حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن إشكالية كبرى يقع فيها كثير من أنصار التوجه الإسلامي وهي إشكالية “التراثية” أو التأريخية!
فالقارئ في أدبيات الإسلاميين يجد أنهم ما يفتأون ينادون بإقامة الدولة الإسلامية, والعودة إلى التحاكم إلى كتاب الله واتخاذه منهجا ودستورا!
وهي دعوة لا غبار عليها, وهي الأصل في حال أمة مخرجة للناس, مأمورة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!
ولكن الإشكال الكبير نجده عندما نعرض لتفاصيل تصور الإسلاميين للدولة الإسلامية, فنجد أن تصور أكثرهم للدولة الإسلامية يمكن تسميته بدون تجن ولا ظلم: ” الدولة التاريخية التراثية”!
وذلك لأنه ليس لدى الكثير منهم تصوره الخاص عن الدين, والذي يُفترض استخراجه من الكتاب الأصل “القرآن”, وإنما لديهم تصور مأخوذ من كتب التاريخ!
فإذا كان حال المسلمين في عصور صدر الإسلام كذا وكذا … فعلينا أن نقتدي بهم لننشأ دولة إسلامية!
فنجد أن كثيرا يحاربون الثياب التي نرتديها في عصرنا هذا! –ونحن وإن كنا ندعو إلى التمسك بالثياب العربية وإلى جعلها القاعدة وليس الاستثناء- إلا أننا لا نجعلها من الأمور الفاصلة, ولا من المسائل المتعلقة بحل أو حرمة! ولا من لوازم الدولة الإسلامية, فلا يعني قيامها أن يتجلبب الناس ويتعمموا … كما يظن بعض .. وغير الإسلاميين!
ولا يعني قيامها أن تقوم دولة الخلافة! فلا يعني أن الحكومة الإسلامية بعد الرسول تكونت بهذا الشكل أن تصبح هي الحل الأنجع طيلة العصور!
(والذي لا يعرفه أكثر المسلمين هو أن الخوارج قدموا منذ العقود الأولى للإسلام تصورا شوريا للحكم, وطبقوه على أرض الواقع- لم نجد قريبا منه –وليس مثيلا له- إلا في زماننا هذا)
إن الإسلاميين يقدمون في عصرنا هذا نماذج لما يظنونه التطبيق الإسلامي أو البديل الإسلامي, فإذا أخذنا الجانب الترفيهي نموذجا وجدنا أن الأناشيد الإسلامية هي الأناشيد الدينية والمتعلقة بالأخلاق الحميدة! والأدب الإسلامي يدور كذلك في نفس النطاق! ونغض الطرف عن الطُرف الإسلامية فهي تكاد تكون محصورة في الشعبي وجحا وما شابه من الشخصيات القديمة!!
المشكلة أن كثيرا من الإسلاميين يظنون أن عليهم تقديم بديل لشامل لجل –إن لم يكن كل- المطروح على الساحة, فلا بد من تقديم البديل الإسلامي! والذي يجعل الحياة كلها خاضعة للدين!
وينسى هؤلاء أن كثيرا من الموجود على الساحة فعلا هو “إسلامي” ولا يحتاج إلى الجلببة أو التسمية باسم تراثي ليصير إسلاميا!!
إن مصطلح الدولة الإسلامية يعني أن تكون الدولة مسلمة لله, أي خاضعة لأوامره التي أمر بها في كتابه, فلا تخالفه ولا تعطله! وتتحرك به وله, وتقدم بنفسها لغيرها الصورة التي تعرفها بالإسلام! فهي بأعمالها وإنجازاتها أكبر داع ومعرف بالإسلام بشكل غير مباشر قبل أن يكون مباشراً!
ولا يعني هذا في عين الوقت أن تكتسب كل أوامر وأحكام الدولة الصبغة الدينية, فالدين لم يأت إلا إطارا منظما, لنتحرك في نطاقه, وليس خطوطا مستقيمة علينا ألا نحيد عنها! وفي نطاق هذا الإطار هناك ما يسمى ب: منطقة العفو –وهي التي ترك المشرع العليم لنا حرية الحركة فيها- بحيث تكون منسجمة مع باقي الأوامر فلا تناقضها ولا نخرج من الإطار العام!
ومنطقة العفو في الدين كبيرة جدا, تركها الله العليم لنا, لتصرف كل أمة أمور حياتها تبعا لظروفها!!
وشتان بين الدولة الإسلامية والدولة الدينية, فالدولة الإسلامية هي دولة تنظم أمور الناس الدنيوية, بينما الدولة الدينية هي التي تجعل كل حياة الناس دينا!
ولو عدنا إلى الجانب الترفيهي والذي أخذناه نموذجا لظهر لنا الفارق:
فالأغاني الإسلامية الحالية هي تابعة للتصور الديني, فجلها يتحدث عن الدين وعن الإنسان الصالح, وعن علاقته بربه …
ونحن وإن كنا ندعو إلى تزكية هذه الجوانب إلا أننا نتساءل: أين الجانب الإنساني؟ أين الأغاني أو الروايات التي تتحدث عن المشاعر الإنسانية النبيلة وعن المشاكل الاجتماعية …. بل وعن التناقضات الموجودة في حياتنا …. والتي قد تقدمها في شكل طريف مضحك؟!
لماذا لا ننشأ أدبا معاصرة, وشخصيات ونماذج من واقعنا المعاصر, لماذا يكون الإسلامي دوما مرتبطا بالقديم؟!
ولا يعني في عين الوقت أن نجعل عملية الأسلمة مجرد تغيير للغلاف الخارجي, فنقدم عين الشيء بشكل ديني!
(كما يفعل بعض أفراد جماعة الإخوان المسلمين, والذين يأخذون لحن ونغمة الأغاني الناجحة فيغيرون كلماتها ويجعلونها عن الدين! ولست أدري كيف تستقيم السرقة مع الدعوة إلى الالتزام والتمسك بالدين!!!!!!)
إن كثيرا من المسلمين يخشون قيام الدولة الإسلامية (وإن كانوا لا يرفضونها ويتمنون قيامها في عين الوقت!!)
وذلك لظنهم أن الدولة الإسلامية هي الدولة السلفية أو التراثية! تلك الدولة التي ستضيق على الناس في كثير من جوانب حياتهم –خاصة الجانب الترفيهي- بالإضافة إلى كثير من التعنات الشكلية والتي يظنون أنهم سيلزمون بها, على الرغم من عدم حاجتهم إليها!!
وهذا التصور مأخوذ من قراءتهم لدعاوى الإسلاميين ومن النماذج التي يقدمونها للحياة في المجتمع الإسلامي!!
إن الذي علينا أن نعيه جيدا أن المجتمع الإسلامي مجتمع عادي مثل أي مجتمع, ولو أخذنا المجتمع الإسلامي في زمان الرسول لوجدناه خير مثال للمجتمع الإسلامي الإنساني, ففي ذلك المجتمع كان يعيش المسلمون مع النصارى واليهود والمشركون! كل في حاله …. وعلى دينه!
لكل مسعاه الذي يسعى له, فليس هناك زي موحد!! وعلى الرغم من انشغال الناس بالدين, وقتالهم من أجلهم ودفاعهم عنه وعن أنفسهم, إلا أنهم كانوا يعيشون حياتهم الطبيعية, فيسمرون …. ويغنون ويدقون في الأفراح …. وفي أثناء سفرهم ينشدون للإبل …. وبالتأكيد لم تكن أغانيهم في سمرهم وأفراحهم ولا حدوهم للإبل دينيا .. وإنما كانت كلماته المستقاه من بيئتهم!
وعندما استمع الرسول الكريم إلى الجاريتين اللتين كانتا تغنيان عن السيدة عائشة لم يقل شيئا ولم يعترض إلا على: وفينا نبي يعلم ما في غد! فنفى أن يكون يعلم الغيب! وأمرهم أن يقولوا كل ما يقولونه إلا هذه الجزئية!!
وكما رأينا فلم يكن ترفيههم دينيا ولم يتدخل الرسول فيه, وإنما نهاهم عن المغالاة فيه وعن قول غير الحق!
وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الترفيه والمرح في الدولة الإسلامية!!
نعطي الناس الحرية ليكونوا ما يكونوا … منطوين تحت لواء الله وشرعه!
فالدين لم يأت ليجعل الناس كلهم قالبا واحدا, وإنما لينظم لهم حرية اختيار القوالب التي يكونونها والتي يحيون بها! وأرباب الدولة الدينية يظنون أن النموذج الإسلامي نموذج واحد … مكرور! وعليهم إقامته!
إن علينا في زماننا هذا, الذي ظهرت فيه الكثير والكثير من النماذج والتصورات للحياة أن نكف عن تقديم الإسلامي بأنه التراثي وعن جعل الإسلامي مساو للديني, وإنما أن نفهم الناس ونعرفهم أن الإسلامي هو الخاضع لله على أي هيئة كان, وأن الذي يبدع في أي مجال غير مصادم للدين هو إسلامي.
علينا أن نفهمهم أن هناك الكثير من الأمور والأعمال الدنيوية والتي يحصل بها الإنسان المسلم على الدرجات العلى ويكون بفعلها مسلما صالحا, بعيدا عن الجانب الشعائري –ولا يعني هذا أننا ندعو لإهمال الشعائر أو التقليل من شأنها-
كما أن علينا أن نفهمهم أن كيفية القيام بالأعمال الصالحة في الآثار أو حتى الأحاديث النبوية لم تعد هي الوسيلة الأمثل!
فلم يعد إعطاء تمرات أو كسرات خبز هو ذلك العمل العظيم, ولا التنافس على إطعام صائم تمرة وسقيه شربة… سيصل إلى بيته بعد دقائق!
علينا أن نعي جيدا أن ظروف وأحوال مجتمعاتنا تختلف كثيرا عن مجتمع الرسول والتابعين …. فنأخذ من كلامهم العبرة والعظة وليس التطبيق النصي! فلم يعد الفردي التطوعي هو الحل الأمثل …. وإنما العمل المؤسساتي الجماعي!!
كما علينا أن نعرفهم أن الدولة الإسلامية هي المستخرجة من كتاب الله, وليس من كتب الفقهاء والأصوليين القدامى, فليس لهذه الكتب القداسة, وإنما هي اجتهادات بشرية مناسبة لعصورهم, وعلينا أن نجتهد نحن أيضا لنقدم أفضل التصورات …. الإسلامية … المناسبة لعصرنا!!
كما علنا أن نعرفهم أن الدولة الإسلامية لا تعني دولة إقامة الحدود, فكثير من المسلمين وغيرهم يظن أن إقامة الدولة الإسلامية يعني قطع يد السارق وجلد الزاني … وإقامة باقي الحدود! وهذا هو الفارق الذي يرونه بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية!!!
وينسى هؤلاء أن الدولة الإسلامية تختلف عن غيرها من باقي الدول هي دولة من أهم أدوارها تربية مواطنيها والعمل على نشر الأخلاق الحميدة بينهم!
فهذا هو الدور الأول لها والذي تتميز به عن غيرها! والذي يجب عليها القيام بها من أول يوم من قيامها, كصراط أساسي تلتزمه! ثم يأتي بعد ذلك بفترة مسألة تطبيق الحدود العقابية …. المحدودة جدا!! والتي ليس منها جلد شارب الخمر أو قتله بعد تكرار شربه عدة مرات, أو قتل الساحر أو رجم الزاني المحصن … الخ الحدود المنسوبة إلى الإسلام زورا وبهتانا!
قد يرى القارئ أننا ركزنا على الجانب الترفيهي بشكل كبير على الرغم من حديثنا عن الدولة الإسلامية والتصور الإسلامي, وهناك الكثير من الجوانب الأخرى التي تستحق التناول والعروض لها!
ونقول:
هذا التركيز راجع إلى أن هذا الجانب من أكثر الجوانب التي تثير قلق المسلمين ويتفكرون بشأنها, ماذا وكيف تكون عند قيام الدولة الإسلامية!
كما أنها من أبرز المظاهر المنسوبة إلى الإسلام, والتي نراها في أيامنا هذا, فعرضنا لنقول أنها ليست إلا تركيزا على جانب واحد, وأن ما عداها ليس بمحرم بل مطلوب بقدر!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!!