معاناة المساجين!

معاناة المساجين
يمكن لأي مصري أن يرتدي “نظارة الإعلام”, ليبصر واقعنا البئيس واقعاً وردياً جميلا! وكثيرٌ منا ارتدوا هذه النظارة من تلقاء أنفسهم, حتى يُعموا أنفسهم عن واقعهم! وحتى يستطيعوا إسكات أصوات آلامهم العالية وصوت ضميرهم الخافت!!

ولأنه ليس دور الكاتب أن يعطي أملاً كاذباً أو يساهم في تزييف الواقع, فإننا سنسلط الضوء في هذا المقال على جانب صغير من جوانب البؤس والظلم في حياتنا, لم يره أكثرنا, ومن ثم لا يشغل بالنا تقريباً! سنسلط الضوء على: معاناة المساجين! والمعاملة اللاإنسانية التي يُعامل بها هؤلاء! من خلال ذكر بعض نماذج لحالات في السجون المصرية الظالمة!

وهذه النماذج المذكورة هي نماذج حقيقية لأشخاص أعرفهم بشكل شخصي وليس مجرد كلام عام!! ومن ثم يمكن القول أن هذا “مقال سردي” وليس إنشائي! فأنا أحكي وقائع حدثت فعلا!


أعلم أن كثيرين لن يهتموا لأن هؤلاء في نظرهم مجرمون, وأطلب إلى هؤلاء أن يقرؤوا مقالي السابق: احتقار المجرمين, فهم بحاجة إليه, إلا أنهم في نهاية المطاف بشر مظلومون!! وآخرين لن يهتموا لأن المظالم في خارج السجون كذلك كثيرة, ولكن هناك من تكلم وكتب عن هؤلاء, أما المساجين فنادراً ما يجدوا من يكتب عنهم وعن معاناتهم!

وسنبدأ بالحديث عن المعاملة التي يلقاها أهل المساجين في الزيارة ثم ننتقل للحديث عن المساجين أنفسهم, فنجد أن أهالي المساجين يهانون كأنهم يعملون تحت إمرة هذا العسكري أو ذاك الضابط! ولا تقتصر الإهانة على السباب وإغلاظ القول أو الحديث والقدم في الوجه فعلا! وإنما يتعداه إلى التحرش بالزائرات أحيانا والتهديد بالاعتقال والحبس!!


ومن المفترض أن هناك مواعيد محددة لزيارة المساجين, يُسمح فيها لأهلهم بالحديث معهم, فيُتلاعب في مواعيد الزيارات, فتسافر الزوجة مسافات طويلة لرؤية زوجها, ثم تكتشف أن الزيارة ألغيت!! أو تكون الزيارة نصف ساعة فيُخرج المساجين ربما في آخر عشر دقائق!!

ومن المسموح به كذلك إدخال أصناف من الطعام إليهم! وحدث ولا حرج عن الإذلال الذي يتعرض له أهالي المساجين من تعنت في إدخال أصناف معينة من الطعام, وكذلك إفساد الطعام بحجة تفتيشه, ناهيك عن سرقة أجزاء منه أو أصناف كاملة منه أو الأواني التي يُدخل فيها الطعام نفسها وكذلك أحيانا سرقة ملابس من تلك التي يُفترض إدخالها إلى المساجين!!

فإذا انتقلنا للحديث عن المساجين أنفسهم فلن نتحدث بأي حال عن المعاناة النفسية التي يعانون, فهذا ترف “إنساني”, لا يهتم به المصريون والعرب كثيراً! وإنما سنتحدث عن أمور ربما تدفع بعضهم إلى “مصمصة شفته” والتظاهر بالتأثر وقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! غلابة!!

تبدأ المعاناة من البداية, فهناك “مساجين” يٌحبسون بدون إصدار قرارات اعتقال, ويظلون هكذا لفترة ما ربما تصل إلى شهور! ولا يعرف الأهل أين هم أصلاً, ويظلون في بحث دائم وحسرة على ذويهم لجهلهم بمصيرهم! وبعد فترة يتم تسجيل دخول المعتقلين السجن بتاريخ اعتقال حديث, بتاريخ الأمس مثلاً! ولا تحتسب لهم الفترة الماضية!! ثم يظل هؤلاء المساجين يُعرضون على النيابة مرات عديدة ويُؤجل لهم كل مرة .. المرة تلو الأخرى .. إلى أن يُحكم عليهم أو يُطلق سراحهم!!

ويتعدى التلاعب في دولة “الورق السليم” إلى عرض المعتقلين على النيابة بدون علم محاميهم, حيث أهم شيء هو أن تأخذ الإجراءات مجراها –ولو شكلياً فقط- المهم أن الورق والخطوات سليمة! فنحن عرضنا المتهمين على النيابة ولكن المحامي لم يأت, ومن ثم يعادون مرة أخرى أو تستغل الفرصة لإصدار حكم ما, ولا يقتصر الأمر على هذا وإنما يصل الأمر أحيانا إلى تهديد المحامين أنفسهم بالاعتقال بل واعتقالهم بالفعل!!

ولن نتحدث عن اعتذار بعض القضاة –أصحاب أنصاف الضمائر- الذي يعتذرون للمحامين عندما يعترضون على أنه من المفترض قانونا حدوث كذا, فيعتذر القضاة بأنها الأوامر وأن الحكم سُلم لهم مسبقاً وأنهم لا يمكنهم المخالفة!!

ولا يقتصر الأمر على ضياع العمر في غياهب السجون وإنما يتعداه كذلك إلى التعذيب! فيتم تعذيب المساجين للاعتراف بجرائم المفترض أنهم ارتكبوها!! وأنا أعرف أكثر من شخص تعرضوا للتعذيب! منهم شخص اعترف على نفسه –للخلاص من التعذيب- بجريمة عوقب عليها بخمس وعشرين عاماً سجنا!!

والتعذيب في السجون المصرية من الأمور المعروفة, والتي نُقر جميعاً بحدوثها, إلا أننا نغض الطرف عنها, لأننا في دولة القانون!!
وهناك من عُذبوا ولم يعترفوا ولكن مع استمرار التعذيب أصيبوا بعاهات مستديمة, فهناك مثلاً من أصيب بالشلل! ولم يُفرج عنهم, وظلوا في السجن يكملون فترة عقوبتهم أو اعتقالهم مشلولين بعد أن كانوا قد دخلوه أصحاء!! وهناك من قتلوا جراء التعذيب! وهي وقائع مشهورة في الإعلام!

ولا يقتصر الأمر على التعذيب البدني وإنما يتعداه إلى “تعذيب الإذلال”, حيث يتم هتك عرض السجينة أو السجين! (وهذا الصنف لا أعرف بشكل شخصي أفراداً تعرضوا له) … وعامة فإن أشكال وألوان التعذيب في “السلخانات” المصرية أقصد السجون المصرية كثيرة والحق يقال أنهم يُبدعون فيها فعلا!

ولا يقتصر الأمر على التعذيب, فهناك القتل غير المباشر, عبر منع المسجونين المرضى من الحصول على دوائهم أو حقهم في العلاج!! وكم من مسجون مُنع عنه دوائه فتدهورت حالته!! وهناك من المرضى من هم بحاجة إلى علاج دائم, مثل مرضى السكر –وغيرهم-, ويرفضون إدخال الأدوية لهم والعلاج لهم! ويصابون بكثير من النوبات!! ولكن لا حياة لمن تنادي!!

وأعرف مريض سكر اشتكت زوجته عند النائب العام لتُدخل له “جهاز الأنسولين”, ورغماً عن حصولها على الموافقة من النائب العام تعنت الضباط القائمين على السجن, ولم يدخلوه لها إلا بعد كثير من الشجار والصراخ!! ثم أصبح هذا الجهاز “دوارا”, يلف على كل مرضى السكر الموجودين في السجن! فيأخذ الواحد منهم جرعة صغيرة, لا تكفيه ولكن شيء أفضل من لا شيء!

مآسي كثيرة يعيشها المساجين, يعانون منها, تركت وستترك آثاراً وجروحا غائرة في نفسيتهم! ولن يخرج الواحد منهم من السجن كما دخل! سيخرج ذليلاً مكسورا والله أعلم كيف سيواجه حياته! قابلت ذات مرة سائق تاكسي اعتقل خطأ لمدة ستة شهور لتشابه اسمه مع معتقل آخر, ثم أطلقوا سراحه هكذا بدون أي تعويض أو اعتذار! كان مهندساً متزوجا قبل الاعتقال, بعده طلق زوجه واستقال من عمله وأصبح يعمل على تاكسي ليضيع يومه حتى يعود منهكاً آخر اليوم فيرمي نفسه على السرير!!

حتما ليست السجون المصرية إصلاح وتهذيب وإنما هي إفساد وتدمير!! نعم كلنا نعاني في بلدنا, المسجونون وغير المسجونين, ولكن ليست معاناتهم كمعاناتنا! فهم أسوء بكثير! ولا يعني أننا مظلومون أن نسكت عن ظلم غيرنا! وإنما نذكر بهم ونُعرف بهم! نذكر أنفسنا قبل غيرنا أننا بشر وأننا مكرمون وأن لنا حقوق يجب .. يجب .. يجب على القائمين علينا توفيرها لنا في كل الأحوال!

وكذلك نسلط الضوء على الخطأ, فدوما عندما يصبح الخطأ على كل لسان يحاول القائمون عليه تجميل مظهرهم, بينما مع الغفلة عنهم يتمادون في أفعالهم, حيث لا رقيب ولا حسيب! وحسبنا الله ونعم الوكيل!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

الإنسان ليس مجبرا

جاءني سؤال يقول:هل الانسان مجبر عن البحث عن حقيقة الكون والغاية من الحياة، فقد يقول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.