الشباب والعقل الاستشكالي

المفترض أن يمر عقل الإنسان في أثناء تكونه بمراحل ذات ترتيب “متعالي”
يبدأ بالتغذية بالمحتوى السهل اليسير البسيط, متجها إلى الثقيل ثم إلى ما يمكن أن نسميه ب: المعقد, أو المتشعب.

وبقدر صلابة وقوة وسعة كل مستوى, يكون صالحا لأن يكون قاعدة يُبنى عليها المستوى الفكري التالي الأعلى, وبهذا يمكنه أن يثبت ويقوى … و”يُفرّع”.
وبقدر هشاشة المستوى المعرفي بقدر ما يكون المستوى التالي له, العالي عليه, مهتزا مزعزعا.

ولا تقتصر مشكلته على أنه لن “يُفرّع”, وإنما مشكلته أنه يكون “مشوها”, ولهذا إن قدر على توليد الأفكار والتصورات -وقد يقدر- فستكون أفكارا شائهة,
ناهيك عن أن أصحاب هذه الأبنية الفكرية أنفسهم يعانون مشاكل نفسية في حياتهم بدرجة من الدرجات,
وفعلا هم يشقون في النعيم بعقلهم!!

مشكلة نسبة كبيرة من جيل الشباب المعاصر أن البناء المعرفي لديهم لم يتكون بشكل “صحي”, ففي الغالب لم يتلقوا من المعارف المكتوبة ربما إلا المناهج الدراسية, وهي معارف بسيطة
وبالتوازي تشكل منظورهم للعالم من “الأعمال المرئية”, وأخص بالذكر: الأفلام.


ومشكلة الأفلام أنها “استثنائية”
فالأفلام لن تقدم “حياة عادية”, وإلا ما الجديد المثير الذي يدفع المشاهد لمشاهدتها؟!

فدوما هناك قصص وحيوات “فريدة” في الأفلام وفي العقود الأخيرة
وفي الأفلام “الأجنبية/ الأمريكية”, لم يعد الأمر مقتصرا على الفرادة
وإنما تعداه كذلك إلى “الاستثناءات” وإلى “الإشكاليات”
فأصبح يروج للمستثنى .. ليتم تطبيعه
وأصبحت الإشكاليات العقلية والفلسفية والعلمية تقدم في الأفلام

وبطبيعة الحال فإن هذا المحتوى يجد رواجا وقبولاً عند جيل الشباب -وغيرهم- لما فيه من الجدة ومخالفة المألوف, ولما يضيفه إلى عقولهم من “ممكنات” محتملة


ولأن العقل يتكون تبعا للمعارف والفكر المكرور الذي يغذى به
فإن عقل نسبة من هذا الجيل نشأ على الاستشكال وليس على القاعدة.
فلم يعد يرى “نظاما” أو “أنظمة” محكمة, ينبغي التصرف والحياة تبعا لها

وإنما أصبح يرى الإشكاليات في هذه الأنظمة
وأنها ليست محكمة, وليست منعزلة عن بعضها بعضا,
وأن له الحق في تجاوزها وأن الأمور كلها “نسبية”
فما من حق مطلق ولا باطل مطلق, وأنه لا ينبغي أن نكون “judgmental”


ولهذا ترسخ لدى نسبة لا بأس بها قناعة “التمرد”
أنه ينبغي عليه أن يكون متمردا
وألا يخضع للقوانين ولا للأنظمة .. وأنه بهذا يكون إنسانا قويا .. وصالحا!!

أعلم أن هذه الصورة هي عكس صورة جيلنا والأجيال السابقة, والتي ربيت على النظام والصرامة وعلى “الخضوع” كذلك, والتي ربما تصل إلى حد الجبرية والسلبية, ولن أحاول أن أفاضل هنا بين الجيلين, وإنما سأكتفي بالقول:


فارق كبير بين أن تكون ذا عقل ناقد يستطيع أن يرى القاعدة والاستثناء, ويعرف أن هذه قاعدة وأن هذا استثناء, يستطيع أن يقدر للأمور قدرها ويزن الأمور, وينزل كل مسألة تبعا ل “حجمها”, ويتقبل في مواطن الضرورة الاستثناء, بل وربما يدعو له.

فارق بين هذا العقل وبين العقل المستشكل, الذي يبحث تلقائيا في كل نظام عن مشكلة وعن استثناء, حتى يقول لك:
ما تقول ليس ملزما .. أو ليس صحيحا
فالأمور كلها .. نسبية .. “ملبنية .. طرية”

في النهاية:

عندما تُلبس الطفل عوينات كبيرة, فإنه سيستطيع أن يرى أكثر .. وربما أفضل
ولكنه يقينا لن يستطيع أن يفهم أو يعي أكثر
وذلك لأن معارفه المخزنة لديه لا تزال جد محدودة, فلن يستطيع البناء عليها ولا الإفادة منها
بل ربما يضيق صدره, لأنه لا يفهم كيف ولماذا حدث هذا وجرى ذاك
ولأنه عاجز عن التصرف مثل من راى!!

في نقدالعقل

الفلسفة_التسييقية

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

الإنسان ليس مجبرا

جاءني سؤال يقول:هل الانسان مجبر عن البحث عن حقيقة الكون والغاية من الحياة، فقد يقول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.