منهج صناعة الانسان في ظل الانفتاح الإعلامي المعاصر

(المحتوى المقدم هنا هو الورقة التي قدمتها في ندوة بنفس الاسم في مسقط في سلطنة عمان في آخر شهر سبتمبر 2018)

إن الحديث عن موضوع كهذا جد مجهد, فعن أي صنعة نتحدث, فهل نتحدث عن الواقع الموجود وكيف يُصنع الإنسان فعلاً, أم عن الغاية المرجوة, ومن ثم فكيف ينبغي أن يُصنع الإنسان لنحصل على صور متنوعة, يمكننا الزعم من خلالها أنها تجسيد للإنسان “الكامل”!

وحديث عن هكذا صناعة مرتبط ب “صانعي” الإنسان, وهم كثر, فلا يمكن الحديث عنها بدون الحديث عنهم, فهل نتحدث عن الوالدين أم المجتمع أم المربين أم المدرسة أم عن أرباب المال أم عن الحكومات, أم عن أرباب الفكر؟!

وكذلك عن أي إنسان نتحدث؟! هل يُفترض أن يقتصر حديثنا على الإنسان العربي المعاصر, أم الإنسان المعاصر عامةً, وهل سيقتصر حديثنا على البالغين أم يمتد ليشمل الإنسان في كل مراحله العمرية؟! ف

هل نقتصر على المراحل الأولى من عمره باعتبار الإنسان كائن عصي على التشكيل وأنه –قد- يقبل التشكيل في مراحله العمرية الأولى ربما حتى التخرج من الجامعة أو بعيدها, ثم بعد ذلك تثبت شخصيته ويرسخ كيانه الذي تكون في هذه المرحلة, ويصبح من الصعب عليه نفسه وعلى الآخرين إعادة صياغة وتكوين شخصيته أو إجراء تعديل محوري فيها, أم علينا الحديث عن صناعة تناسب مراحل الإنسان العمرية المختلفة, حيث أن “نفس” الإنسان تتطور لا محالة فبتغيراته الجسمانية العمرية؟!

عنوان ثقيل يحتم علينا الحديث عن كل أو جل هذه الجوانب! وهو ما سأحاول جاهدا تقديمه, من خلال عرض كلي, يبدأ بتناول الإنسان وصناعته بشكل عام, عبر عام الزمان وغالب المكان ثم أثني بعد ذلك بالحديث عن الإعلام والانفتاح الإعلامي, فأقول وبالله التوفيق:

بادئ ذي بدأ يمكنني القول أن مصطلح “صناعة الإنسان” هو تعبير معاصر حديث النشأة وغربيها, ورغما عن أن الله تعالى في كتابه الكريم تحدث عن عملية إعداد جد طويلة المدى لسيدنا موسى عليه السلام, فقال في سورة طه: “وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه : 41]”, “… وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه : 39]”,

إلا أننا لا نكاد نجد هذا المصطلح في المنتوج الثقافي الإسلامي العربي, ولم يظهر عندنا إلا نقلا ومحاكاة للغرب! والذي ظهر بعد الوصول إلى القناعة بأن محاولات “التشكيل” أو التصنيع الجزئية التي يتعرض لها الإنسان لم تعد مجدية, وأنه لا بد من النظر إلى الإنسان والتعامل معه ككيان واحد هو “الإنسان” وليس كأدوار أو كمراحل!

ورغما عن هذا فلا بد من الإقرار بأن الإنسان لا يمكن أن يتعرض لعملية تصنيع كلية بأي حال من الأحوال, وأنه خضع وسيظل يخضع لعمليات تصنيع جزئية! والفاصل هو, هل هي متفقة الوجهة أو منسجمة فيما بينها, ومتكاملة أم أنها متناقضة يهدم بعضها بعضا!


إن كل إنسان منا قد خضع لعملية “تصنيع” في مبتدأ حياته قام بها والداه أخرجته من أصله “الحيواني”, وأكسبته طبائع “إنسانية”, وما لا ينبغي أن ننساه هو أن أطول حيوان يحصل على فترة إعداد هو الإنسان, فعلى عكس الظبية التي يمكنها أن تعدو بمجرد ولادتها, فإن الإنسان يولد أعجز ما يكون لا يستطيع إلا البكاء!

ثم يخضع لأطول فترة إعداد يكتسب فيها القدرات ثم المعارف, فيكتسب القدرة على الحركة والتحكم في أعضاءه ثم الحديث ثم يعلمه والداه أصول وأسس التعامل الإنساني, وأهم القيم الأخلاقية والسلوكية وغالباً ما يكسباه أصول دينه وأهم شعائره .. الخ!

وأصادر فأقول أن مقياس نجاح عملية صناعة الإنسان هي بقدر إكسابه طبائع إنسانية وبقدر السيطرة على والتحكم في الخصال الحيوانية! إن كل الأمم تتفق في تقديم الصنعة الأولى –الابتدائية- أي الإخراج من الحيوانية, بينما محل الاختلاف والتباين هو “الصنعة المتأخرة”, صناعة الإنسان الناضج, والتي هي محور الحديث, والتي وتبعاً لشدتها وجودتها يتراوح الأثر بين الإحياء والإماتة!

إذا فالإنسان في أصله “حيواني” الطبع, ولكنه يُكسب “الإنسانية” أول ما يكون من والديه, ثم بعد ذلك يمده المجتمع الصغير المحيط به بمعارف وخبرات أخرى, وبعد أن كان الطفل يتعهداه أبواه يصبح الإنسان صبيا أو مراهقا أو شابا عهدة المجتمع, والذي يواصل صقله وصناعته.

وطيلة التاريخ كان الفعل السائد للمجتمع هو صناعة الإنسان “العامل” مثل: إيجاد الحداد, المزارع وغيرهما من أرباب المهن, والذين يلقنون مهارات هذه الصنعة ويكسبونها عبر سنوات طويلة من ملازمة “المِعلم”!

وبشكل أقل كان هناك صناعة “العالم” بالمعنى الواسع للكلمة, والذي يشير إلى كل من يعمل في المجال الفكري, والذي تجسد عبر تاريخنا الإسلامي في الفقيه أو الفلكي أو الفيلسوف .. الخ, والذي يظل سنوات طويلة “طالب علم”, ثم يعمل فيما بعد بما تعلم! (وثمة من جمع بين المسارين).

وبجانب هذين المسارين, أي صناعة العامل أو العالم, واللذان لم يزيدا عن كونهما عن تخليق لجانب واحد من جوانب الإنسان, كان هناك تيار الصوفية, والذي غالباً ما يبدأ في مرحلة عمرية متأخرة من حياة الإنسان, على عكس هذين المسارين اللذين يصاحبان الإنسان في مرحلة مبكرة من عمره, ويمكنني الزعم أن المتصوفة عبر العصور هم أقدم وأول وأطول من عمل على صناعة “الإنسان” كإنسان يحيى لربه وبه, وليس كمحترف حرفة.


ولم يختلف حال صناعة الإنسان الممنهجة في زماننا كثيراً سوى أن تعلم القراءة والكتابة وأصول بعض العلوم الطبيعية أصبحت مكوناً رئيساً من مكونات الإنسان المعاصر, فعلى العكس من الأزمنة السابقة والتي كانت الأمية فيها هي الأصل وكان “القارئون” فيها استثناءً, ولم يكن يشعر من لا يستطيع القراءة أو الكتابة بالنقص, فإن “الأمية” أصبحت في زماننا هذا منقصة للفرد ومسبة للأمة!

ففي عصرنا أصبحت بداية مسار العالم والعامل واحدة (بعد أن كانت مختلفة في القرون الماضية), يجلسان على نفس مقاعد المدرسة, ثم تبعاً لاجتهادهما وتحصيلهما العلمي –وأمور أخرى- يفترق المسار! إلا أن الناتج والغاية لا تزال كما هي: إنشاء الإنسان العامل والعالم, مع حدوث فارق محوري وهو أن “العلم” أصبح “عملياً”, بعدما نُزعت منه أجواء القداسة التي كانت تحيط به, وكذلك بعدما غُيبت الغاية النبيلة له .. فالإنسان يتعلم أي شيء .. ليعمل به!!!


وبالإضافة إلى المدرسة, التي أصبحت هي قبلتنا في بواكير حياتنا, فإن وسائل الإعلام الحديثة هي كذلك من أهم مميزات الإنسان المعاصر, والتي نمت وتطورت حتى أصبحت –من- أهم عناصر بناءه وصناعة الإنسان! فلم تعد وسائل الإعلام هي وسائل التواصل في المجتمعات البسيطة, مثل حكايات الجد أو الجدة حول النار ليلاً وفي النداء من أعالي الجبال وفي النحت على الحجارة!

ولم تعد مقتصرة على وسائل الإعلام البدائية مثل منادي الملك, والذي كان يطوف منادياً في الأسواق والطرقات وتجمعات العوام منادياً: اسمعوا وعوا ولا الحمام الزاجل, ولا الرسائل المنقولة بالخيل ولا في الخطاب المباشر في التجمعات البشرية الكبيرة كما كان في بلاد اليونان. وكما كان في بلاد العرب والذين استغلوا مثلاً موسم الحج, -والذي كان موسما تجاريا ثقافيا بامتياز- في تعريف كل قبيلة الآخرين بنفسها وبأمجادها.

كذلك لم تعد وسائل الإعلام مجرد نشرات للبلاغات الحكومية كانت تعلق في الميادين العامة, مثل ما كانت في روما مع “نشرات الأكتادورينا”, والتي كانت تحتوي أخباراً مثل أخبار المحاكم والبلاط والمراسيم, وأخبارا أخرى خاصة مثل المواليد والزيجات والوفيات وغيرها, ولم تعد كذلك “الرسائل الإخبارية”, التي كانت وسيلة تبادل المعلومات بين رجال الأعمال والسياسة والذين يقطنون بعيدا عن العاصمة.

لم تعد وسائل الإعلام سبورة البابا البيضاء التي يسجل فيها أحداث العام ويعرضها في داره، حيث يحضر المواطنون للإحاطة بما فيها. ولا النشرة العامة، وهي لون من الأوراق العامة ومن ثم حلت النشرة الدورية، محل الحوليات الكبرى. واستمر استخدام الرسائل الإخبارية المنسوخة، طوال العصور الوسطى، لخدمة التجارة، بين المدن الأوروبية المختلفة، وأصبحت مدينة “فيينا” مركزاً لهذه الخطابات،

وأصبح هناك كتاب، مهنتهم كتابة الأخبار، أو الرسائل الإخبارية، في جميع المدن الكبرى, وإنما تطورت إلى كيانات منظمة تشكل جزءً من وجدان الإنسان المعاصر.

ويمكن القول أن اختراع الطباعة بالحروف المنفصلة على يد جوتنبرج الألماني في القرن الخامس عشر كانت هي الخطوة المحورية في ظهور وسائل الإعلام الحديثة, فبجانب الكتب والتي بدأت في الانتشار ولم تعد حكرا على علية القوم, (ويكفينا في هذا السياق أنه طُبع في ألمانيا وقتها في خلال أقل من خمسين عاما قرابة 40 ألف مطبوع, وبلغ عدد نسخها قرابة 20 مليونا,

وهذا يبين لنا الشبق الهائل للمعرفة, وكيف ساهمت الطباعة في تحقيق قفزات في مسيرة المجتمعات الأوروبية, فالكتاب وإن كان علامة مميزة للحضارة العربية وكان هناك طائفة النساخين, إلا أنه كان يُنسخ باليد وكان مكلفا), نعود فنقول: فبجانب الكتب ساهمت المطبعة في ظهور الصحف اليومية, والتي كانت شيئا غريباً غير معروف ولا مألوف في عالمنا العربي, حتى إن رفاعة الطهطاوي عندما ابتعث في القرن التاسع عشر إلى فرنسا تعجب منها!

ولم تنفرد الصحافة بصدارة المشهد الإعلامي طويلاً, إذ ظهر الإعلام المسموع والمتمثل في المذياع والهواتف, وبعدها بفترة قصيرة ظهر الإعلام المرئي والمتمثل في السينما ثم التلفاز, ثم كانت هناك قفزة كبيرة مع ظهور “الحواسيب الشخصية”, والتي تلاها مباشرة ظهور شبكة المعلومات “الإنترنت”, ويمكننا القول أن القفزة النوعية كانت مع ظهور الهواتف النقالة الذكية, والتي أصبحت مصاحبة للإنسان في حله وترحاله, والتي لم تقتصر على توصيل الإنسان بالآخرين وبالإنترنت, وإنما مكنت الآخرين كذلك من الوصول إليه حيثما كان! على خلاف الوسائل الأخرى والتي تتواجد في الأماكن المغلقة غالباً.

وهكذا لم يعد الفرد العادي مجرد مستقبل وإنما أصبح مشاركاً صانعاً فاعلا, لهذا لا عجب أن نجد أن هناك مستخدما جديداً لوسائل التواصل الاجتماعي كل 15 ثانية, وأن هناك حوالي 8 مليارات مشاهدة يوميا للفيديو على فيسبوك وسناب شات, وحوالي 62 مليار رسالة يومياً على تطبيقي فيسبوك وواتساب!!

وكما رأينا لم تعد “وسائل الإعلام” مجرد وسائل إعلام, وإنما تعدته إلى مخاطبة الإنسان, وتلبية احتياجاته “النفسية والوجدانية والعلمية والفكرية”, بل وحتى أصبحت بابا للعمل والتربح.

وبعد أن كان على الإنسان أن يذهب إلى المعلم ليتعلم والطبيب النفسي ليتداوى, والمغني ليطرب, وإلى المصنع أو الشركة ليعمل, أصبحت وسائل الإعلام تأتي بكل هؤلاء إلى الإنسان, وبعد أن كان على الإنسان أن يخرج إلى “الشارع” ليلعب, أصبح يمكنه أن يلعب في البيت, ويكفينا أن نعلم أن صناعة مثل صناعة ألعاب الفيديو تقدر في العام بحوالي 70 مليار دولار سنويا! والتي تمثل ألعاب القتال والقتل فيها نسبة لا بأس بها!

وهي ما هي في تدمير وتشويه شخصية مدمنيها!! وأصبح يمكنه أن يعمل من البيت. وكذلك ظهرت “التطبيقات”, والتي هي بمثابة برامج تفاعلية تلبي للإنسان كثيراً من احتياجاته هو على هاتفه (وليس كالصفحات والمواقع الجامدة, والتي تظهر في المقام الأول كواجهة لكيان آخر يقدم نفسه للإنسان!!) وكان منها التجاري والتواصلي والترفيهي والتعليمي والصحي .. الخ, وبلغ عدد المحمل منها على نظام أندرويد حوالي 10 مليارات تطبيق! هذا المحمل, بينما التطبيقات نفسها والألعاب المتاحة في جوجل بلاي تتجاوز 3 مليون تطبيق!

ومع الفوائد الجمة لإيصال أصوات المتملكين لعامة الشعب, سواء سياسية أو اقتصادية, تشعبت وتعددت وتنوعت وتمددت الشبكات الإعلامية بأشكالها المختلفة في العقود الأخيرة, حتى أصبحت صناعة الإعلام ثالث أكبر صناعة في العالم, بعد صناعة الأسلحة والمواد الكيماوية
لأنها تعتبر الوسيط المظهر والمقدم لكل الأنشطة الحياتية من اقتصاد وسياسة ودين وثقافة, بتسليط الضوء عليها! وهكذا لم يعد الإعلام هو السلطة الرابعة, بعد السلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية, وإنما تجاوزت هذا كله لتصبح هي السلطة الأولى, إما مشاركة أو انفراداً, سلطة تصنع الرأي العام وتوجهه وتشكله .. سلطة تتجاوز الحدود!

حتى أصبح من الممكن القول والزعم أن قادة العالم الجدد هم أصحاب الامبراطوريات الإعلامية (ويكفي أن تعلم أن هناك حوالي 6 شركات فقط تسيطر على قرابة 90% من صناعة الإعلام الأمريكية) ولا يمكننا أن نغفل عن أن “القوة الناعمة” لأي مجتمع قائمة بدرجة كبيرة على إعلامه, فالهيمنة الأمريكية تعتمد بدرجة كبيرة على تصدير صورة معينة عن القوة الأمريكية والمقاتل الأمريكي والقيم الأمريكية .. الخ!

إذا كان من المنطقي والبديهي أن تتغير أدوار الإعلام, وألا تظل مقتصرة على الإعلام, على نشر الخبر, أو حتى الترفيه, وأن تتعداه إلى “صناعة الإنسان”, الإنسان الذي يريده مالكو المنابر الإعلامية, فأفلح الإعلام في صناعة “الإنسان الزبون الواهم المستكين”!!

وباستثناء القراء الذين حُصنوا مسبقا بالقراءة كان من المنطقي أن يقع غير القراء في حبائل الطوفان الإعلامي الذي يحاصرهم في كل مكان وزمان, فلم يعد الأمر مقتصرا على وجود قناة وقنوات ومواقع وتطبيقات تخاطب كل اهتمام واحتياج إنساني! وإنما تعداه إلى خلق احتياجات عند الإنسان, فلم يعد دور الإعلان مجرد الدعاية للمنتج, وإنما خلق احتياج له ليشتريه الزبون, رغما عن استغناءه عنه!

ولا مفر فالإعلانات تقفز في وجهك عند فتح صفحات وعند تشغيل فيديوهات وعند وعند, وتعداه كذلك إلى مخاطبة الأحلام والأوهام, فإن كنت تحلم بالثراء فهناك برامج المسابقات والمواهب والتي يمكنك من خلالها أن تصبح ثريا مشهور في لحظة واحدة!

وأرقام الاتصالات والاشتراكات في هذه البرامج تنبأنا كم يلهث الإنسان العربي خلف حلم الثراء السريع بدون مجهود! وتعداه كذلك إلى مخاطبة الشهوات والغرائز والتفنن في تطبيقها, ولأن الإنسان نفسه أصبح يمكن تقديمه كسلعة يمكن التربح منها, تمت “سلعنة” الإنسان, ولا أعني بهذا صناعة الأفلام الإباحية حصرا, فالمرأة مثلاً حاضرة في كل الإعلانات حتى في إعلانات شفرات الحلاقة للرجال! وهو من استخدم المرأة كجسد وعنصر جذب, وتعداه كذلك إلى الإقناع بقبول الأوضاع السياسية والاقتصادية السيئة, وتبرير التجاوزات الحكومية, بل وتجميلها!

ونكتفي بهذا القدر حتى لا يُظن أننا نعادي الإعلام, فللإعلام العديد من الأدوار الإيجابية, فلقد ساهم الإعلام بدرجة كبيرة في زيادة الوعي لدى الأفراد, سواء الوعي الصحي أو الثقافي أو غيرهما, ويمكننا الزعم وبكل ثقة أن مستوى المعارف الحياتية العامة لدى الإنسان المتوسط في العصور الحديثة أعلى بكثير بما لا يقارن بسابقيه, وذلك بفضل وسائل الإعلام, بل يمكننا الزعم أن الإنسان المعاصر أصبح يمكنه الحصول على والوصول إلى ما كان لا يصل إليه إلا الملوك سابقا!!


وكذلك أدى وجود العديد من المنابر إلى إيجاد حالة حوار مجتمعي, فلم نعد نسمع فقط صوت السلطة السياسية أو الدينية .. لم نعد فقط نسمع صوت الفاعل وإنما أصبح للمفعول به المستقبل صوتاً مسموعا, وعبر هذا الجدل تغير الكثير! ووجدت حالة من الحلحلة والخلخلة الاجتماعية, أدت إلى تغيير أو حسم كثير من القضايا ظلت لقرون معلقة مثل التعصب واضطهاد الآخر ومثل قضية المرأة

وكذلك أفلح الإعلام في تسليط الأضواء على أوضاع “إنسانية” سيئة, دفعت الناس إلى استنكارها ومن ثم السعي إلى تغييرها, فصورة فتاة فيتنامية محترقة بالنابالم الأمريكي أدت إلى خروج أمريكا من فيتنام!!

ويمكننا القول أن المزية الكبرى للإعلام والتي أدت إلى هذه النجاحات هي انشغاله بالإنسان وبالواقع, بالقضايا الواقعية, بخلاف الدين مثلاً, والذي يصر القائمون عليه على تقديم الصورة المثالية و “الما ينبغي”, والغيبيات, والعروض عروض الكرام للواقع.

ونكتفي بهذا القدر لننتقل إلى الحديث عن صاحب الشأن, الإنسان نفسه, فنقول:
للاختلافات التكنولوجيا الكثيرة التي دخلت حياتنا, وللطوفان الإعلامي الذي أغرقنا اختلف الإنسان المعاصر عن سابقيه اختلافاً كبيرا, فأصبحت تركيبته النفسية وأدواره في حياته ونظام يومه مختلفة عن سابقينا

وانطلاقا من مبدأ: “وبضدها تتميز الأشياء”, فإننا سنحاول التعريف به من خلال المقارنة بينه وبين “الإنسان السابق”, بينه وبين الأجيال القديمة, ما الذي تميز به أو بعبارة أدق: ما الذي يختلف فيه الإنسان المعاصر عن من سبقه من إنسان؟! سأحاول أن أعرض لبعض من أكبر وأوضح عناصر الاختلاف, الذي تميز بها عن سابقيه, والتي كان لوسائل الإعلام يداً طولى في حدوثها:


– بفضل الإعلام رأى الإنسان المعاصر العالم جله بعينه, بعدما كان أجدادنا يرونه بآذانهم من خلال الحكايا والخرافات أو أحلامهم في المنام! وهكذا قلّ تسبيح الإنسان المعاصر, فهو لم يعد يندهش كثيرا!

– الإنسان المعاصر قارئ, فحتى الجيل السابق لنا كانت الكتب المتاحة حوله قليلة, وهي كتب تخضع لرقابة الدولة والمجتمع, وكان اقتنائها يكلف مالاً كثيراً, بينما الآن الكتب تحيط بالإنسان بدون رقيب, بل وأصبح يمكنه أن يقرأ بأذنه, ويمكنه أن يحصل منها على ما يشاء بضغطة زر, بدون أن يتكلف قرشاً واحداً

وهكذا رأى إنساننا المعاصر العالم بعقله كما رآه بعينه, ومن ثم يمكننا الحديث عن مزية أخرى للإنسان المعاصر وهي: زيادة نسبة المشاركة في تشكيل الذات, فالإنسان المعاصر لم يعد نسخة مكرورة منفعلة لأبيه أو عمه أو أبناء شارعه أو قبيلته, وإنما خليطٌ من هذا وذاك!

– الإنسان المعاصر أكثر تحرراً, وبسبب سقوط كثير من القيود, أصبح يواجه إشكالية كيفية “الانتقال السالم” من الواقع إلى الممكن! وهي إشكالية “الحرية السريعة”!

– إشكالية: العبثية وفقدان المعنى, فبعد تهاوي حدود “العالم الصغير” أصبح الإنسان المعاصر يشعر بالحيرة, فالبشرية المعاصرة في تيه جاوز الأربعين عاما! ومن ثم فإن من أبرز أمراض العصر هي الكآبة, ورغما عن الإمكانيات الهائلة التي حازها إنساننا المعاصر فإنه غير سعيد!

وتبعا لهذا أصبحنا نرى ظاهرة “الإنسان الطاغي”, الذي ظن أنه مستغني! (المتعالي على الدين وعلى الأديان بشكل عام), ذلك الإنسان المنشغل بالقضايا الكبرى والتي تقدمها الأفلام والمسلسلات ولكنه لا يعرف كيف ينبغي أن يتصرف في المواقف البسيطة التي يتعرض لها! وهو ما ركز عليه الدين في تناوله, منطلقا من الصغير إلى الكبير, ومن الجزئي إلى الكلي, مكونا قاعدة كلية عامة يتكئ عليها الإنسان في تعامله مع ما يجد ويستجد!

– انطماس كثير من الملامح “الهويائية”, التي كانت موجودة لقرون, موت واندثار “الفولكلور”, وسيادة نموذج الإنسان الغربي بشكلياته (بينما المجتمعات الصغيرة المنغلقة لا تزال محتفظة بهويتها, وإن مسها التغير فهو تغيير في القشرة, بينما لا تزال النواة صلبة كما هي في دواخل ونفوس أبناءها! وهو ما لا أزال ألمسه كثيراً في أبناء الريف والبدو!),
وهكذا أصبح الإنسان المعاصر يواجه مشكلة “هوية” بسبب الإعلام وتعدد المشارب الإعلامية, والانفتاح على الآخر, والذي أدى إلى ذوبان الإنسان في “الآخر” بدرجة من الدرجات, ومن ثم تشتت وتمزق بين “أنوات” عديدة تبعاً لمصدر تلقيه! فلم يعد من السهل على الإنسان أن يحدد هويته بسهولة قائلاً: أنا كذا! وهكذا أصبح الإنسان “غريبا” عن نفسه أو أصبحت نفسه غريبة عليه! فهو لا يرى لنفسه معالم وحدودا واضحة, فلم يعد الإنسان يعرف من هو!

– العولمة وانهيار الحدود بين المجتمعات, وكذلك انهيار الحدود بين المكونات الشخصية لكل مجتمع, حالة من التماهي الثقافي والوجداني بين أفراد المجتمعات! وتبعا للانفتاح على الآخر برزت قيم “التعارف” والإخاء الإنساني داخل منظومة القيم السائدة في مجتمعاتنا واحتلت مكانة لا بأس لها, ونرجو لها مزيد صعود وظهور, وذلك لانكشاف الآخر أمام أعيننا وإمكان رؤيته بعد أن كان مختفيا لقرون!

– استقلال المعرفة عن الدين! قديما كان رجال الدين هم من يقدمون العلم للعوام, ومن ثم فكان هناك انسجام بينهما, أو إن شئنا الدقة تطويع للعلم تحت راية الدين, فلا يقدَّم إلا ما يتفق مع الدين, ناهيك عن تضييق رجال الدين الكثرة على رجال العلم القلة الذين يقولون بخلاف ما يقول به الدين
أما الآن فرجال العلم ليسوا رجال دين! ولا يهتمون بما يقوله الدين في مجال أبحاثهم, فالمهم لديهم ما يخرجون به من نتائج, أو ما قال به “أئمتهم” من العلماء الطبيعيين! وتبعا لهذه الاستقلالية –أو حتى العدائية- أصبحنا نجد من شباب هذا الجيل من يقول: أومن بالعلم! فأصبح العلم لديهم هو: العقيدة الجديدة, أو: الدين البديل!

– عصر الفردانية و”الأنا”, والمطالبة بالحقوق الفردية, والسعي إلى النجاحات الفردية .. الخ وخفوت وطأة: المجتمع وحقوق الأمة, والتي إن استمرت ستؤدي إلى سيولة المجتمع وتمزق روابطه! وتبعا لهذا تحولت المنطلقات, فأصبح المنطلق من الإنسان, سابقا كان الإنسان يُصنع للفكرة

وكان المصنوعين يفتخرون بتضحياتهم وبما قدموه لعقائدهم, وربما قديما بتروا فروع من الشجرة لتهذيبها, بينما الآن تهذيب أوراق وأغصان, فكانوا يجبرون الإنسان على التنازل عن مكونات رئيسة من شخصيته, كانت تُسود الدنيا أمان عينه وتُقبح .. من أجل إصلاح الذات, بل وصل الحال ببعضهم إلى التنازل عن ذاته, فظهرت طائفة الزهاد معتزلي الدنيا, وهم ليسوا بقليل!!

أما الآن فقد اختلف الحال, فالفكر والدين للإنسان وليس العكس! فأصبح الآن تُعدل طريقة تقديم كل منهما, فبعد أن كان الأهم سابقاً هو صحة الفكرة أو صوابية المعتقد, لم يعد هذا مقبولاً وأصبح الاهتمام الآن أكثر ب: الصلاحية, هل تصلح هذه الأفكار وتُصلح أم أن ضرها أكثر من نفعها, فهل تشفي المريض أم أنها تقتله؟! فلم يعد مقبولاً وجود “أطباء” لا يعرفون المريض ولا كيف حالته, ويتفننون في تقديم علاجات من كتبهم, ورغما عن هذا يصفون الدواء.

– خلق عصبيات جديدة, ورغما عن قولنا أن الإعلام أفلح في القضاء على التعصب, فإن الإنسان الحديث أصبح متعصباً لأمور أخرى كثيرة, مثل التعصب للنادي الرياضي, ومثل التعصب لحزب سياسي أو للدولة القومية!! وكذلك أصبح متعصباً للعديد من “العقائد العلمية”!

فقديما كان الإنسان يتعصب للعقيدة التي يمليها شيخه عليه, أما الآن فإن الآراء العلمية الملقنة في التلفاز والكتب التعليمية والتي قام كثيرون بعمل فيديوهات توضيحية وتبسيطية لها هي الآراء الصحيح لا محالة, ومن يقول بغيرها هم متخلفون رجعيون, رغما عن أنه هو نفسه لا يعرف إلا أدلة سطحية عنها, وهكذا توسعت دائرة الإيمان عند الإنسان المعاصر كثيراً!

– اختلاف ميزان القيم والأخلاق عند الإنسان المعاصر, حيث سادت القيم العملية والمادية, وأصبحت الأفعال تقيم بنفعها, وتراجعت العديد من القيم الأخلاقية والدينية, وأصبح لدى الكثيرين الجرأة على التحرر من القيم السائدة بل والانتقاد العلني لها!
ولم يقتصر تغير منظومة القيم لديه على تغيير: تقديم وتأخير, وإنما تعداه إلى تغيير: أحجام, فكليات أصبحت فرعيات وبالعكس, وكبائر أصبحت صغائر وهكذا, فمثلاً الفن بعد أن كان “شيئا” هامشيا –بل وربما محتقراً أو محرماً- عند أفراد المجتمع احتل مكانة كبيرة, وأصبح “مغذياً” للروح, وتراجع الدين كثيراً وأصبح يُنظر إليه ك “أفكار” تم تجاوزها!!

– الإنسان المعاصر “متجاوز للمكان” بفضل “الوجود الافتراضي”, والذي مكنه من التواجد في بيته وكذلك في المحلات التجارية ومع الأصدقاء ويتعلم ويخاطب غيره .. بل وكذلك: يحب!!! ولهذا أصبح يقاتل من أجل الوجود الافتراضي على مواقع التواصل الاجتماعي

فالتواجد هناك أصبح بنفس درجة أهمية الوجود في الواقع إن لم يتجاوزها, فأصبح من الواجب أن يضيف “بوستات” يومية قدر المستطاع, ويا حبذا لو قمت بإضافة بعض الفيديوهات, فهذا يزيد من حضورك وشهرتك, ومن يدري فقد يكون هذا الحضور الافتراضي هو الباب للوصول إلى الشهرة, إلى مزيد من “الأضواء الإعلامية” والوضع تحت العدسة! .. وأما الأقارب فهم موجودون معنا هنا ونتواصل معهم!!

بالإضافة لهذا فهناك الكثير من الملامح المميزة للإنسان المعاصر, ولكنا نكتفي بهذه المذكورة والتي نراها محورية في فهم الإنسان المعاصر المتأثر بالإعلام! وننتقل إلى النقطة المحورية: كيف هو السبيل إلى صناعة كلية للإنسان؟

فنقول: إن الإنسان راض بدور المصنوع, راض بدور المفعول به طيلة حياته! وفارق كبير بين الطفل الذي لا يعلم من دنياه ولا من ذاته شيئاً, فيشكله أبواه والمجتمع كما يشاءون, وبين ذلك الناضج الذي بلغ ورأى وأدرك .. واستقل عن والديه.. ورغما عن ذلك فهو راض بأن يكون صنعة غيره, لا أن يكون صانع نفسه! وهذا هو لب الإشكال,

إننا نرى أن الحل هو أن نحرر الإنسان, أن نعطي الإنسان الناضج زمام أمر نفسه, بعد أن نعلمه كيف يقودها ويتحكم فيها, أن نرسم نحن له المسارات, لا أن نقوم بتقدم الاختيارات, نرسم المسارات القويمة ونتركه يقوم بصناعة نفسه بنفسه! إن دورنا هو “غرس البذرة”, لسنا بحاجة إلى غرس قيم كثيرة, تكفي القيم الكبرى المحورية, ومع الوقت ستثمر, فالله سبحانه أنزل كتابا اشتبك وتجادل مع الواقع ومع مرور عقود من الزمان كان قد غير الواقع!

نعم نقر بحتمية وجود الصانعين الخارجيين, فحتى لو كبر الإنسان يظل يرجع إلى والديه يستشيرهما, ومهما نضج فالدين وإطاره موجود, وهناك الأطباء النفسيون والمستشارون الاجتماعيون, ولكن يظل كل هؤلاء عناصر ثانوية, ويبقى العنصر الرئيس هو الإنسان نفسه, وقدرة عزيمته على أخذ خطوات في طريق التغيير, وقوة إيمانه, وقدرتها على تثبيته! فالإنسان يخوض حياته بمفرده, والدين لا يقدم إجابات لكل الأسئلة والمواقف التي يمر بها الإنسان, وكذلك لن يرجع الإنسان في كل كبيرة وصغيرة إلى غيره, فالإنسان هو من يتخذ معظم قراراته بنفسه!

لهذا فإن الحل هو في “التصنيع الذاتي”, أو ما عُرف بالمصطلح الديني ب “التزكية”! وهو ما أطال القرآن النفس في الحديث عنه, بل وجعل التزكية من الأدوار الرئيسة للرسول, فهو مبعوث ليتلو آيات الله ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة! وبعد الرسول كل إنسان مطالب بأن يزكي نفسه, فقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها, والتزكية تعني في المقام الأول التطهير, أن يطهر الإنسان نفسه من الدنس والرجس, فيبتعد عن ارتكاب المحرمات, وكذلك عن “أساليب الحياة” الفاسدة, فالمتزكي لن يكون مستهلكاً مسرفاً, لن يكون ممن يستمعون اللغو ويضيعون الوقت فيما لا طائل من وراءه!!

وسيحاول دوما أن يأتي بالخير النافع, الذي يفيد به نفسه وغيره من أفراد مجتمعه! ولا يعني هذا أن المتزكي سيصبح ملَكا منزلا, وإنما هو إنسان يخطئ ويصيب, إنسان ذو نفس ذات نزعات وشهوات تناديه, وهو يجادها أحيانا ويستسلم لها أخرى, ولكنه يحاول قدر الإمكان أن يقلل من الأخطاء وأن يفعل الصواب!

لقد أدرك الصوفية أهمية إصلاح النفس بمجادتها, وعملوا على إصلاحها, إلا أنهم شطوا بانعزالهم عن الدنيا والدعوة إلى تركها, والإقبال على الآخرة, فمالوا في الاتجاه المعاكس لأولئك الذين أقبلوا على الدنيا يرتشفونها ارتشافا ويعتصرونها اعتصارا!!

ومن ثم فنحن بحاجة لذلك المتزكي الذي يعيش دنياه, وليس المتزكي الذي يعتزلها خوفاً منها ومن فتنتها!! ذلك الذي يُسخر وسائل الإعلام لمصلحته وليس ذلك المنبهر اللاهث وراءها, المضيع يومه في التنقل وراء أضواءها ولمعانها! فالعلم والمعرفة الآن أصبحا بفضلها متاحين, يمكن للطالب الباحث أن يصل إليهما بدون جهد وبدون مال .. فقط قليل من الجهد في البحث والتنقيب … وبعدها سيصل إلى الكنز المرصود!

نعم, نعيد تأكيدنا على وجود صانعين خارجيين, من أهمهم في بلادنا العربية, رجال الدين, فلا يزال لهم الدور الأكبر في صياغة العقل العربي, وتشكيل فكر كثير من الشباب, ولكن نقول إن المفترض في رجال الدين أن يكون دورهم كذلك هو تزكية الإنسان, (بعد أن يبدؤوا بأنفسهم), تربيته على الأخلاق القويمة, وعلى التطبيقات الأنسب لنصوص الدين, وعلى أصول ومبادئ عقائد الدين, والتي تدعو إلى العمل والانتاج والاعتماد على الذات, وليس تلك التي تجعله يظن أن له مزية وتفضلاً وعلواً على غيره من أصحاب الأديان الأخرى!

وكذلك يفترض أن يعملوا على تنمية أسس ومبادئ التفكير السليم لديه, وعلى تنمية الحس الوجداني لديه, لإنشاء ذلك الإنسان المتوازن, الذي يجتمع بداخله الخلق الكريم والفعل الصحيح والعقل السليم والذوق الرفيع, إلا أن الواقع يقول إنهم غالباً ما يهتمون بنشر آراء المذهب والدفاع عنها وإظهار كيف أنها هي الصحيحة, مما يخرج إنسانا متعصباً لبعض الآراء والاختيارات, ويرى بذلك أنه مؤمن صالح, بينما هو في الواقع كما هو لم يتغير!


ورغما عن قولنا ب “التصنيع الذاتي” للإنسان, فإننا نقول:
بسبب عدم وجود نظرية تربوية/ صناعية كلية مستخرجة من القرآن أو حتى مستندة إلى منظور كلي مستخرج من تراثنا, فلن تفلح “صناعة إنساننا”, وذلك لأننا لا نعلم وجهة نقصدها, وما يقوم به متخصصونا هو تقليد في أو صراع حول جزئيات نقلوها من علماء الغرب!

واللذين لم تكن نظرياتهم ذات مستند كلي بحال, وما نظريات فرويد المريضة ببعيد ولا باستثناء! إننا لا نعلم كيف “استدل” الله أو كيف أقام الله الحجة علينا, لا نعلم ما هي وجهة الأدلة القرآنية! ربما بعضنا يعلم جيداً “كيف تكلم زرادشت” ولكننا لا نعلم “الوجهة العامة” للأدلة القرآنية!


فمثلا نحن نتحدث عن صناعة الإنسان, فهل نعلم كيف ينبغي أن نقوم ب “صناعة المرأة”؟!! هل فهمنا المرأة أصلا لنصنعها؟ من يخاطبون المرأة بنجاح هم أرباب المنتجات وليس أرباب الفكر!

ونلاحظ أن الخطاب الديني للمرأة أصلا نفسه قليل! كأنه يقول للمرأة: أنت على خير, أكملي, قومي بالقليل مثل كذا وكذا ولا تحتاجين أكثر من هذا! والخطاب الفكري كذلك يقدم لها خطابا متماثلاً مع خطاب الرجل! فهل تمت مراعاة الفوارق؟!

ومن ثم فإن خطوة أولى في هذا المجال لا بد أن تقوم على إعادة قراءة الإنسان واستكشافه من خلال المعنين بالعلوم الإنسانية, باستقلالية عن النظريات الغربية الموجودة, لا يعني هذا أننا نُخطئها كلها, وإنما نضعه موضع الاختبار, بدلاً من التسليم والتقديس

وكذلك فإنني شخصيا أدعو إلى ظهور فقه جديد “فقه الإنسان”, والقائم على فهم النصوص الشرعية من خلال المكونات والاحتياجات والأدوار الإنسانية الكبرى, وليس من خلال القواعد الأصولية والتعميمات والتخصيصات والتأطيرات والتعطيلات, باختصار نقول: إن ما ينبغي التحاكم إليه بعد آية الله الثانية: القرآن, هو آية الله الأولى والكبرى: الإنسان!

إن مشكلة الإنسان, الذي تتصارعه العديد من الجهات التي ترغب في وتعمل على “تصنيعه”, أن منطلقات هذه الجهات مختلفة, فمنطلق بعضها هو التربح من الإنسان أو إخضاعه, وهؤلاء لا يعنون أصلا بإصلاح الإنسان, بله المحافظة على حياته!! ومنطلق بعضها هو أفكار ومبادئ فكرية أو فلسفية أو دينية, يرون أنها هي الصحيحة, ومن ثم يحاولون إنزالها على الإنسان!!

وللأسف الشديد فإن الناس على دين إعلامهم .. والآنية الفارغة هي ما تُملأ, بينما الآنية المملوءة مثل أصحاب الفكر والدين والقناعات من الصعب أن يكونوا على دين ملوكهم, إنما للأسف الشديد النصيب الأكبر من الشعب غالباً ما تكون فارغة وهي ما يملأها الإعلام والسلطان ويحركها الواقع

بينما أصحاب “القناعات” هم النواة الصلبة التي تعطي المجتمع ثباتا, والتي تقاوم موجات التغيير والتشكيل وتعطي المجتمع ملامحه الواضحة! وهم من علينا دعمهم والاهتمام بهم, كما أن علينا سن قوانين وتشريعات تكبل يد الإعلام الطليقة, وبعبارة أدق: المؤسسات الاقتصادية المتحكمة فيها والموجهة لها, بما يصب في مصلحة الفرد وليس في مصلحة الدولة.

بينما لو انطلق الإنسان من فطرته (وليس: هواه), مستفتياً قلبه وإن أفتاه الناس وأفتوه, ولو انطلق رجال الدين والمصلحون من الفطرة الإنسانية, من المشترك الإنساني العام, الموجود عند البشر في جميع الأعصار والأمصار, وجعلوها هي المقياس الذي يقاس به الصحة من الصواب, المناسبة من غيابها, الاحتياج من عدمه, لاختلف الحال كثيراً, وهذا ما أود أن أختم به:

إن منهج صناعة الإنسان يجب أن ينطلق من الفطرة, أن يصغي لها, ينتبه إلى احتياجاتها, يعمل على تلبيتها, أو الحوار معها لا الصدام معها! على تقديم منظومة قيمية جديدة نابعة من الفطرة الإنسانية, وهذه الصناعة الضخمة المستمرة ستحتاج إلى العديد والعديد من المشاركين ومن الأدوات

ومن أهم هذه الأدوات, وسائل الإعلام التي ينبغي على “المصنعين” أن يضعوها كمكون أساسي في أي برنامج تزكوي إنساني, لا أن يتجنبوها ويتركوها .. فوسائل الإعلام .. فيها نفع كبير وأذى للناس .. ونفعها أكبر من أذاها .. ونورها أسطع من جهلاتها.

واختم بما بدأت الحديث عنه بقولي:
إن عملية صناعة الإنسان محفوفة بالنواقص ومكتوب عليها الانقطاع والهدم بدرجة من الدرجات, ولكن الوصول إلى أعلى درجات الكمال في أفراد قلائل كفيل بتغير حال أمم ومجتمعات, فالله لم يصنع سيدنا موسى هكذا عبثاً, وإنما صنعه تنفيذا لإرادته المن على الذين استضعفوا في الأرض, فلقد صنعه ليجعل المستضعفين أئمة ويجعلهم الوارثين ويمكن لهم في الأرض ..

وكل هذا بفعل إنسان وليس بريح مهلكة ولا مياه مغرقة, وهو –موسى- وإن مات قبل أن يرى هذا الهدف بعينه يتحقق, فإن الغاية تحققت في الجيل والأجيال التالية … فلكل منا أدوار, فمنا البذرة ومنا الغصن ومنا الثمرة .. والفاصل أن يرى كلٌ منه نفسه ويبصر مكانه ويعي حجمه ويدرك دوره.. فماذا يستفيد الإنسان المعاصر إن ربح العالم وخسر نفسه.


والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.