من المسلمات الموجودة عند المسلمين مثقفهم وجاهلهم ثبات العمر و واحدية الرزق , ومن الكلمات الشهيرة التي نسمعها ونرددها كلنا ” العمر واحد والرب واحد ” , والجزء الثاني – الرب واحد – من الكلمة لا ريب فيه , و لكن هل الجزء الأول منها مسلم به وصحيح تماما لا يمكن التفكر فيه أو الاقتراب منه ؟
طبعا سيرى الكثيرون أن الخوض في هذه المسألة تجاوز لكل الخطوط الحمراء و الخضراء والصفراء , ولكن لا بد للمرء أن يعرض ما رأه ووصل إليه في أي مسألة ولو خالف المشهور والمعروف والمجمع عليه , فلعله فهم فهما خاطئا فيصحح له ما وصل إليه ,
وقد لا يجد في المعروض عليه ما يقنعه فيتأكد عنده ما توصل إليه من رأي , فالنقاش جد مفيد , ولقد ظهرت لي آراء عدة وبالنقاش مع زملائي عدلتها أو تراجعت عنها , أما أن يصل الإنسان إلى رأي ما ثم يكتمه فهذا ما لا يصح لأسباب عدة , منها: أنه يكتم علما عن الناس ولربما أخطأ في الفهم فيصحح له فهمه بدلا من أن يستمر في الاعتقاد أن الناس على خطأ وهو الوحيد الذي على الصواب .
لذا أعرض هنا رأيا وجدته موافقا لظواهر الآيات وأرجو من الله التوفيق في العرض و أعرف أنه سيثير لغطا كثير واتهامات لمخالفته الإجماع في نظر الكثير من العلماء ولكن هذا الرأي يتفق مع ظواهر القرآن ولا يؤدي إلى تأويل بعض الآيات من أجل آيات أخرى بل يقوم بالتوفيق بينها على أساس ظواهرها , فنقول وبالله التوفيق :
اختلف العلماء في مسألة الجبر والاختيار ومسألة الأعمار والأرزاق وهل هي ثابتة أم قابلة للتغيير بإرادة الله ؟
مذهب أهل السنة [1]يقول أن الإنسان له عمر واحد محدد مؤجل من قبل أن يولد فإذا حان وقته وافته المنية , وله رزق سيصله بكل حال لا يزيد ولا ينقص .
ولكن هل هذا فعلا ما يقوله القرآن , من أن الأعمار ثابتة هي والأرزاق أم قابلة للتغيير بإذن الله ؟ وهل الإنسان مخير أم مسير ؟
نود القول أن القرآن عندما تعرض لهذه المسألة عرض الآيات بصيغة متشابهة تؤيد يعضها بعضا , ولأن كل الأطراف تبنى وجهة نظر معينة أبقى بعض الآيات على ظاهرها وجعلها المحكمة وأول الآيات الأخر وجعلها من المتشابهات وأخذ كل فريق يشنع على الآخر في فهمه للآيات وكيف فهمها هذا الفهم المقلوب !!
ولكن المشاهد أن الجميع أولوا نصيبا من الآيات وأخذوا الباقي على ظاهره و لكن بهذا الفهم سنأخذ الايات كلها كما هي , ولن نضطر لتأويل أي آية بإذن الله .
ونبدأ بآية هي الحاسمة في فهم هذه المسألة حيث أن هذه الآية أوولت تأويلا ممجوجا يخالف العقل تماما , مع أنها لو أخذت على ظاهرها لحلت هذه المشكلة العويصة و لكنها لما خالفت المنقول من السنة الضعيفة وما فهموه من السنة الصحيحة أولوا الآية تأويلا عجيبا وهذه الآية هي قوله تعالى :
” وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر : 11] ” .
والجزء الأول من الآية سنتكلم عنه في مسألة خلق الإنسان لذا هو لا يهمنا الآن , ولكن ما نود التركيز عليه هو قوله تعالى ” ولا ينقص من عمره ” و مفهوم الآية واضح لكل ذي عينين ولا يحتاج إلى شرح أو توضيح فكلمات الآية معروفة وتركيبها النحوي البلاغي بسيط يفهمه كل إنسان ولكن إذا نظرنا في التفاسير وجدناها تقول شيئا آخر غير الذي تقوله الآية ,
ونعرض هنا نموذجين مما ذكره العلماء في تفسير هذه الآية , ونبدأ بتفسير الطبري حيث قال في تفسير الآية ما نصه :
” وقوله: وَما يُعَمّرُ مِنْ مُعَمّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلاّ فِـي كِتابٍ اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معناه: وما يعمر من معمر فـيطول عمره, ولا ينقص من عمر آخر غيره عن عمر هذا الذي عمّر عمرا طويلاً إلاّ فِـي كِتابٍ عنده مكتوب قبل أن تـحمل به أمه, وقبل أن تضعه, قد أحصى ذلك كله وعلـمه قبل أن يخـلقه, لا يُزاد فـيـما كتب له ولا ينقص. ذكر من قال ذلك:
22125ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَما يُعَمّرُ مِنْ مُعَمّرٍ… إلـى يَسِيرٌ يقول: لـيس أحد قضيت له طول العمر والـحياة إلاّ وهو بـالِغ ما قدّرت له من العمر, وقد قضيت ذلك له, وإنـما ينتهي إلـى الكتاب الذي قدّرت له, لا يزاد علـيه ولـيس أحد قضيت له أنه قصير العمر والـحياة ببـالغ العمر, ولكن ينتهي إلـى الكتاب الذي قدّرت له لا يزاد علـيه, فذلك قوله: وَلا يُنْقَصُ مِنْ عمُرِهِ إلاّ فِـي كِتابٍ يقول: كلّ ذلك فـي كتاب عنده “
وذكر روايتين أخرتين بنفس هذا المعنى ثم قال ” فـالهاء التـي فـي قوله وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ علـى هذا التأويـل وإن كانت فـي الظاهر أنها كناية عن اسم الـمْعَمّر الأوّل, فهي كناية اسم آخر غيره,!! وإنـما حسُن ذلك لأن صاحبها لو أظهر لظهر بلفظ الأوّل, وذلك كقولهم: عندي ثوب ونصفه, والـمعنى: ونصف الاَخر “
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما يُعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره بفناء ما فنـي من أيام حياته, فذلك هو نقصان عمره. والهاء علـى هذا التأويـل للـمُعَمّر الأوّل, لأن معنى الكلام: ما يطوّل عمر أحد, ولا يذهب من عمره شيء, فـيُنْقَص إلاّ وهو فـي كتاب عبد الله مكتوب قد أحصاه وعلـمه. ذكر من قال ذلك:
22128ـ حدثنـي أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس, قال: حدثنا عبثر, قال: حدثنا حصين, عن أبـي مالك فـي هذه الاَية: وَما يُعَمّرُ مِنْ مُعَمّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلاّ فِـي كِتابٍ قال: ما يقضي كم أيامه التـي عددت له إلاّ فـي كتاب.
وأولـى التأويـلـين فـي ذلك عندي الصواب, التأويـل الأوّل وذلك أن ذلك هو أظهر معنـيـيه, وأشبههما بظاهر التنزيـل ” اهـ
ونذكر هنا تفسير القرطبي ولنر ماذا قال في تفسير هذه الآية , قال الإمام القرطبي ما نصه :
“وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ” سماه معمرا بما هو صائر إليه. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: ” وما يعمر من معمر” إلا كتب عمره، كم هو سنة كم هو شهرا كم هو يوما كم هو ساعة ثم يكتب في كتاب آخر: نقص من عمره يوم، نقص شهر، نقص سنة، حتى يستوفي أجله.
وقال سعيد بن جبير أيضا، قال: فما مضى من أجله فهو النقصان، وما يستقبل فهو الذي يعمره؛ فالهاء على هذا للمعمر. وعن سعيد أيضا: يكتب عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، حتى يأتي على آخره. وعن قتادة: المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة. ويذهب الفراء في معنى ” وما يعمر من معمر” أي ما يكون من عمره ” ولا ينقص من عمره ” بمعنى آخر، أي ولا ينقص الآخر من عمره إلا في كتاب.
فالكناية في “عمره” ترجع إلى آخر غير الأول. وكنى عنه بالهاء كأنه الأول، ومثله قولك: عندي درهم ونصفه، أي نصف أخر. وقيل: إن الله كتب عمر الإنسان مائة سنة إن أطاع، وتسعين إن عصى، فأيهما بلغ فهو في كتاب. وهذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يبسط له في زرقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) أي أنه يكتب في اللوح المحفوظ: عمر فلان كذا سنة، فإن وصل رحمه زيد في عمره كذا سنة. فبين ذلك في موضع آخر من اللوح المحفوظ، إنه سيصل رحمه فمن أطلع على الأول دون الثاني ظن أنه زيادة أو نقصان وقد مضى هذا المعنى عند قوله تعالى: ” يمحوا الله ما يشاء ويثبت” [الرعد: 39]
والكناية على هذا ترجع إلى العمر. وقيل: المعنى وما يعمر من معمر أي هرم، ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلا في كتاب ؛ أي بقضاء من الله جل وعز. روي معناه عن الضحاك واختاره النحاس، قال: وهو أشبهها بظاهر التنزيل. وروي نحوه عن ابن عباس . فالهاء على هذا يجوز أن تكون للمعمر، ويجوز أن تكون لغير المعمر ” اهـ
ونخرج من هذين التفسيرين أنه ثمة أقوال عدة في الآية هي :
1- أن الضمير في عمره لا يعود على المعمر بل على آخر , وهذا ما رجحه الإمام الطبري .
2- أن النقصان في العمر يكون بكتابة ما انقضى من عمره فلو مر من عمره يوم يكون نقص من عمره يوم وهلم جرا .
3- أن الله كتب للإنسان أكثر من عمر وهذه الأعمار كلها مسجلة في كتاب وهي مرتبطة بمشيئة الله إن شاء أطال عمره وإن شاء نقص عمره .
4- لم يرجح أحد هذا الرأي الأخير لمخالفته المتعاهد عليه في مذهب أهل السنة من ثبات الأعمار , والآن ندلي بدلونا في الموضوع لنر ما هو الرأي الأحق بالاتباع في هذه المسألة , فنقول وبالله التوفيق :
أما ما اختاره الإمام الطبري في هذه المسألة فعلى الرغم من إجلالنا للإمام الطبري وقيمة ترجيحه اللغوي ولكن نحن نخالفه تماما في هذه المسألة ونرى أن المثال الذي ذكره غير صحيح وهو مثال اعتباطي لا يصح أن نحمل القرآن على مثله , ولنا أن نسأله إذا كان قد قرأ الآية بذهن فارغ من الرأي المتعارف عليه من السنة فهل كان سيقول بهذا الترجيح ؟
نقول وبكل ثقة : بطبيعة الحال لا بل كان سيقول أن الضمير يعود على المعمر ذاته وليس على أي شخص آخر , والترجيح الذي قال به الإمام جائز لغويا – فالأمثلة الجائزة كثيرة جدا ولكن هل هي صحيحة – و لكنه بعيد جدا , والمسلم به أن حمل الكلام على شكله المعتاد أولى من حمله على طريفة أو قول محتمل أو نكتة معينة في الفهم , وكما هو واضح فالمألوف والشائع في اللغة مخالف لما يقول به الإمام , لذا يعد هذا الرأي في نظرنا رأيا مرجوحا .
الرد على الرأي الثاني :
هل يعد ما ذكره الإمام القرطبي من أن النقصان في العمر يكون بكتابة ما انقضى من عمره صحيحا؟
إذا نحن نظرنا في الآية وجدنا أن الآية تقول ” وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره ” – بسكون النون وتشديدها – , والذي يتبادر إلى الذهن في فهم هذه الآية هو أن المراد هو وما يكبر إنسان في السن فيصير معمرا ولا ينقص من عمره فلا يعمر ويموت قبل ذلك إلا في كتاب ,
فالفعلين هنا مختلفين ولا يمكن حملهما على محمل واحد فالآية قالت ” ما …. ولا ” أي أن فعل التعمير غير فعل النقصان وفاعلهما ليس واحدا أيضا ,
فإذا قلنا بالرأي الذي قال به الإمام القرطبي لصار مدلول الفعلين واحدا وفاعلهما واحد , لأنه يصير التعمير هو عين النقصان فمن المعروف أن الإنسان إذا زاد عمره اقترب أجله وهذا فعل عكسي مترابط فالزيادة في العمر هي نقصان في الأجل ,
فما الاختلاف الذي رأته الآية حتى يكون هناك ثمة اختلاف بين الفعلين حتى تفصل بينهما ؟
ونخلص من هذا أن فعل التعمير غير فعل النقصان .
فيظهر أن ما قاله الرأي الثالث من أن الله يكتب للإنسان أكثر من عمر وأكثر من رزق وأكثر من إمكانية لكل أمور حياته وهو يختار بينها , وبهذا يكون الإنسان مخيرا متحركا ضمن إرادة الله وينطبق فيه قول الله عزوجل ” وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [الإنسان : 30] ” .[1]
فالإنسان حر ويتحرك في نطاق ما أراده الله عزوجل ولو قال العلماء بنظرية ” الاحتمال ” هذه لانفضت وحلت مشاكل عويصة في مسألة التخيير والتسيير والرزق والأجل , فالله هو المريد وهو كتب على الإنسان ما يفعله ولكنه لم يكتب اختيارا واحدا بل كتب له اختيارات عدة يتحرك بينها , فلو لم يكتب الله له هذا الطريق ما استطاع أن يفعله , فهو مخير مسير حر مكتوب عليه وله ما يفعله ,
ونلاحظ أن الآية قالت ” وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ “َ أي أن كل ما يحدث في الكون يحدث بعلم الله فليس فيه إجبار , بل الله يشاء والإنسان يشاء ومشيئة الإنسان هي من مشيئة الرحمن , والله المستعان .
ونلاحظ أن هذه النظرية موجودة منذ قديم الزمان في الفكر الإسلامي ولكنها لم يكتب لها أن تظهر وتنتشر , لمعارضة أفهام العلماء النابعة من الأحاديث و من بعض آيات القرآن لها ,
ولكن هناك من ظواهر الأحاديث ما يؤيدها مثل ما رواه الإمام مسلم ” 4638- حدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ أَوْ يُنْسَأَ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ “
و أنا أعرف أن هناك من الأحاديث ما قد يعطي انطباعا أن الأعمار ثابتة ولكن هذه الأحاديث يجب تأويلها لتتفق مع القرآن , ومنها ما يمكن فهمه بطريقة مخالفة تماما لما يقول به العلماء الأفاضل .
و أنا أطلب من القارىء أن ينظر في الآيات التي تتحدث عن المشيئة , ويفهمها من خلال نظرية ” الاحتماليات ” فيرى أنها ستؤخذ كلها على ظاهرها ولن نؤول أي منها من أجل الأخرى , فمثلا قوله تعالى ” وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [الإنسان : 30] “
لو فهم على أن الله يشاء للإنسان أكثر من أمر والإنسان يشاء واحدا منها لكانت الآية دليلا على حرية الإنسان وعلى موافقة وتبعية الإنسان لمشيئة الله مهما فعل , أما إذا فهمت أن مشيئة الله واحدة فسيؤدي هذا إلى القول بالجبر ويأولها بعض العلماء من أجل الآيات الأخرى التي تعطي الإنسان المسؤولية والحرية في فعله , ويأول بعض العلماء الآيات التي تعطي الإنسان الإختيار من أجل هذه الآيات , و لكن بهذا القول لا يؤول هذا ولا ذاك بل يوفق بينهما .
ونزيد المسألة توضيحا للقارىء : قد يسير الإنسان في طريق يتفرع منه عشرة طرق , وقد يسير في طريق يتفرع منه خمس طرق , وقد يسير في طريق لا يخرج منه إلا طريقين ,
وقد يسير في طريق لا يتفرع منه أي طرق , وهكذا هو حال الإنسان , فقد يشاء الله للإنسان خمس خيارات مثلا , فهو حتما سيختار واحدا منها , ولن يستطيع أن يختار غيرها
, و إذا شاء الله للإنسان طريقين فسيختار واحدا منهما , وهو في كلتا الحالتين مخير مسير , فلا يمكنه أن يدعي أنه أجبر على فعل شيء محدد فقد كان أمامه أكثر من خيار , ولا يمكنه أن يدعي أنه حر تمام الحرية فهو لا يستطيع أن يخلق طريقا غير الذين شاءهم الله له ,
و قد يحدث أن لا يكون أمام الإنسان إلا طريقا واحدا ولا بد أن يختاره , وهذا هو حال الدنيا تقلب بين تسيير وتخيير , والإنسان عليه أن يتحرك بالطريقة المثلى في جميع الحالات
و نحن لا نريد أن نخوض في قضية الجبر والاختيار فالخوض فيها كما أرى خوض في متاهات وسيثير مشاكل , فكل حديثنا عن ثبات الأعمار والأرزاق , ولكن نود أن نقول هنا كلمة لمن يتكبرون أو يتعجبون ممن يكون الله على علم بما يفعلونه مسبقا[2] أو أن يحدد لهم ما يفعلون :
فنقول : الإنسان مخير قدر ما يعرف , مسير قدر ما لا يعرف , فكلما زاد علمه زاد تخييره وكلما زاد جهله زاد تسييره , فأنا كإنسان أستطيع أن أضع آخر في موقف ما و لمعرفتي الشديدة به أستطيع أن استنتج أنه لن يتصرف إلا تصرفا من اثنين , وظروف الطبيعة نفسها تحتم على الإنسان أن يتصرف تصرفات محددة ,
فإذا كان الإنسان يسير على قدر علمه , وهذا في الدنيا من المخلوق الذي خلقه الله , وهذا الخلق له نظام وطريقة في الحياة ولو اجتهد قليلا لاستطاع هو أن يسخر هذا الخلق , فكيف يتعجب أن يكون الله المحرك لكل شيء , العارف بطبيعة الأشياء , عالم بما سيعمله بدون تسيير؟
وعلى الإنسان أن يتذكر دوما أنه لا يعرف حتى الآن طببيعة الأحلام وهو لا يعرف كيف يفكر , وهل هناك جبرية جسدية أم لا ؟
فإذا تذكر الإنسان كل هذا سهل عليه جدا قبول القول بأن الله عالم لفعله المستقبلي بلا تسيير .[3]إذا وعلى هذا الفهم للآيات فالإنسان عنده الحرية وهي في نفس الوقت ليست حرية مطلقة بل هي حرية في مشيئة الله , لذا يجب عليه أن يحاول أن يسعى لزيادة عمره ورزقه قدر الإمكان , طبعا لصالح نفسه وللمسلمين وليس من أجل اللهو والمعاصي , ويمكنه أن يضمن زيادة عمره والبركة في الرزق إذا اتبع ما قاله(ص)” فليصل رحمه “ .
إذا فالقرآن لم يغرس فكرة الجبرية المطلقة التي يقول بها بعض الجماعات الإسلامية وإن أنكروا ذلك , ولم يقل بالحرية المطلقة للإنسان , و ما أول فريق من الفرق الآيات إلا لنظرهم إلى الأمور من زاوية واحدة , والله أعلم .
غفر الله لنا الزلل والخلل وهدى بنا إلى ما يحب ويرضى!
وأن العلم بالجزئيات يظل عن طريق الوقوع أي أن الله يعلم بالجزئيات حال وقوعها فتنتقل من العلم الإجمالي إلى العلم اليقيني , فهذا ما لا يمكننا قوله بأي حال , وستظل إشكالية حرية الإنسان مع علم الله مستمرة أبد الدهر .
[2]كنت أتكلم مرة مع مسيحية غربية فسألتها هل تعتقدين أن الرب يعرف ما ستعملينه في المستقبل ؟ فتفكرت قليلا – وهذا يشير إلى أن هذه المسألة لم تعرض لها مطلقا أو تخطر ببالها – ثم قالت لي : لا .
[3]نستطيع بإذن الله وفضله التوفيق بين علم الله وتخيير الإنسان ولكن لما كان هذا اجتهادا عقليا منا فنحن نتحرج في قوله على الله و الجزم به بلا دليل , ولكن نعرضه على أنه من باب الفهم أو التقريب , فنقول : إن الله لا يحيطه مكان أو زمان والإنسان محاصر بهما , فالله استطاع ويستطيع أن يعرف ما حدث وما سيحدث ومعه المقدرة أن يغير , ونضرب مثالا تقريبيا على ذلك للقارىء
فنقول :
لنفترض أنك تشاهد فيلم صور متحركة على الحاسوب وبدأت المشاهدة الساعة العاشرة , وهذا الفيلم مدته ساعتان ,هل تستطيع أن تعرف ما سيحدث بعد ساعة من بدايته ؟
بداهة لن تستطيع معرفة ذلك إلا في الساعة الحادية عشر تماما , وهذا هو الفارق بيننا وبين الله .
فنقول ولله المثل الأعلى : الله خارج عن الزمان والمكان محيط بهما فهو لا يحتاج أن ينتظر مثلنا ليعرف ما سيحدث , فهو لخروجه عن الزمان والمكان يعرف ما كان- بالنسبة لنا – وما سيكون – بالنسبة لنا – , مع استطاعته ومقدرته أن يغير ما شاء وأن يفعل ما يشاء , فيمنع فلانا مثلا من المعصية لأنه يريد له الصلاح , ويترك فلانا ليعصي بل إنه يسهل له المعصية لأنه أصر عليها , ويدفع هذا بذاك , وينصر هذا بذاك , ويهدي هذا بذاك , ويضل هذا بذاك , ويترك لفلان الحبل على غاربه استدراجا , وهلم جرا .
وبهذا الفهم الذي ظهر لي نستطيع أن نوفق بين علم الله وحرية الإنسان , فلا تعارض بينهما , فالله علم ووضع للإنسان طرقا يختار منها , إما الطريق الطبيعي أو طريقا ما كان ليأتي إلا بأمر الله
لذا يجب على الإنسان أن يتذكر دوما أنه لا حرية مطلقة في الحياة بل هناك دوما حرية مقيدة , وكثير من الجبر وليتذكر كل منا الامتحانات التي خاضها في حياته , ففيها تخيير و إجبار , وكذلك الحياة مخيير أحيانا ومسير أخر
فانظر أخي القارىء لمن جعلت نفسك مسيرا ؟ هل جعلت هواك وبطنك وفرجك يسيرك فصرت مجبرا لأحط الأشياء أم مشيت في طريق الله و على إرادته فصرت مخييرا ؟