إن اتباع مناهج عجيبة ما أنزل الله بها من سلطان في التعامل مع كتاب الله تعالى لا بد أن تؤدي في نهاية المطاف إلى نتائج أعجب وأغرب وإلى كوارث وطوام أفجع وأعظم من تعطيل لأحكام كتاب الله عزوجل ومن تقول على الله عزوجل بغير علم , ومن عرض لا منطقي لكتاب الله تعالى يعرضه هو ودين الله تعالى كاملا للطعت واللمز من أعداء الدين .
ونذكر للقارئ الكريم هنا نموذجا مصغرا مخففا لهذا المنهج العجيب في التعامل مع كتاب الله عزوجل , ليس انطلاقا من النص ذاته وإنما من خلال موروثات أخرى يحمل عليها النص ويلوى ليا حتى يطابقها , ولا يتدبر في كتاب الله عزوجل ولا يطبق ما قيل فيه !
وهذا النموذج هو قوله تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة : 90] “
حيث قالوا أن هذه الآية هي التي حرمت شرب الخمر !
( ثم رأينا من يقول أن الخمر غير محرمة لأن الأمر الوارد في الآية بالاجتناب لا بالتحريم ! ولست أدري كيف يشرب الإنسان الخمر ويكون غير متحنبا لها ! )
كما رأوا أن هذه الآية أيضا نسخت آيتين أخرتين هما : قوله تعالى “ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة : 219] ” , وقوله تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً [النساء : 43] ” .
حيث قالوا : كانت الخمر مباحة في صدر الإسلام , فسأل الناس عن حكم الخمر فأنزل الله تعالى ” يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ “ ,
فلم يقلع الناس وظلوا يشربون الخمر ! , حتى حدث أن دخل الإمام على يصلي بالناس وهو سكران[1], فقرأ ” قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ” ,
فنزل قوله تعالى “ يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون “ ,
فكان الناس يشربون الخمر حتى إذا قرب وقت الصلاة تركوها ويشربونها بعد العشاء , فقال عمربن الخطاب : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا , فنزل قوله تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ “ فقال عمر ” انتهينا يا رب “.
هذه هي وجهة نظرهم في فهم الآية وهذه طريقتهم في التعامل مع الآيات , وعلى الرغم من أنهم يقولون أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا أنهم عند التفسير يعتمدون خصوص السبب لا عموم اللفظ , وهذا هو سبب كل قول بالنسخ , ولنبدأ الآن بمناقشة هذا التفسير والتوفيق الرائع بين الآيات :
أولا :لا تعارض على فهمهم بين الآيات , فآية البقرة تقول ” يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ” , وعلى افتراض أن هذه الآية لا تحرم الخمر , هل تغير حكمها بعد نزول آية المائدة “ فاجتنبوه “ ؟
لا بطبيعة الحال لم يتغير الحكم , فالخمر فيها إثم كبير , حيث أن تاجرها أو شاربها أو ساقيها له من الإثم الكبير وهذا ما قالته الآية , وفيها منافع للناس , حيث أن تاجرها وساقيها ومعتصرها وعاصرها ينتفعون من ورائها , ولكن أيهما أكبر النفع أم الإثم ؟
بداهة الإثم أكبر , وهذا ما قالته الآية , حيث قالت ” وإثمهما أكبر من نفعهما ” , ولا يزال هذا الحكم مستمرا حتى الآن بعد نزول آية المائدة , فلست أدري ما الحكم الذي رفع !! .
ثانيا : نأتي الآن إلى الآية الثانية وهي قوله تعالى ” يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى “ وبداهة التحريم في سورة المائدة يشملها ولكنهم نظروا إلى مدلول الخطاب , فقالوا : بما أنه قال ” لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى “ فهذا يعني أننا يجوز لنا السكر في غير وقت الخطاب .
ونقول لهم : أولا : جئتم هنا بنوع جديد من أنواع النسخ وهو نسخ جزء من الآية وإحكام الجزء الآخر , فالجميع متفق على أن الجزء الباقي من الآية وهو قوله تعالى “ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً “
محكم , فنسختم جزءا من الآية وأحكمتم جزءا آخر , وهذا لربي في العلوم بديع !!. وطبعا لا ينتبه القائلون بالنسخ إلى هذا المأزق ويرددون بدون وعي ما لقنوه بخصوص هذه الآية , ولست أدري كيف يتخلصون من هذا المأزق !
ثانيا : فهمتم أن المراد من السكر هو النابع من الخمر فخصصتم الآية ثم نسختموها , ولكن السكر في اللغة عام , وهو كما جاء في المقاييس :
” السين والكاف والراء أصلٌ واحدٌ يدلُّ على حَيرة. من ذلك السُّكْر من الشراب. يقال سَكِر سُكْراً، ورجلٌ سِكِّير، أي كثير السُّكْر. والتَّسْكير التَّحيير في قولـه عزَّ وجل: لَقَالُوا إنَّما سُكِّرَتْ أَبْصَارُنا[الحجر 15]، وناس يقرؤونها سُكِرَتْ مخففة. قالوا: ومعناه سُحِرت. ” اهـ
إذا فالسكر عامة يدل على التحير والإغلاق ( إغلاق العقل بداهة ) فهناك سكر النوم – وهناك من المفسرين من رأى أن السكر المقصود هنا هو سكر النوم أي لا يأتي الإنسان للصلاة وهو في حالة نعس بل عليه أن يكون متيقظا حتى يعلم ما يقول –
وهناك السكر من الفزع كما قال الله تعالى “ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج : 2] ” , وهناك السكر من الموت ” وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق : 19] “ ,
فهناك أنواع كثيرة من السكر ولا يجوز أن نحملها على نوع واحد منها , لذا فالأولى الحمل هنا على المعنى العام لأنه لا يوجد في الآية ما يخصصها على سكر الخمر فقط , لذلك لا يجوز للإنسان – انطلاقا من هذه الآية – الذي يشعر بنعاس شديد أن يقرب الصلاة لأنه سكران .
ثالثا : الاعتماد في الأساس لا بد من أن يكون على المنطوق , ودليل الخطاب ملزم ( هذا في حالة كون السكر من الخمر فقط وهو ما بينا بطلانه !) ولكن عندما لا يؤدي إلى التعارض مع القرآن أو الواقع , أما المنطوق فملزم في كل حين , وهنا المنطوق لا تعارض بينه وبين قول الله تعالى ” فاجتنبوه ” , ونضرب على ذلك مثلا:
فإذا قلت للعامل : أنت ممنوع من الكلام من الساعة الثانية إلى الرابعة , ثم قلت له بعد فترة : أنت ممنوع من الكلام طيلة فترة العمل .
فهل ألغى الأمر الثاني الأمر الأول ؟
لا , لم يلغه بل أضاف إليه , وهذا ما فعلته آية المائدة حيث أنها أضافت إلى آية النساء تكليفا إضافيا بجوار الأول , فأين النسخ ؟
إذا حتى على القول بفهمهم وتطبيقا لقواعدهم مع الآيات لا نسخ في الأمر بتاتا بل هو تدرج حكيم يشمل آخره أوله ولا يرفعه , بل يسير في نفس مساره بتوافق وانسجام , بعكس فهمهم المعاكس لقواعدهم التي أصلوها , ثم ببساطة تركوها .
ونأتي إلى عرض فهمنا نحن للآيات فنقول :
نحن نرى أن آية البقرة ” قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ” هي التي حرمت الخمر وليس آية المائدة , إذ كيف يقول الله عن شيء أنه إثم كبير ولا يتركه الصحابة , وقد سمعوا في مكة قول الله تعالى ” قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف : 33] ” ,
فكيف يكون الإثم فقط محرما ولا يفهمون أن الإثم الكبير حرام كذلك ؟
فلو لم توجد آية الأعراف لفهم الإنسان بداهة أنها حرام من قوله تعالى ” إثم كبير ” والعجيب أن ” إثم كبير ” عندهم لا تعني التحريم و ” اجتنبوه ” تعنيه , فمن تأول ” إثم كبير ” سيتأول ” اجتنبوه ” كذلك , ولا حول ولاقوة إلا بالله .
وبطبيعة الحال نحن نفهم آية المائدة فهما عاما , فنقول أن ” سكارى ” تشمل كل أنواع السكر أي ذهاب العقل من نعاس وخوف وفزع شديدين وما بخلافه , فلا يقرب الإنسان الصلاة في أي حالة من هذه الحالات , أما آية المائدة بالاجتناب فهي آية توضح الحكم توضيحا تاما ,
فقد لا يشرب الإنسان الخمر ولكن يتاجر فيها أو يصنعها أو يجلس مع من يشرب الخمر أو يلعب الميسر , فأمرتنا الآية باجتناب كل هذا لأن الإنسان إذا قارب الشيء فالغالب عليه ولو بعد مائة مرة الوقوع فيه , وهذا ما لا يريده القرآن , لذا قال الله عزوجل ” فاجتنبوه ” , وحتى نطمئن الأخوة السلفيين فهذا الفهم أي أن آية البقرة هي التي حرمت الخمر ورد عن ابن عباس والحسن بن الربيع وغيرهما من الصحابة , فالقول له أيضا ما يسانده من ذوي الحجة عندكم .
فهذا النموذج السابق الذي ذكرناه يعد النموذج الأمثل في كيفية تعاملهم مع النصوص , يربطونها بسببها ثم ينسخونها , ويقولون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ! , فأين التنفيذ ؟
إذا فالخمر حرمت منذ أوائل العهد المدني عندما نزلت سورة البقرة ولم تترك مسكوت عنها لفترة طويلة جدا – حتى نهاية العهد المدني تقريبا فلقد نزلت المائدة في آخر ما نزل من القرآن إن لم يكن آخرها – ثم تحرم في نهاية حياة الرسول ولقد امتثل الصحابة من أول أمر ولم ينتظروا نزول آيات توضح لهم الحكم , ثم أين التبيان العملي من الرسول ؟! ألم يكن الرسول يستطيع أن يبين لهم أن الخمر حكمها كذا أو كذا انطلاقا من هذه الآية ؟
هدانا الله لما فيه خير الصواب .