سورة الأنفال نزلت بعد بدر أم فتح مكة؟

فإن كل سور القرآن ذات وحدة موضوعية صريحة وكلها نزلت كاملة, إلا أنه لما كان لدى المسلمين تصورات تاريخية غير صحيحة عن بعض آيات في السورة, فيحاولون إسقاطها على السورة فلا يجدون رباطاً واضحاً يربط تلك الآيات بأخواتها في السورة الواحدة!

ومن ثم يتوه المتدبر القارئ لكتاب الله في السورة! وكلما طالت السورة كلما ازدادت الحيرة والتيه!! ويصبح الحديث عن وحدة موضوعية للسورة, أو عن إمكانية نزول السورة على مرة واحدة ضرباً من ضروب الشطح عند الباحث!

لذا نقدم للقارئ مثالاً كبيراً على دعوانا بأن معرفة الأجواء التي نزلت فيها السورة, بعبارة أخرى السبب الصحيح لنزول السورة –من خلال السورة نفسها-, سيظهر الوحدة الموضوعية لها وارتباط آياتها ببعضها! وينسف الدعاوى القائلة بأن آية كذا نزلت في واقعة كذا وآية كذا في واقعة كذا بعد سنوات طوال من نزول السورة –ولست أدري كيف كان شكلها بدونها- ثم ألحقت بالسورة!!

وهذا المثال هو سورة: الأنفال!

فالمشهور بين عامة المسلمين أن سورة نزلت بعد غزوة بدر وأن الأحداث المذكورة فيها تتحدث عن بعض من وقائع تلك المعركة!

إلا أن هذا القول والزعم بنزولها في هذه المناسبة يثير إشكاليات كثيرة! سنبينها من خلال تركيزنا على بعض آيات السورة! ونبدأ بتقديم منظورنا نحن للسورة والذي سيرى القارئ بنفسه كيف ستنسجم آياتها تبعاً له ويُقضى على الإشكاليات التي أظهرها هذا الزعم التاريخي!

سورة الأنفال نزلت بعد سورة الفتح, -والتي نزلت بعد فترة من فتح مكة, فهي لا تتحدث عن فتح مكة ولا عن العمرة الواردة في الروايات

وفي تلك الفترة كان هناك محاولات للغدر ومكر من المشركين حاولوا به إخراج الرسول من مكة –كما ذُكر في التوبة-, وحدث قتال عند العدوة القصوى –الموجودة بالجعرانة بجوار مكة
وفيها حدث فرار من المسلمين وفرار من المؤمنين واختلاف في المعركة وسارع بعض المؤمنين إلى أخذ الأسرى للمغنم بدلاً من التقتيل لإضعاف قوة العدو, كما حدث أن نقض معاهدون العهد مع الرسول, ففي هذه الأجواء نزلت سورة الأنفال.

وندعوك عزيزي القارئ لصحبتنا في قراءة السورة تبعاً لهذا المنظور الجديد –ولن نذكر كل آياتها حتى لا نطيل-:
تبدأ السورة بالحديث عن الأنفال –لاحظ الحديث في الفتح عن المغانم- وكيف أنها لله ولرسوله, والأمر بالتقوى وإصلاح ذات البين.

ثم تنتقل الآيات إلى الحديث عن موقف المؤمنين, وكيف أنه كان هناك فريق كاره للخروج, ويجادل في هذا جدال شديد, كأنما يساقون إلى الموت! فهل كان هذا حال المسلمين الذين كانوا خارجين لأخذ القافلة؟

الذي نعلمه من الروايات أن هناك من تخلف من المسلمين أصلاً لأنهم رأوا أن القافلة –التي يحرسها قرابة الأربعين- لا تستدعي أن يخرج المسلمون لها! بينما هنا الحديث عن فريق يجادل جدالاً مريرا –بالتأكيد لخوفه من المواجهة- , ثم هل يستقيم الحديث عن قطع دابر الكافرين مع أول معركة معهم, حدثت بعدها معارك أكبر بكثير؟!

فأين قطع الدابر؟! بينما على قولنا هي المعركة الفارقة مع أولئك المخادعين الغدارين, والتي كسرت شوكة المشركين في جزيرة العرب فلم تقم بعدها لهم قائمة!

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)

وبعد أن تتحدث الآيات عن أجواء المعركة تنهى المؤمنين عن الفرار وتتوعد منهم من يفر من المعركة بجهنم! ثم تقول إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح!
فأين جاء الفتح قبل بدر, أما على قولنا فقد جاء قبل ذلك في فتح مكة وفي المعركة المذكورة مسبقاً في سورة الفتح! وقوله ” وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا”, دليل صريح على أنه حصلت معارك مسبقة.

ثم إن قولهم بأن هذه الآيات نزلت بعد بدر أوجدت تعارضاً مع قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران : 155] “

 
فهنا الله يعفو عن المتولين وفي الأنفال السابقة لآل عمران يتوعدهم بجهنم!! بينما على قولنا وترتيبنا فإن آل عمران سابقة للأنفال, فهناك حدث تولي وعفو من الله, وهنا لما تكرر التولي كان الوعيد الشديد!

” إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران : 155]”

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)

ثم تحث الآيات المؤمنين على الطاعة وتذكرهم بنعمة الله عليهم وكيف أنهم كانوا مستضعفين! فنصرهم! وهي تنسجم أكثر مع معركة مثل التي نتحدث عنها من المعركة الأولى, وهي مثل الآية التي خُتمت بها سورة الفتح: .. كزرع أخرج شطئه فآزره ….

وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)

ثم تتحدث الآيات عن محاولة مكر الكافرين بالرسول, إلا أن الله أخرجه من بيته ونصره عليهم! وكيف أن الله لم يكن ليعذبهم والرسول فيهم! وكيف أن صلاتهم عند البيت لم تكن صلاة صحيحة!

وعلى قولهم: فالمفترض أن الله عاد للحديث عن مكر الكافرين بالرسول قبل إخراجه من مكة! فهم مكروا ومكر الله .. والواقع يقول أنه خرج فلم يعد موجودا, فالمفترض ظاهرياً أن هذا نصر للمشركين!

ناهيك عن أن قوله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم, ينسجم مع قولنا أكثر فالرسول موجود في مكة عن قولهم حيث الرسول قد هاجر؟!

ثم إن الحديث عن صلاة أقوام تدعي وتظهر الإيمان وتبطن الكفر ذات محل وكذلك الحديث عن تمييز الخبيث من الطيب وإهلاك الخبيث! بينما لماذا يلام كافرون على صلاتهم أصلا وهم لم يؤمنوا .. فليصلوا كما يشاءون وأين التمييز إذا كان هؤلاء في بلاد وأولئك في بلد بعيدة؟!!

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)

ثم توجه الآيات عن كيفية التعامل مع المغانم, وتذكر مكان تواجد الجيشين! العدوة الدنيا والعدوة القصوى!

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)

والمفاجأة الكبرى أن هذين المكانين بالقرب من مكة وليس بالقرب من المدينة, وتحديداً في الجعرانة! فالواقدي يذكر في كتابه المغازي:
فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج من الجعرانة ليلة الأربعاء لاثنى عشرة بقيت من ذي العقدة ليلاً؛ فأحرم من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى، وكان مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان بالجعرانة – فأما هذا المسجد الأدنى، فبناه رجل من قريش واتخذ ذلك الحائط.

والأزرقي يذكر في: أخبار مكة:
فلقيت أنا محمد بن طارق ، فسألته ، فقال : اتفقت أنا ومجاهد بالجعرانة ، فأخبرني أن « المسجد الأقصى الذي من وراء الوادي بالعدوة القصوى مصلى النبي صلى الله عليه وسلم ما كان بالجعرانة » قال : فأما هذا المسجد الأدنى فإنما بناه رجل من قريش ، واتخذ ذلك الحائط.
فهذا مرجح إضافي, حيث المكان موجود مسبقاً ويحمل الاسم ولا علاقة له بعسكرة الجيوش!

ثم تأمر الآيات المؤمنين بالثبات في القتال وبالطاعة وعدم التنازع, ولم تقل الروايات أنه حدث شيء من هذا في بدر! بينما تكرار الحديث عنه في أول السورة وهنا وفي آخر السورة دليل على وقوع هذا من المسلمين في تلك المعركة!

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)

ثم تتحدث الآيات عن الذين ينقضون عهودهم مع الرسول والمؤمنين, وطبعاً لا يمكن الزعم أن هذه الآيات نزلت بعد بدر مباشرة!
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)

وهذه الآية دليل كبير على أن هذه السورة لم تنزل بعد بدر مباشرة, وإنما بعد عدة معارك, ولقد حاول المفسرون إيجاد تفسير مقبول لهذه الآية فقالوا أنها كانت في يهود بني قريظة, وقال بعضهم أنها كانت في قبائل اليهود الثلاثة: قريظة والنضير وقنينقاع, إلا الناظر يجد أن هذه القبائل –تبعاً للروايات- لم تتح لها الفرصة لنقض العهد أكثر من مرة, وإنما كانوا يُجلون مع كل مرة ينقض أحدهم فيها العهد, ولم تذكر الروايات هذه القبائل التي كانت تنقض عهدها مع النبي ولا غيرها مما يمكن تقديمه كإسقاط تاريخي لهذه الآية.

أما على قولنا فهم من كانوا لا يزالون على عهد مع الرسول, ثم ينقضون عهودهم دوما عندما ينشب قتال بين المسلمين والمشركين فيأخذون جانب المشركين دوما, ثم يستميحون النبي الأعذار بعد هزيمة المشركين ثم يعودون وهكذا.

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)

ثم يعرف الله الرسول بما ينبغي عليه فعله تجاه هذا الموقف, فإن مالوا للسلم فمل, وإن كانوا يريدون الخداع بمعاهداتهم هذه فالله حسيبه ولقد فعل ما لا يمكن لبشر فعله, ومن ثم فحرض المؤمنين على القتال حتى ولو كان ما أمامهم كثر, إلا أن هذا ليس ملزما فعليكم فقط الوقوف للضعف, وفي القتال عليكم أخذ الأسرى بعد إعمال التقتيل في المشركين وليس قبل هذا, فلا يكون قتالكم لمغنم وإنما نصرة للدين.

(وليس في الآية حديث عن موقف الأسرى بعد الأسر هل يقتلوا أو يفدوا, وإنما الحديث عن موقف المسلمين من المقاتلين في أرض المعركة, فعليهم أن يقتلوا فيهم تقتيلا وبعد إنهاكهم يأخذون الأسرى

والظاهر من الآية أن النبي نهى المسلمين عن أخذ الأسرى قبل التقتيل, ولم يعجب هذا الصحابة, فنزلت الآية تقول أن هذا هو “الطبيعي/ المنتظر” من أي نبي, إلا أنكم تريدون الدنيا), ولولا كتاب سابق لعُذبتم, ومن ثم فيجوز لكم الانتفاع بما غنمتم (والفداء ليس مغنماً بحال).

ثم تُختم السورة بالحديث عن الذين هاجروا وجاهدوا وعن مستنصرين في الدين, وفي هذا دليل إضافي على تأخر نزول السورة!!

فانظر عزيزي القارئ في السورة كيف هي متصلة منسجمة واقرأها مجدداً تبعاً لهذا المنظور الجديد فستبصرها مترابطة متعاضدة!

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) …. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)

في الختام أقول:

لا يعني هذا أننا نقول أن غزوة بدر لم تحدث!! وإنما نقول أنه تم إسقاط السورة على غزوة بدر –ربما لتشابه بين الأحداث-, بينما السورة لم تكن فيها .. والله أعلى وأعلم!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.