يتخلق بأخلاق صاحب الخلق العظيم .
وليس هذا هو الموقف الوحيد كأم بل هناك موقف رائع كأم وكزوج في نفس الوقت فقد أنجبت أم سليم من أبي طلحة ولداً اسمه أبو عُمير وشاء الله له أن يمرض ثم توفاه الله،
وكان أبو طلحة مسافراً وكان شديد الحب لولده، فلما رجع إلى بيته سأل زوجته عن ابنه الحبيب أسير المرض فقالت له: هو أسكن ما كان، فظن أنه قد عوفي.. فأكل مما أعدت زوجته ثم تزينت له ثم أصاب منها، وعندما أصبح قالت له أم سليم: يا أبا طلحة عارية استعارها قوم وكانت العارية عندهم ما قضى الله وإن أهل العارية أرسلوا إلى عاريتهم فقبضوها ألهم أن يجزعوا؟! قال: لا قالت: فإن ابنك قد فارق الدنيا فاحتسبه عند الله… وهكذا يجب أن تكون الزوجة الصالحة عوناً لزوجها وأن تخفف عنه مصائب الدهر لا أن تكون هي سبباً في تلك المصائب..! وعندما ذهب أبو طلحة وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان من زوجته فسُرّ صلوات الله عليه، بفعل أم سليم من صبرها وأدائها حق زوجها في تلك الساعات الحزينة ودعا لهما صلى الله عليه وسلم وقال: لأبي طلحة (بارك الله لكما في غابر ليلتكما).
شاهد أيضاً
نقد رفض التعقل
من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …