الطور والتثبيت على التذكير

سورة الطور سورة مكية (كما قالت كتب أسباب النزول) يظهر من مضمونها أنها مما تأخر نزوله في المرحلة المكية, وظهر لي من خلال نظري فيها وبعد طويل نظر في افتتاحيتها أنها نزلت قبل سورة القلم, كرد على نفس الحادثة التي من أجلها نزلت سورة القلم (والتي بيّنا في تناولنا لسورة القلم) عندما كتب المشركون كتابا نسبوا فيه إلى الرسول الجنون (والكهانة)
ونشروا هذا الكتاب وعلقوه عند الكعبة وتنبأوا فيه بهلاك الرسول وضياع دينه واستبعدوا نزول العذاب بهم, فأنزل الله سورة الطور ليؤكد له نزول العذاب بالكافرين ويثبت النبي الكريم على تذكيرهم (وهو المحور الذي تدور السورة في فلكه).

والاتصال بين السورة والسورة الماضية: الذاريات, جلي لكل ذي عينين, فلقد كان محور السورة الماضية هو أن الله قادر على إنزال العذاب, وهنا تثبيت للنبي بشأن نفس القضية, وكان الله قد أمره في نهاية السورة الماضية بالتذكير وهو محور هذه السورة, كما أن الذاريات قد خُتمت بتوعد الكافرين: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [الذاريات : 60]
وبدأت الطور بالقسم على وقوع العذاب, وبالويل للكاذبين; كما نلاحظ استمرار الحديث عن الرزق والطعام كما ذُكرا في الذاريات.

ونبدأ في تناول السورة لنبين كيف قدمت هذا التصور:
بدأت السورة بمخاطبة الرسول بالقسم بالطور الذي نودي عليه موسى وبالمحتوى الذي سطره المشركون في الرق المنشور وبالبيت المعمور (الذي علق عنده الكتاب) وبالسقف المرفوع (السماء أم الجبل الظلة؟!) والبحر المسجور, على أن عذاب الله واقع وليس له دافع, والويل يومئذ للمكذبين, الذين سيُسألون –كرد على زعمهم أن محمد ساحر) أفسحر هذا وهذا العذاب جزاء لأعمالهم فيجزون الجزاء الحسن وينعمون ويزوجون:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)

ولن ينفع هؤلاء كون آباءهم مؤمنين وإنما المؤمنون الذين اتبعتهم ذريتهم بإيمان هم الذين سيلحقون بهم بدون أن ينقص ذلك من عملهم من شيء, والذين سيقرون أن سبب دخولهم الجنة أنهم كانوا في أهلهم مشفقين من عذاب الله (وليسوا مكذبين به) وأنه كانوا يدعون الله:

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)

لذا فذكر يا محمد فلست بكاهن ولا مجنون! (وإذا كان قولهم متهافت وبحثوا عن أقوال أخرى يرمونك بها) فإن قالوا أنك شاعر نتربص بك فأمرهم بالتربص وإن زعموا أنك تقولته فليأتوا بحديث مثله (فإن الجمع قادر لا محالة على الإتيان بأفضل مما أتى به فرد!) أم كان لهم الخلق ولهم الخزائن وعلم الغيب أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون أم لهم إله غير الله؟!
ليس ذلك وإنما وصلوا إلى مرحلة من العمى حتى أنه إذا رأوا العذاب نازلا بهم يقولوا سحاب مركوم, فذرهم حتى يلاقوا يومهم الموعود, ولهم قبل ذلك اليوم الآخر عذاب دون ذلك, فاصبر وسبح:

فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

وبعد أن بيّنا للقارئ الوحدة الموضوعية للسورة ندعوه أن يعيد قرائتها مرة واحدة فسيفتح الله عليه ما لم نذكر فيها, إنه ولي ذلك والقادر عليه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

توحيد الروايات

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله ربنا وخالقنا ومالك أمرنا، بيده الخلق والتدبير والتصريف، يهدي من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.